الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راسم الجميلي.. ذكريات وانطباعات من شارع المتنبي

مازن لطيف علي

2008 / 3 / 7
الادب والفن


صدمنا حال سماعنا خبر وفاة الفنان الساخر راسم الجميلي ، الذي رسم البسمة على شفاه العراقيين ولم يجلب غير السرور للخواطر المتعبة والفرح حتى في أحلك الظروف، فمن منا لا يتذكر شخصية (أبو ضوية) البغدادي، العفوي الفطري الطيب ،تلك الشخصية التي كرستها ملامحه الطيبة وهيئته و تصرفاته وأخلاقه التي كانت تتماهى وتسترسل بإنسياب بين صوبي وعالمي الفن والحياة العامة.
هكذا عرفناه فنان بنكهة ونكته عراقية صرفة،ومازلت أحمل في خاطري ذكريات جمعتني به تعود الى عقود خلت ،حينما ألتقيته في شارع المتنبي ذلك المكان الذي مكث يشرأب الى بغداد المثقفة الأولى، وشكل بؤرة لتلاقح الأفكار بين قارئ وكتاب وبين قارئ وقارئ أومقرئ.وهكذا امسى ولوج المكان والشوق له ضرب من الهوس والإدمان ، ولاسيما الشغف في لقاء المتحابين في أروقته التعليمية وحلقاته الحوارية، ولايشذ الأمر عن لقائي وإدماني الحوار مع المرحوم راسم الجميلي ، حتى تحولت علاقتي به الى أبعد من متابع أو معجب أو مهتم الى حميمية كرستها بسمته العريضة التي كان يقابلني بها. وأمسى التلاقي في الشارع نوع من رواقية الشيخ والمريد، تسنى لي أن أكسب من خلالها ماتراكم لدى الجميلي من شجون التجارب ومشوق الخواطر ولطف السرد، وكم كان يسدي النصح والتسديد بصدد الكثير من الأمور المطروحة.
وهكذا أمست علاقتي بالجميلي تؤرخ لعلاقتي المشيمية مع هذا الشارع الهاجئ المضطرب ،الذي أصبح مؤشر لمناخات الثقافة، و بؤرة للتنوير ، بعدما عانى وعاند وعارك لعقود طوال النكوص الشمولي والرقابة على الوعي وشرطة الثقافة. كان لقائي بالجميلي كما الطالب والتلميذ حينما يتزاملا بعد سنين ويعملا في مدرسة واحدة ،فهو الباحث عما يمتعه ويحقق اهتماماته التراثية ،وأنا ممتنا لذلك ،حيث يكسبني تصيد الكتاب حوارات ممتعة فيها الجد والهزل تهون علينا ضنك ظروف الحروب العبثية و الحصارات. فكان فقيدنا غزير المعلومات ، سريع البديهة ويجد في كل مقال مقام للنكتة. لقد كان أبو علي طيب القلب ، لايعرف الحقد، وما كان في قلبه تسمعه على لسانه ،فطيبة روحة كانت توحي لي أحيانا أنه طفل كبير ذو حس مرهف ، لاتفارقه الدعابة الأخوية حتى في المواقف الحرجة. لقد أمسى بطبعه الدمث شعبي ومتشعب العلاقات ،فهو صديق الجميع ومرغوب من الكل.
لقد عشق بغداد وأهتم بكل ما سلف من حوادثها معاشة أو منقولة أو مكتوبة .وبالرغم من صفة الساخر في سجاياه، لكنه كان يحمل فكر وضمير إنساني، وكم أسمعني شكواه من هموم الناس وإنحيازه دون مواربة لقضاياهم وتألم لآلامهم .. كنت انتظر قدومه يوميا الى شارع المتنبي لكي أجد عنده الجديد دائما، فكل يوم محور وحوار،كان جلها عن بغداد وشجون الحياة فيها، و كانت حاضرة في عقله وقلبه وعلى لسانه . وكم شاركناه الإهتمام فيما كان يخطط له في إصدار موسوعة "البغداديون" ،وحاولت دائما أن أكون عون ونديم أدون أماليه، وجمع المصادر والمعلومات ولاسيما إبان جهده في الجزء الثاني من كتابه هذا الذي اتعبه كثيرا ،و لا اعرف اين مصيره اليوم . وقد شمل الكتاب بين حناياه الأحداث والخواطر وسير الشخوص والمعالم البغداديه والحكايا الشعبية الجادة والهزلية، وما تناقلته السوقة ولم تتسلل لصفحات الكتب بسبب غضاضة طرقها، ومنها الشخصيات الهامشية والمنسيون والصعاليب والزقاقيون وحتى رواد المواخير. وأتذكر في تلك الشجون اني اخبرته بإطلاعي على مخطوطة كتاب "الكنايات البغدادية البذيئة "لجلال الحنفي فدهش لانه طرق الأمر في احد فصول كتابه الثاني البغداديون "المخطوط" وتناول فيه الكنايات والامثال البغدادية البذيئة.ومن طرائفه وعلاماته أنه جاء بعيد سقوط السلطة البعثية الى شارع المتنبي وصاح بأعلى صوته الجهوري المألوف والمحبوب لدى روادها "ماكو بعد كتب ممنوعة من الان فصاعدا" وبدأ يذكر الكتب التي كانت ممنوعة وكأنه في مزاد نعيم الشطري الذي تربطه به علاقة محبة حميمة. وقد أسر صديقنا الدكتور علي ثويني الذي جمعته صدفة الجوار في السيدة زينب في دمشق ليخبره بأن هذه الموسوعة مازالت مخطوطة وهي كاملة و(نايمه على أفادي) ،وكان يتوق مخاطبة من يأخذ بيدها لكي ترى النور، وتشكل إحدى مراجع التراث الرصين والموسوعي.فترك أبو علي كل ذلك الجهد يندبة مثلما ترك عشيقته بغداد ومات محسورا ومكسورا.
وبالرغم من اقرارنا أن الموت حق وأن العراق ولاد ونضح متدفق يستدرك ما يفقده وينعتق بعد كل خراب، لكن تلك النومة والغياب السرمدي لبؤر الإبداع العراقي تؤرق وتحز في النفوس ، بعدما عانت من مناخات التخبط السياسي والإنتقالات العشوائية والتوجهات الجزافية للثقافة وسياساتها،وها نحن نرى جيل بعد جيل يشرد،وجماعات بعد أخرى تعتكف وتنزوي وتآثر الخلوة في وسط طيش الدنيا وضياع نصاب الموازين ، وها هو عاشق بغداد (أبو ضوية) الذي تركها مجبورا لامجبولا ،وقد سخر من الدنيا وأضحك الناس فمات حزينا غريبا في أوطأن تابعة لأهلها ، والأنكى أنه يدفن بأرض لم يعرف أنها ستضمه.
وهكذا فقدنا بالجميلي ذاتا ألمعية ومبدعا متميزا بالرغم من إقرارنا بأن ثقافتنا جماعية وتنأى عن الفردانية والذاتية، وهي طارقة للمضامين ومهملة للاشكال والتزويق ونابذة للخيلاء والألقاب ،و أنها لا تكرم أفذاذها بصروح و أنصاب. فليس من مبدعينا من سعى للقب طنان وجلهم عاش متواضعا متجملا في محيطه، حتى ضنه سذج الناس أنه ليس ذي شأن. وقد أثبتت التجارب ،وعلى محك ثقافات الدنيا بأن مبدعينا حرثوا بالصخر و صنعوا مشروعا نهضويا من ذات مهلهلة ودون سند ولا تبني من سلطات وجهات ودعم أصحاب حيثيات،و أنصاع أفذاذنا لسطوة الجغرافية ودحضوا مهازل التاريخ.
وعلى العكس من ذلك ومن باب المقارنة نجد عند الأشقاء في مصر مثلا جملة من ألقاب يعتدون بها كما: عميد الأدب وأمير الشعراء وكوكب الشرق وموسيقار الأجيال..الخ،على عكس مالدينا، فقد أنتقل مبدعينا الى بارئ الأرواح سبحانه تاركين الدنيا مثلما دخولها بهدوء ودون أنوار وتطبيل وقبور صرحية،تماشيا مع سجية ثقافة أوجدت يوما مقاما للزهد والتصوف والإعتزال دون خيلاء. اليس علي الوردي ومصطفى جواد وعبدالجبار عبدالله وطه باقر وبدر شاكر السياب يستاهلون أرفع الألقاب، لكنهم لم يسعوا إليها، مكتفين بنفوس عراقية راضية مرضية بما قدمت.وعسى أن نتعلم من تجارب الشعوب بما يدفعنا الى رعاية مبدعينا في الحياة قبل أن نفتقدهم ونندم على إهمالهم،ونتأسى على ضياعهم، فالشعوب تفخر بمبدعيها وما إزدهار الثقافة إلا رهن مساهماتهم. ولا نعلم أن كانت السلطة السياسة في عراق اليوم تعي هذا الأمر؟.
سلاما عليك وعلى روحك الطاهرة يا ابا علي حيثما ترقد في ترتبك الطاهرة ، وأمكث حزينا باكيا على فراقك الابدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-


.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق




.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا