الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبيذ رمادي

خالد درويش

2008 / 3 / 6
الادب والفن



يوآنا، البولندية الشقراء ذات العينين الزرقاوين والجسد الضئيل، طالبة الآداب في جامعة صوفيا هي التي كانت معي في غابة الحرّية.
عند منتصف الليل يغلق السكن الجامعي أبوابه ولا يعود بمقدور ساكنيه أن يدخلوا. فاتنا الوقت لذا سنمشي في هذه الغابة حتى الصباح، وإن داهمنا النعاس ننام في بيوت الساحرة (بيوت صغيرة ملوّنة من الخشب للهو الأطفال).
"الشجعان فقط يحلمون أحلاماً ملوّنة"، قالت "يوآنا" وأخذت تصعد سلّماً خشبياً طويلاً الى أعلى الشجرة. أخذت "يوآنا" تتضاءل وهي تصعد مئات الدرجات على السلّم الطويل حتى صارت تبدو بحجم سنجاب.
"كفى يوآنا، كفى إيّاك أن تقعي!".
ناديتها، فجاءني صوتها من بين الأغصان العالية:
"هيا إتبعني سننام على هذا الغصن لنرى أحلاما ملونّة، هيّا!".
خشيت الصعود. كانت السلالم المنصوبة على الجذع العالي تتأرجح، وخشيت أن أرى الأشياء رمادية في منامي فأسقط في إمتحان الشجاعة.
كان طريق الغابة ضيّقاً وجميلاً وطويلاً ينتهي بشمس مغيب حمراء وكبيرة بشكل مدهش . أفلتت يوآنا يدها الصغيرة من يدي، وقفت وأمسكت جبينها بين سبابتها وإبهامها كمن فاجأته فكرة. أسبلت يدها وتحوّلت الى وداد-جارتنا في الحيّ الذي عشت فيه سنوات حياتي الأولى. سمراء ومكتنزة، ترتدي مريول الصف التاسع الأزرق وتحمل على ظهرها حقيبتها المدرسية. تمددت وداد على قارعة الطريق بين الأشجار وكانت الأرض مفروشة بطبقة سميكة وطريّة من ورق الخريف. تمددت بقربها وغفونا لنحلم. ظهرانا الى ورق الخريف ووجوهنا الى قبة السماء الهائلة المرصعة بالنجوم.
دخلت في منامي السوبرماركت الكبير في مدينة الطلبة بصوفيا. كان ثمة عدد كبير من الطلبة المتسوقين: روس وألمان وقبارصة وعرب وكوبيين وأفارقة وفيتناميين.
بحثت عن النبيذ، النبيذ الأحمر الذي لا لبس في لونه كي أتأكد من أنني أرى أحلاماً ملوّنة لم يكن ثمة نبيذ. لقد إستبدلوا النبيذ بقوارير المياه المعدنية صادفت "أيّا"، طالب الهندسة المعمارية النيجيري. ردّ على تحيّتي المقتضبة بضحكة مجلجلة. تقدّم مني، شبك ذراعه بذراعي وقال هامسا:
"تبحث عن النبيذ الأحمر، أليس كذلك!".
وافقته فقادني الى زاوية محاذية للباب الخلفي للمتجر كانت مخصّصة لبيع معلّبات طعام الكلاب والقطط.
كان النبيذ داخل صناديق من الكرتون مكتوب عليها بخطّ هندسيّ منمّق: "نبيذ أحمر". فتحت واحدا من الصناديق المكدّسة على الرفوف وتناولت منه زجاجة كتب عليها بنفس الخطّ الهندسي: "نبيذ أحمر"، ولكن، يا لخيبتي! كان السائل في الزجاجة بلون رمادي. تناولت أخرى وأخرى وكان السائل في جميعها رمادياً فشعرت بالقهر والاحباط.
على مقربة منّي انهمك عمال المتجر برفع بعض صناديق النبيذ الى كوّة في أعلى الجدار ليتناولها عمّال آخرون في الخارج ويكدّسونها في شاحنة صغيرة على الرصيف.
"ألا يوجد هنا نبيذ أحمر؟"، سألت أحد العمّال، فردّ عليّ باقتضاب وعفوية:
"النبيذ الرمادي يستعيد لونه في الجهة الأخرى من الجدار".
غادرت السوبرماركت متّجها الى الشاحنة العارمة بالصناديق. حال وصولي شغّل السائق محرّك شاحنته التي أخذت تغادر بتثاقل. تبعتها مهرولا، تسلّقت عارضة بابها الخلفيّ رفعت الغطاء الجلدي الذي كان يجلّل البضاعة وحاولت فتح أحد الصناديق فلم أفلح لأنّها كانت مغلقة بإحكام. كرّرت المحاولة دون جدوى.
ما ان انتهت العمارات والبيوت حتى أخذت الشاحنة تسير بسرعة بين الحقول التي إزدانت بالأزهار الملوّنة. رأيت المارغريت الأبيض والأقحوان الأزرق، رأيت الحنّون القاني وأزهار أشجار اللوز... ولكنّي كنت مكتئبا لأنني لم أتمكّن من رؤية لون النبيذ الأحمر في الصناديق المغلقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-