الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في السياسة والأدب(1)

سهر العامري

2008 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


حين بلغنا السنة السادسة من الدراسة في مدرسة الفهود الإبتدائية التي أسست سنة 1932م لم يكن أمامنا من مصدر ثقافي سوى الراديو والكتاب المدرسي القديم الذي تبدل في بعض فروعه غبّ نجاح ثورة الرابع عشر من شهرتموز سنة 1958م . وقد كنا قبل هذا التاريخ ننشد الأناشيد التي تمجد الملك والعائلة المالكة في العراق ، وقد كان من بين هذه الأناشيد نشيد :

مليكنا مليكنا .... نفديك بالأرواح !
أو :
عبد الإله الوصي .... سرّ تفانينا !

أو نشيد تحية العلم الذي ينشده أحد الطلاب في كل يوم خميس من السنة الدراسية بعد أن يرفع ذلك العلم على سارية تتوسط طلاب المدرسة المصطفين مع معلميهم بخشوع على جوانب ساحة المدرسة الترابية التي تطل عليها الغرف الدراسية . ومن بين هؤلاء الطلاب يخرج طالب المذكور ويقف قبالة ذلك العلم لينشد :

عشْ هكذا في علوّ أيها العلمُ.... فإننا بك بعد الله نعتصمُ

ثم بعد انتهاء هذه المراسم يفسح المجال للطلاب من أصحاب المواهب الشعرية المتواضعة بإلقاء قصائدهم بعد أن يتمّ تنسيق ذلك مع أحد المعلمين المكلفين بهذه المهمة من قبل ، حيث يقوم هذا المعلم بمراجعة تلك القصائد ، ليمنحها فيما بعد القبول والموافق أو الرفض .
في واحد من أيام الخميس هذه ألقيت قصيدتي الأولى التي كان موضوعها تهنئة بنجاح ثورة تموز ، ومن ساعتها صرت أكتب بعض القصائد الشعبية وأرسلها الى الإذاعة العراقية في بغداد ، والى برنامج ركن الشعر الشعبي الذي كان يعده الشاعر زاهد محمد ويقدمه ، وقد بقيت على هذه الحالة سنة أو سنتين تحولت بعدها الى كتابة بعض القصائد في الشعر الحر ، وكنت وقتها في الصف الثاني من متوسطة الجمهورية في مدينة الناصرية ، والتي كان طلابها يناوبون طلاب إعدادية الناصرية في بنايتها الواقعة أمام المستشفى الجمهوري من تلك المدينة .
وفي هذه السنة الدراسية حدث انقلاب شباط الأسود ‘ فقمت أنا وبعض الطلاب من أبناء ناحية الفهود بكتابة منشورات تندد بذلك الانقلاب ، مثلما كانت تندد بقتل الزعيم عبد الكريم قاسم ، وقد قمنا بعد كتابتها بإلصاقها على أبواب البيوت والدكاكين في تلك المدينة ، وكذلك بعض الدوائر الحكومية .
كنت أنا من حرر نص المنشور القصير ، ولم يشاركني أحد في إنشائه ، وإنما شاركني الآخرون في كتابته ، ومنهم المعلم فيما بعد رشاد حسيين ، وأخوه المرحوم جهاد حسيين الذي كان عريفا في الجيش العراقي ، أما الإثنان المتبقيان فقد ساهما بتوزيع المنشور فقط .
في تلك الأيام كنت قد قرأت الكثير من القصص البوليسية لأرسين لوبين التي كان يحملها ابن عم لي من بغداد ، فقد كان هو يتدرب فيها على تعلم استخدام الأجهزة اللاسلكية ، ليتخرج بعدها شرطيا في هذا الصنف ، وبعد أن قرأت الكثير من تلك القصص انتقلت بعدها الى عالم نجيب محفوظ ، هذا العالم الذي ما تخيلت أن أرى في يوم من الأيام ، وأنا ممد الجسد على قطعة من حشيش عند شاطئ من شواطيء الهور الفسيح ضحى ، وتحت ظلال نخيله الوارفة . من هذا المكان سرت في زقاق المدق ، ورأيت المعلم زيطة صانع العاهات ، كما طفت في شوارع الإسكندرية ، وسمعت سعيد مهران في ( اللص والكلاب ) ينادي على اللصوص : إن ما أخذ بالسرقة لا يُسترد إلا بالسرقة ، تلك العبارة التي أخذها الرئيس عبد الناصر منه بعد خسارة العرب للحرب مع إسرائيل سنة 1967م بعد أن بدل عبد الناصر كلمة واحدة منها فقال : إن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة !
لقد خمُلت عبارة نجيب محفوظ التي سطرها في قصته : اللص والكلاب ، ولم يلتفت لها أحد إلا أولئك الذين مرت عليهم مرور الكرام ، وهم يقرؤون تلك القصة ، بينما ذاعت عبارة عبد الناصر على ألسنة الناس ، وسُطرت على صفحات المجلات والجرائد ، ونطقت بها أفواه الإذاعات الكثيرة. وبهذه الماكنة الإعلامية الضخمة اشتهرت عبارة عبد الناصر بينما سكت الجميع عن الإشارة الى أبيها الشرعي ، نجيب محفوظ ، والذي لم يكن بمقدوره هو أن يشير لها كذلك .
من هذا العالم ولد نص المنشور الذي أشرت له من قبل ، والذي كان على قصره قد أرعب شرطة المدينة ليلتها ، فراحت تطارد كل من يريد قراءته ، وفي حمى حرب ضروس كانت تدور رحاها في شوارع مدن العراق ، تلك الحرب التي أشعلت نيرانها شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق ، وبمباركة من المخابرات الأمريكية ، وشاه إيران ، وبعض رجال الدين ، والمتشدقين بالقومية العربية الذين ركبوا بالقطار الأمريكي ، وصولا الى سفح دماء الفقراء من العراق ، ودفن ثورة 14 تموز المباركة .
كنت أنا قد قرأت للمرة الأولى ، وقبل حدوث انقلاب شباط سنة 1963م بشهور منشورا صادر عن الحزب الشيوعي يتحدث بجدية مفرطة عن مؤامرة تعد لها شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق تهدف الى الإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم عقابا لها على قانون رقم 80 الذي استرد فيه العراق ملكية الثروة النفطية من براثن تلك الشركات ، وكان المنشور هذا يقرر حقيقة واقعة ، ولكنها لم تزل في بطون القادم من الأيام . والذي أطلعني على هذا المنشور هو المعلم كاظم داود سلمان وذلك بعد عودتي من الامتحان العام لمرحلة الدراسة الإبتدائية الذي أديته مع بقية طلاب الصف السادس الإبتدائي من مدرسة الفهود الإبتدائية في مدينة سوق الشيوخ حيث تعرضنا نحن طلاب تلك المدرسة الى حملة مطاردة من قبل بعض العناصر البعثية وبالتعاون مع الشرطة في أواخر زمن عبد الكريم ، وكنا إذا ما سرنا في شارع من شوارع تلك المدينة هتفوا وراءنا : أحمر ، أحمر اشارة الى أننا شيوعيون مع أنه لم يكن أي واحد منا شيوعيا وقتها. وبالإضافة الى هذه الملاحقات قامت شرطة مدينة سوق الشيوخ باعتقال أحد زملائنا ليلا ، وهو الطالب حسين موازي جابر وأودعته السجن ، ولكن مدير القاعة الامتحانية رفض في صبيحة تلك الليلة الاستمرار بالامتحانات ما لم تطلق الشرطة سراح زميلنا فورا ، وذلك من أجل أن يؤدي امتحانه مثل بقية الطلبة . ولهذا تأخر توزيع الأسئلة الامتحانية لمادة اللغة الإنجليزية على جميع الطلاب لمدة ساعة تقريبا ، علما أن القاعة تلك كان تضم طلاب الصفوف المنتهية لثلاثة مدارس ابتدائية هي الفهود والبطائح والأحرار ، وكان سبب اعتقال زميلنا حسين موازي جابر هو اشتراكه مع بعض الطلاب من صفنا مساء بضرب المعلم جواد رسن الذي اعتدى على المعلم المرافق لنا يحيى جابر . وكان ممن اشترك معه في ضرب المعلم المذكور أخوه زكي موازي جابر وجهاد حسيين الذي توارى عن عيون الشرطة في أزقة قرية مظلمة قريبة من مدرسة الإسماعلية التي كنا ننام في صف من صفوفها ، كما استطعت أنا ومعي طالبان آخران هما عبد الأمير إبراهيم وموسى عمران من إخفاء زكي موازي جابر في نفس الصف الذي ننام فيه بعد أن غطيناه ببطانية ومن ثم جلسنا عليها وعليه ، ولهذا لم تعتقل الشرطة ليلتها سوى زميلنا حسين بعد أن أشبع المعلم جواد رسن ، الذي يقال عنه أنه كان بعثيا ، ضربا مبرحا بقائم سميك لأحد المقاعد التي يجلس عليها الطلاب بعد أن خلعه من ذلك المقعد ( الرَحلة ) . وقد شاهدت انا ليلتها كيف كان المعلم جواد رسن ممسكا بظهره من شدة الضرب ويقول للشرطة : اعتقلوا أبناء موازي !
فور عودتي من هذا الامتحان اعتقلت أنا من قبل الشرطة في ناحية الفهود زمن عبد الكريم قاسم ، وفي سن تجاوز الثانية عشرة من السنين قليلا ، وكنت أصغر المعتقلين من بين خمسة وعشرين معتقلا ، كما اعتقل كذلك المعلم كاظم داود سلمان ومعلما من أهالي الناصرية لا أعرف اسمه ، كان قد حمل بريدا حزبيا لمنظمة الحزب الشيوعي في مدينة الفهود ، وقد التقيت أنا هذا المعلم فيما بعد في سجن الأحكام الطويلة في مدينة الناصرية في اعتقالي الثاني بعد انقلاب شباط الأسود الذي صار حقيقة لا يمكن نكرانها الآن .وقد سألني المعلم المذكور في عتمة الليل ذلك السجن ، ومن خلال نافذة زنزانته عن مصير رفيقه كاظم داود سلمان ، فأخبرته بأنه نقل الى سجن نقرة السلمان الصحراوي .
كان منشور الحزب الشيوعي المشار إليه ، والذي تحدث زمن عبد الكريم قاسم عن انقلاب شباط ، قد صار حقيقة مثلما ذكرت ذلك من قبل ، حيث سالت فيه دماء كثيرة وبمجازر وحشية ارتكبتها حفنة من العراقيين الذين باعوا أنفسهم لأمريكا ولشاه إيران ، وبمباركة من بعض رجال الدين وبعض من العرب ، ولكن تلك المجازر على فظاعتها تتضاءل أمام فظاعة الجرائم التي ترتكب اليوم بحق العراقيين ومن ذات الأطراف الأجنبية التي وقفت وراء مجازر شباط 1963م ، كما أن رجال الدين لم يكتفوا بمباركتها هذه المرة بل بادروا للمساهمة فيها بشكل محموم مثلما ساهمت فيها أطراف عراقية وإيرانية وأمريكية وعربية كذلك.
أقول : بعد ذاك الانقلاب المشؤوم ظل الكثير من العراقيين ، ومن أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي يتساءلون : لماذا لم يبادر الحزب الى قطع الطريق على ذاك الانقلاب ؟ فالحزب كان يملك قوة ضاربة في الجيش العراقي ، قدرها قيادي في الحزب هو ثابت حبيب العاني بـ 1700 ضابط ، وبثلاثة آلاف جندي وضابط صف ، هذا بالإضافة الى القاعدة الجماهيرية العريضة التي كان الحزب يتمتع بها دون سائر الأحزاب العراقية . كما يثار في هذا الصدد سؤال آخر هو : لماذا لم يبادر الحزب على أقل تقدير الى حماية منظماته وكوادره وهو يعلم أن الانقلاب الفاشي واقع ، ولا ريب في ذلك ؟
هذا السؤالان لم يجدا للان من يجيب عليهما إجابة شافية ، مقنعة سوى تلك التبريرات التي لم تصل الى حقيقة الجريمة الرهيبة التي ارتكبت بحق الحزب والشعب ، وهي تبريرات لن تعفي قيادة الحزب من مسؤولية ما تعرض له الحزب ، قيادة وقواعد ، من ضربة قاسية ومريرة ظلت آثارها قائمة للساعة .
قبيل وقوع ذاك الإنقلاب بمدة ليس بالقصيرة انطلقت أصوات عالية قادمة من القواعد الحزبية ، كانت تلح على قيادة الحزب بضرورة استلام السلطة في العراق عن طريق الضباط الشيوعيين الكبار ، والذين كان بعضهم أعضاء في اللجنة المركزية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر : العقيد فاضل عباس المهداوي الذي هتف بحياة الحزب ساعة إعدامه في محطة الإذاعة العراقية مع عبد الكريم قاسم .
لنسمع الشاعر الشعبي الشيوعي مجيد جاسم الخيون كيف كان ينادى القيادة علنا باستلام السلطة ، وكان هو واحد من بين القواعد التي كانت تريد من قيادة الحزب أن تحسم أمرها في تحقيق هذا الهدف . يقول مجيد وهو يوجه الخطاب للمهداوي :

گلوبنه انطرت يمهداوينه
زمر مأجوره تلفق علينه
زمر مأجوره يبو عباسهه
شيل المطرگه وكسر راسهه
شيل المطرقه وخلها تصير إبير
إبير مظلم والحيايه إتدوسهه .

هذا في الناصرية اما قواعد الحزب في منطقة إعجيرش من دولة الكويت فكانت تهزج :

إعجيرش نزلت قطعه منلسوفيت اتكلم يلمهداوي اتكلم .

أبدا ، لقد أغلقت القيادة آذانها عن هذه الأصوات وغيرها حتى وقعت الواقعة ، فمات من مات ، وسجن من سجن ، وشرد من شرد ، وقد تخضرم بعض من الشيوعيين في السجون العراقية ، فقد سجنوا هم زمن الزعيم عبد الكريم قاسم ، وظلوا في السجن زمن حكام شركات النفط ، ثم زمن الأخويين عارف ، ومن خلال هذه التجربة المريرة وغيرها من التجارب صار لزاما على قواعد الحزب أن تراقب بحيطة وحذر عمل القيادة ، وأن تخضع للدرس والنقاش ما تتفوه فيه تلك القيادة بتصريحات قد لا تكون مسؤولة أبدا ، فقيادة الحزب صرحت في فترة من فترات نضال الحزب دونما احترام لمشاعر القاعدة الحزبية حين قالت : إننا سنبي الاشتراكية سوية مع حلفائنا في الجبهة ! ( يتبع )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ctمقتل فلسطينيين في قصف جوي إسرائيلي استهدف منزلا وسط رفح


.. المستشفى الميداني الإماراتي في رفح ينظم حملة جديدة للتبرع با




.. تصاعد وتيرة المواجهات بين إسرائيل وحزب الله وسلسلة غارات على


.. أكسيوس: الرئيس الأميركي يحمل -يحيى السنوار- مسؤولية فشل المف




.. الجزيرة ترصد وصول أول قافلة شاحنات إلى الرصيف البحري بشمال ق