الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايا من مدينة كلكامش - الحلقه الثامنه

نجم عذوف

2003 / 12 / 19
الادب والفن


قطار الموت
تسبح في فضاءات الروح , ابتهالات العشق , تتحاور مع حكايا السرد اليومي ، تنفلت الأماني  كطائر تمرح أجنحته  في الأعالي , مسارات الغيوم تحط ركبها على أكتاف الأنهر والجداول الصغيرة , ترتوي من مياهها ثم تقذف أنينها على رأس الأرض ، شفة تهمس في الماضي  قبلات فتتولد الارتعاشات , العناق اجتذاب مألوف نحو العلاقة الإنسانية , الكفيلة ببناء الزمن واستحضاراته  يا إيمان... من يمسح جبهة السنوات ويضيء ظلامات قاحلة , من يموسق الأنين بكل ما أوتى من جمالية الوجع .
يا إيمان... حكايانا محطات استراحة لذاكرة متعبة , وأمنيات قلقه , وقصائد منهكة .
 حينما تغلق السنوات أبواب الفرح تفتح  المدينة أبواب اللقاء .... تحتضن بين ذراعيها صبايا العشق الجميل , وتوق الحالمين بخيالات الكون لانبعاث الحلم  .. وبين  هذا وهذا  تستجمع الذاكرة الكلمات , تنفض غبار السنوات ، تمشط شعر الريح بأناملها المغزلية الجميلة ....
يا إيمان... سأروى لك حكايا وحكايا ... قطار الموت وما يحمل في دواخله .... كنا صغارا ..نتذكر أو لا نتذكر  .. وجه العالم يعلوه  وجوم رهيب لحظتها, رحا الترقب والقلق  تطحن ما بقي من أمان في النفوس , الإصرار اللاطبيعي على التحدي يقود الى اكتشاف المزيد , مالذي يدور في مدينتنا الوادعه؟؟ ... الاحداق تتعقب أمرا ما لترصده .. ما هو ..؟ بات الكل يجهل ماذا حل بالأشياء من حولهم .. فمحطة القطار كانت قد تلونت باللون الكاكي لكثرة الجنود المحملين برشاشات من نوع( بور سعيد) في محاولة  لإغلاق بوابات المحطة .. لا يريدون لأحد أن يدخلها ..وجمع غفير من  الناس متجمهرة عن قرب يتخطاهم فضولهم لاستبيان الأمر..... كنا صغارا أغرتنا الحيرة والتوجس في عيون الكبار، فالتففنا حول سياج المحطة ذات القضبان الحديدية ، علنا نعرف ما يقلقهم  ونفوز بخبر ما يطفئ ظمأ الفضول الطفولي.. .. ثمة دبيب وطنين  أشبه بطنين خلية النمل ذهابا إيابا .. كلما زادت سرعته كلما ازداد سعير القلق في النفوس, ولكم شعرنا  بالفرائص وهي  ترتعد في جوف المترقبين لما هو آت والذي لا يبدو بحال من الأحوال انه أمر محمود ، كان ارتعادها أشبه ما يكون بدوي الانفجارات , يا إلهي مالذي يحدث ...خيل لنا - بالرغم من براءتنا في فهم الأشياء - أنه اليوم الذي توقف فيه  نبض العالم .. تعالت الصرخات من كل اتجاهات المحطة  .... آه .. لقد جاء .. لقد جاء .. هاهو قادم .... لكن متى يصل .. سمعت أحدهم يقول للآخر :  انهم أوصوه ووضعوا حرس بجانبه لكي لا يسرع بمسير القطار .. ولكن على ما يبدو انه لم يمتثل إلى ذلك .. انه من جماعتنا .
يا إيمان.. . لكأنني لم ابرح تلك اللحظة التي سمعت فيها ما اثقل على مسمعي  .. إنها خرافة محكية كانت تلك قصة السنوات الوهمية التي نسجت  في زمن وهمي .. الكل ينتظر وبترقب هذا القطار .. الذي كنا نراه قبل هذا الحدث صبية جميلة في ليلة الحناء .. أما الآن فقد اختلف الأمر كثيرا , إذ  تحول انتظار الفرح إلى التوجس من هذا القادم برائحة الموت وبؤس  والدم , شبق العذاب والألم الفج .. الذي يدنو منا بصلف شديد  .. انه يضم في جسده الممتد على سكته أجساد تضج  برائحة الكبرياء والشجاعة , تتحدى الموت باتجاه الموت .. الأصوات من حينها بدأت  تتعالى حتى وصلت أقصاها وخبت ،  صمتا  كفيفا أضاع بصيرته .. أما  الترقب ذاك الذي لا يمل نفسه فبازدياد نحو الحدة .. ...كان قلق طفولتنا  أشبه بطائر يعبث بمصيره بين يدي طفل ..... قفز الجميع فجأة كاجتياح يهز الغفلة .. قفزوا .. ركضوا .. باتجاه الحقيقة القادمة من الأسى لا بد.. اخترقوا كل جدارات الخوف والقلق  والان انفلت كل شي باتجاه القطار الذي بدا يحط على سكته كعجوز تعب و  ببطء مثقل .. اتجهوا نحو أبواب القطار كان التسابق إلى فتح بوابة القطار على اوجه.. الكل يصيح بصوت واحد: عجلوا بفتحها فسوف يموتون  هناك مناوشات بين الحرس القومي والسماويون .. من اجل إنقاذ المناضلين الذين تحملهم عربات هذا القطار و التي طليت أرضيته بالقير والحصى واحكم غلق أبوابه .. انهم يحاولون القضاء على النضال في بلد المناضلين تحت شعارات مزيفه .. جريمة لن يغفر لها التاريخ  .. كانوا  كأجساد شفافة  بلون الثلج الذي وضع على أجسادهم .. انتخى الجميع من اجل أن يقوم  بأي شئ ،  تدافعوا لاجل إنقاذ هؤلاء الموجودون في داخل عربات القطار الحديدية  لانقاذ ما يمكن انقاذه من الارواح ، انهم اخوة في النضال ضد من يريد الاقتصاص من الفكر الثوري الحر والروح الوطنيه الجبارة ... المراْة والرجل الطبيب والمهندس وتلاميذ المدارس والمثقف .. كلهم هبوا لنجدة رفاقهم .. وايقاف القطار واخراجهم باي وسيلة  كانت ... اخرجوهم في الرمق الاخير كجنين يكابد ان يلتقط انفاسه من رحم الموت .. متن القطار هذا حوى  ضباطا واساتذة وشعراء وكادحين انهم اصحاب الانشودة الواحدة كما يقول الشاعر العظيم ناظم حكمت :-( اذا لامست ايديكم ايدهم مرة ... فاغسلوا ايديكم والبسوا قميص العيد وانشدوا الانشوده الواحده .. وطن حر وشعب سعيد ..) انهم يحملون في كل قلب وردة حمراء وعلى جباههم شمس مشرق ..

الانين الذي لف المكان والزمان حينها كان اشبه بسمفونية بتهوفن الخامسه ( القدر )... وحينها ايضا فاضت روح اهل السماوة على الحدث ، تلك الروح التي تنضح بالكرم والاخلاق و الحميه في هذا الموقف البطولي الرائع والنشيد السماوي العظيم ... فقد كانت السماوة منفى  لكل المناضلين الشرفاء اصحاب الفكر الحر والواعي .. اذ كان ينظر اليها على  انها مدينة ملقاة على اطراف الصحراء ... هكذا هم السماويون .. اجدادك واعمامك واخوالك يا ايمان ... زغردي لهم بكل زهو وكبرياْء ... اصبحت المدينة ساعدا واحدا وكفا واحده من اجل عمل شيء ما لانقاذ رفاق الدرب .. من ايادي ( الحرس القومي ) الفئه الاكثر تدني في المجتمع العراقي  والتي لا تمتلك أي من مقومات الفكر .. جيء بها الى السلطه لكي تقتص من كل الافكار الحره والشريفه والتي من شأنها بناء الوطن والانسان.
وفي حركة دؤوبة ومتواصله  حاول الموجودون ان يقدموا الممكن والمتاح من العلاج للمصابين  ليستعيدوا بعضا من عافيه  ، كان دفئا وحميمية داميه ، والمشهد بقدر ماهو مروع بقدر ما يحمل في طياته شرف الحس الانساني والوطني المتنامي لدى العراقيين ، فتلك تصرخ اجلب الثلج الى هنا ..واخرى تحاول سد رمق الجوع لاحدهم  ... اخر يصرخ باعلى صوته : الله لا يوفقهم شنو هذا الظلم .
اجبر السماويون الحرس القومي على الرضوخ الى مطلبهم بمعالجة ا لقادمين في قطار الموت،  كنا صغارا جدا أنذاك .. نراقب الموقف وكانه حلم مزعج ..يمر على اليوم بضبابية كثيفة اكاد اقتنص منه ما تسعفنيه ذاكرتي وذاكرة بعض الصحب ،  وها هو المشهد ينبجس بين يدي القلم لتفتح نافذه الموت الذي اطلت على العراق او اطل العراقيون منها على اقدارهم ، منذ قطار الموت ذاك ،الموت الذي حل بنا كظلنا على امتداد الاعوام اللاحقه محمولا  على عربات قطاراتنا  الموجعه مقتنصا كل ملامح الفكر والثورة والنضال العراقي الاصيل ..
بعد فترة وجيزة وما ان استعاد البعض وعيه والتقط انفاسه وحصل على النزر اليسير من العلاج المتوافر.. تم نقل المصابين من قبل الحرس القومي بسيارات كانت موضوعة عليها اسلاك ( وهي عبارة عن اقفاص ) واخذت تجوب شوارع  المدينه بسيارات تحت حراسة مشددة ، اما  اهل المدينة الذين  وقفوا على جانبي الطرقات فقد اخذوا  يصفقون لهؤلاء الابطال في رسالة واضحة  الى طرفي المعادلة السلطة والمناضلين.. انه من هنا يبدأ النضال .. قلوبنا معكم .. وكلنا معكم .. سيروا ونحن نقف معكم في خندق واحد .. وكان الرفاق  ينادون بهتاف واحد من بين الاقفاص :-( الما يزور السلمان عمره خساره ) هذا النداء البطولي الشجاع يدلل على قوة التحدي والفكر الجريْ ... السماويون اكثر تجاوبا واكثر تفاعلا مع هذا الحدث الكبير ومعطياته .. وذهبوا باتجاه ( نقرة السلمان ) , السجن الذي بني كي يكون اشبه بالمنفى في وسط الصحراء اذ يبعد عن السماوة حوالي 160 كيلو متر.. مستعص جدا على الهرب منه، او التسلل اليه،  ذلك انه  كائن في منطقه تضلل من تضلل .. وليس هناك مسالك تؤدي الى طرق تدل الضال ...
يا ايمان .. هكذا هم اهلك السماويون .. يتفاعلون مع الحدث ويناصرونه بكل شجاعة وبسالة وجراة .. فلذا لم ينس شاعرنا الكبير سعدي يوسف هذه المدينة وهذه الوقفة وربما كان حاضرا معهم في داخل قطار الموت اذ يقول :-( توهمت ... اوهمت .. نخل السماوة ام نخل السماوات ..)
يا ايمان ... قطار الموت ام قطار الملكوت الذي يسير على رؤى القلوب التي مازالت تنبض .. رؤى الاحبه وملتقاهم الجميل ... تمر السنوات وتمر المؤامره ضد الشعب والوطن ... يزداد الارهاب والموت .. ويكبر التحدي في مقابل ذلك ... ويزداد البعثيون طغيانا .. ويزداد المحبون القا   ووداعة واصرار على التصدي لمن يتربص بالعراق والعراقيين من ابناء جلدتهم المدعيين ... وبعد هذه السنوات العجاف التي مرت .. والقلب العراقي الذي ينبض بالحب والخير والرقه يطوف بين المدن من منفى الى منفى وهو يحمل هم الوطن والناس والمعاناة  ..
 واليوم – بينما اتطلع للعراق من خلال التلفاز _  مرت تلك السنون على ذاكرتي كطيف عجل ، معادلة النصر والهزيمة التي تترسخ في وجداننا بان النصر دوما للشعوب ، جباه لا تطالها معاول الجلادين ، وها انا اليوم اشاهد بأم عيني ذاك الجرذ الاكبر  وهو يسحل  من  مكانه الاسن .. ارى من اراد اذلال العراقيين  ذليلا خاسئا ...اصطادته يد القضاء التي تجزم ان وعد الله حق ، وانه ليس ببعيد ، وانه اكبر من كل العتاة والجبارة ، فبشرى  بشرى ..لم يعد في العراق جحور لوحوش الارض..فقد ضاقت الارض عليهم بما رحبت  وتلقفتهم يد العدل والمنية واحدا واحدا...
كاني وقطار الموت الذي بكيت حينما استذكرت و سمعت قصته .. كاني به  اليوم يضحك مستبشرا ، ان لا ضحايا جدد لسياط الجلادين ، القطار يا صغيرتي سياتي وياتي لكنه هذه المرة محملا بالورود ولقاءات الاحبة والقبل المؤجلة منذ زمن والحدقات التي استعادت الافق والامل ، هذا ما تحمله قطارات العراق اليوم ثأرا لما ارغمت على حمله من روائح الموت والقهر لسنوات طوال .
 هي ايام اهل السماوة المليئة بالحكايا والحكايا ، انها  الف ليلة وليلة –هكذا - يا صغيرتي 
 
والمشهد اليوم لا يحتاج الى تعقيب ، انهار البعث وزمرته الخبيثه اقصيت الى حيث  اللارجعه .. واندحر الطاغية واهين كما كان يهين .. اليوم يا ايمان نقول بصوت الحب .. صوت الحق ..( وطن حر وشعب سعيد سنمضي سنمضي الى ما نريد )..
مني ومنك يا ايمان  وردة حمراء نعلقها على صدور الرجال .. منابع الفكر الحي ..  .. تحية الى السماوة والسماوييون اهلنا لكل مواقفهم وشجاعتهم .. تحية لكل رجالات العراق الشرفاء ..
تحية الى الشهداء الرائعين الواقفين على مراجل الذاكرة وبوابات الخلود بدمائهم الزكيه .. ( الشهيد زهير عمران . وباقر ملك و علي حسين بدر , كاظم وروار , جبارخصير , عبد الحسين كريم , علي طربال , وناجي نعمه ) , وكل المناضلين في هذه المدينة الرائعه وكل الشهداء في عراقنا الحبيب ..
وكل الحب الى مدينة كلكامش .. المدينة الترابيه .. وكل ارض العراق وكل العراقيين .. ..

يا ايمان افتحي دفترك واكتبي هذه الحكاية .. وانتظري ان نلتقي بحكاية اخرى من بلد الابداع ومدينة المبدعين ... والى موعد اخر ...

نجــم عـــذوف
النرويــــج
  








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات