الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهويمات تحققت بعد عشرين عاماً

تقي الوزان

2008 / 3 / 9
سيرة ذاتية


" كرجال " وادي حجري مرتفع شمال بيارة وطويلة في محافظة السليمانية , يتوسطه طريق حجري لايكفي في بعض مواقعه الا لعبور شخص واحد , او حيوان واحد , ينحدر الطريق الى اعالي مصيف وشلال احمد آوه.
كانت تتوزع على جانبيه مقرات بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي , والحزب الديمقراطي الكردستاني . وبعكس التوجه لأحمد آوه يصعد الطريق الى جبل ايراني ويهبط على مدينة ايرانية . كانت مواقع الجيش العراقي على الجبل اليمين وانت تتوجه الى احمد آوه , وعلى الجبل اليسار مدافع الجيش الايراني , وعندما يتم تبادل اطلاق النار بين الطرفين في المدفعية فأن الكثير من القنابل تسقط في ارض الحرام ( وادي كرجال ) . وفي الطريق النازل الى قرية احمد آوه بين اشجار المصيف , توجد منطقة طولها خمسين متراً مكشوفة لربايا الجيش العراقي وهي الاصعب في الاجتياز والوصول الى القرية , لانها مرصودة من قبل ربايا الجيش طيلة الاربع وعشرين ساعة , وسقط فيها شهداء وجرحى .

كان للحزب الشيوعي مقرين في كرجال . الاول مقر قاطع السليمانية ويتبع له ثلاثة بتاليونات ( افواج ) , الفوج التاسع ومقره باني شهر , ويشرف على قضاء سيد صادق ومركز المحافظة وبعض مناطق سهل شهرزور , وعنده ثلاث سرايا وفصيل مقر , والفوج الخامس عشر ومقره دربندخان ومناطق عمله تصل الى ديالى , والفوج السابع ومقره يبعد عن مقر القاطع ما يقارب مائتي متر , ولايمكن الوصول بين المقريين الا عبر الطريق في وسط الوادي , لوجود قطوع عمودية بدل السفوح بينهما .

كان القائد العسكري للفوج السابع الشهيد علي كلاشنكوف , وهو من القيادات الميدانية المعروفة ببسالتها في تاريخ البيشمركةالكردية . وبسبب المعيته ونشاطه غضب المستشار السياسي للفوج سلام على شقيق علي الصغير الخامل وسأله بعصبية : لك انت شنو عكس بلوعة ؟! وذهبت هذه التسمية عليه ونسي اسمه الحركي , ولانعرف اين هو الآن عكس بلوعة . وسلام ( يوسف هادي) من عائلة كظماوية شيوعية عريقة , وتجري في دمائه حمية الشهيد سعيد متروك الذي قاد مقاومة قطعان الحرس القومي عام 1963 في الكاظمية .

سلام الذي يعمل الآن في الدنمارك كان بين مجموعتنا الحميمة التي دعاها الرفيق كاوه . وكاوه من اهل البصرة , التحق بنا مؤخراً, اسمر طويل , خريج جامعة البصرة قسم الفلسفة , ودون الثلاثين عاماً . استلم عن طريق احد المعارف مبلغ جيد من اهله ليعينه على الخروج واكمال دراسته في الفلسفة الالمانية , ولانعرف هل تمكن من اكمال مشواره الدراسي ام لا. دعانا كاوه بمناسبة استلام المبلغ لحفلة صغيرة نشوي فيها الدجاج وثلاثة قناني من الخمر.
واخترنا مكان يليق بترف هذه الدعوة , وكان بجانب شلال احمد آوه الذي يدفع بمائه من علو ثلاثين متراً الى وسط غابة من الفواكه تقع في نهايتها قرية احمد آوه . كان الحزب يساعدنا شهرياً بعشرة دنانير كمصرف شخصي لكل نصير , وهي لاتكاد تكفي سكائر للمدخنين , ودعوة كاوه لها وزنها , وجبروتها في تحضير كل مستلزماتها بأختيار دقيق لاتتوفق في ممارسته مع اقرب الاحبة في الظرف الاعتيادي .

كنا اربعة مع كاوه لشراء مستلزمات الدعوة من القرية , يتقدمنا فاخر ( ملازم علي ) آمر سرية حلبجة في الفوج السابع , وتم انتخابه آمر للسرية من قبل الرفاق الاكراد وهو العربي الوحيد بينهم , لما يتمتع به من جرءة , وتخطيط عسكري اذهل السلطة وجحوشها في السليمانية , وكانت مفارز الجحوش تتحاشى الاصطدام بسريته وهم في عز قوتهم , ووضعوا جائزة كبيرة لمن يستطيع قتله . الاثنان الآخران كانا من اشد المتضررين عندما نمر بجانب محل للحلويات , وتتثاقل خطواتهم حالما يشاهدان صواني البقلاوة . احدهم ابو مناف اقترح على كاوه : البقلاوة طيبة بعد الشرب . اجاب كاوه : لابالعكس , الحلاه بعد الشرب تسبب التقيؤ . اكمل ابوحاتم : يا اخي هو عاجبة بقلاوة , وانت صاحب الدعوة . كاوه : آني على موده , أخاف يتقيأ ونصير فضيحة . ابو حاتم بعصبية : العن ابو موده , آني راح اشتريله . الا ان كاوه لم يحرك ساكناً , ابو حاتم التفت لابو مناف واشر له بيده ( ماكو فائدة ) .

ابو مناف ( سبهان ملا جياد ) تكريتي ابن تكريتي , كان مسؤول قوة مقر قاطع السليمانية . وبعد سقوط النظام اصدر صحيفة " القاسم المشترك " وبعدها موقع الكتروني بنفس الاسم . عند سماعي زواج ابو مناف من الرفيقة ( نغم ) , بعثت مع احد الريفيين رسالة وضعها في البريد الرسمي , معنونة الى اذاعة بغداد قسم مايطلبه المستمعون اطلب فيها اغنية " آني المسيجينة " , واهدائها : من ابراهيم صوفي في قاطع السليمانية الى ابو مناف في قاطع بهدنان بمناسبة زواجه . والرفيق ابراهيم صوفي ( ابو تاره ) المسؤول العسكري لقاطع السليمانية , ويرغب ان يجد نقيصة علينا, فكيف ان وجدنا في حالة سكر , وهي من الكبائر في الانصار , في الوقت الحالي هو مسؤول السليمانية وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني . ولا اعرف هل ان اذاعتها من اذاعة بغداد كان الغرض منه استدراجنا لامكانية استخدام وسائل الاتصال الحكومية بهذه السهولة للايقاع بنا في مسائل اكبر , ام اذاعتها كان طبيعياً , لان لايوجد في قواطع الجيش قاطع باسم بهدنان . المهم ان سبهان ملا جياد ضحك كثيراً عند سماعها من الاذاعة , ولم يتهم غيري بها . عرفت هذا بعد ثمانية عشر عاماً عندما التقينا بعد سقوط النظام , وسبق لهم الخروج ( هو وزوجته وابنه الذي ولد في السجن ) من زنزانات انتظار تنفيذ حكم الاعدام بعد ان قضيا فيها عدة سنوات نتيجة القاء القبض عليهما وهما يعملان في اعادة تنظيمات ( الداخل ) للحزب الشيوعي العراقي .
والآخر ابو حاتم ( مناف الاعسم ) يمتلك لحد الآن رقم قياسي عراقي باسمه في السباحة الحرة . كان آمر فصيل ويحمل سلاح RBK ومعها ثلاثة مخازن , لايستطيع حملها الانسان الاعتيادي , وكان يدعي انه لايسمع لانفجار قذيفة هاون قربه مزقت طبلة اذنه , ولكنه يسمع صراخ النمل كما يقول ( المثل العراقي ) , ولايسمع الا ما يرغب بسماعه , ويتكلم بطلاقة اربعة لغات ( عربي , انكليزي , كردي , فارسي ) .

كاوه كان كريماً , وابتاع كل ما نحتاج اليه , وقد اشترى كيلو ( لقم ) بدل البقلاوة التي اعيد فتح موضوعها . اخذنا نتسلى باللقم ونحن نتوجه للمكان المتفق عليه لاحياء احتفالنا البسيط بجانب الشلال . سرعان ما وصلنا ووجدنا في انتظارنا سلام ومنير . جمعنا حطب يابس لايقاد النار , وعملنا اسياخ من اغصان رفيعة اقتطعناها من الاشجار لشي قطع الدجاج , الكل يعمل بهمة , ولم تمضي ربع ساعة حتى اكتمل كل شئ , واخذت الكؤوس تدور , وكلمات المجاملة تلطف الجو وتحث للتحدث عن الرغبات والآمال , وكشف بعض الاسرار المكشوفة اصلاً واهميتها بسبب تأثير شرب بعض الكؤوس . كان العرفان يفيض من الكلام , خاصة لكاوه وموقفه النبيل بهذه الدعوة , وشرح ابو حاتم لسلام ومنير حجم المبلغ الذي صرفه العزيز كاوه , وكاوه اخذ يبالغ بالاريحية والبرمكلغية , و يشعر بأمتلاء جربته اكثر من الآخرين .

كانت حفلتنا هذه في نهاية نيسان عام 1984 , الجو في المصيف في احسن حالاته , واكتمل تفتح البراعم والزهور , ورائحة تدفق الحياة تملئ الوجدان بالوجود . تذكرنا آلام ومأسي ضربة البعث للحزب وقد مضى عليها خمسة سنوات , واخذ البعض يصف معاناته في وقتها , وكيفية تخلصه من تلك الكوابيس الجهنمية ووصوله الى كردستان . كانت قصة سلام اكثر ايلاماً من الآخرين , حيث القي القبض عليه ومعه اثنان من رفاقه وهم في طريقهم الى السليمانية , واودع في الامن العامة لعدة اشهر , ذاقوا خلالها مختلف اصناف التعذيب , وبعد اصرارهم على انهم كانوا في سفرة اعتيادية الى السليمانية اطلق سراحهم . واعادوا الكرّة ثانية , ونجحت هذه المرّة .

كان منير مولعاً بالسيارات , ولا يزال , يمتلك الآن مطعماً في مدينة مالمو السويدية , وكان مع شقيقه قبل ضربة الحزب في عام 1978 يملك معرضاً للسيارات في الاعظمية . كان حاله كحال الآخرين , يعتقد ان وجودنا في الانصار مسألة وقتية , ولابد ان ينتهي صدام بأسرع وقت . خاصة وان خسائر جيشه مع الجيش الايراني اخذت بالازدياد , وحدثت عدة انهيارات كان اهمها انهيار جبهة العمارة ( الشوش ) , والهروب المخزي لجيش صدام حتى دخوله ( الفتحة ) العراقية المقابلة لمدينة العمارة . كان للشرب تأثيره في زيادة مناسيب الرغبة في سقوط صدام , وتخيل منير ان يذاع الآن نبأ هذا السقوط , وما علينا الا ان نذهب الى احمد آوه ونركب سيارة لاندروفر الى حلبجة , ومنها نأخذ سيارة تويوتا موديل 80 حديثة , ويؤكد منير انه خلال ثلاث ساعات سنكون في بغداد .

سلام كان يبدو عليه انه كان صاحياً , ومن طريقة كلامه ناقش الصعوبات بكل جدية , واعترض على منير كون السيارة لاتحمل الا ستة راكبين ونحن سبعة , فكيف سيحل هذا الاشكال ؟! واصر سلام على ان لايذهب الى بغداد بدون حل هذه المشكلة , وزاد من تعنته بأن رفض الركوب حتى في اللاندروفر من احمد آوه . ابو مناف توسل اليه , وحاول اقناعه بأننا عندما نصل الى حلبجة يمكن ان نتوزع على سيارتين ,المهم بس اركب هسه . سلام رفض هذا الحل بعصبية . منير ابتسم وقال : بسيطة آني أحلها , بس اصعد هسه ويانه . سلام رفض الصعود مالم يعرف الحل , فاجابه منير : بسيطة نصعد احنه الستة , ونعوف كاوه ياخذ تكسي وحده لان عنده فلوس . . . كانت كلمات منير اشبه بالزيت المغلي وسكب على رأس كاوه . وقف واخذ يرتعد ويتألم , والكلمات تتصادم عند اندفاعها منه : حقراء , تفهه , كنت اعلم انكم متفقين ان تتركوني وحدي بالكراج , آني عرفت من ابو حاتم غمز لسلام , لايوجد بينكم شريف , العتب ليس عليكم بل على الذي دعاكم . وقف فاخر وقبله وقال له : ولا يهمك آني انتظر وانت اصعد , فقط لاتصير عصبي . دفع فاخر بعصبية وقال : انت لاتختلف عنهم. . اخذ سلاحه من على الارض وذهب صاعداً الى المقر .
في اليوم الثاني سألني بخجل : ها أشو مارحتوا ؟ اجبته : باننا لانذهب من دونك ايها العزيز . فقال : اغسلوا ايدكم , بعد كل عزيمة ماكو .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التعبئة الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين تمتد إلى مزيد من ا


.. غزة لأول مرة بدون امتحانات ثانوية عامة بسبب استمرار الحرب ال




.. هرباً من واقع الحرب.. أطفال يتدربون على الدبكة الفلسطينية في


.. مراسل الجزيرة: إطلاق نار من المنزل المهدوم باتجاه جيش الاحتل




.. مديرة الاتصالات السابقة بالبيت الأبيض تبكي في محاكمة ترمب أث