الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات سجين (الجزء الأول)

محمد تامك

2008 / 3 / 9
أوراق كتبت في وعن السجن


زنزانة نتنة، الأوساخ في كل مكان، سطعت شمس الصباح، هاهو صوت اعتدنا عليه، إنه مفتاح كبير لا كالمفاتيح يدخله حارس لتوه جاء ليقوم بعدنا من جديد، لا يجد مكانا يمر منه، أقدامه تطأ على الجثث دون حركة منها، يعد الأموات الأحياء ويده على أنفه. تتسلل أشعة الشمس الضئيلة، وحين تنظر من خارج الزنزانة تضن أنك في حي من أحياء القصدير الموجودة داخل المدن المغربية، صخب سب وشتم، هذا يقول انه لم ينم طوال الليل، أخر يبحث عن قطعة خبز وما عليه إلا النظر في البقايا قرب المرحاض ولا إشكال فربما أصبحت لذيذة من فرط الجوع، ومن خلال تلك الرائحة المنبعثة من المراحيض أحدهم هنا يقول كلام لا تفهمه، فأنت غريب عن هذا العالم لهجتك مختلفة أخلاقك مختلفة قيمك مختلفة فلا تقل شيء.
الحشرات في كل موقع، هاهي الصراصير تجول ولا أحد يزعجها، فهي تقتسم معنا الطعام اتركها، دعها وشانها، فإن لم تجد قوتا فإنها تعيش على الجثث التي تنبعث منها رائحة كرائحة الصرف الصحي ونحن من اعتدى عليها فالمكان مكانها، كثرت الحركة وتحركت تلك الآلة المشلولة، فيا أبناء الوطن يا أعزاء فشمس الاستقلال ساطعة لامحال، هاهو ذا أحد الرفاق يحضر الشاي على عادته على الطريقة الصحراوية المألوفة إنه عالي، وما هي إلا لحظات حتى يطل علينا كل من لمين وخطرة بابتسامتهما المعتادة ويحيوننا تحية الصباح، نجلس كالعادة وذاك محمد عالي للتو استيقظ يجلس إلى جانب الرفاق في الزنزانة التي يحلو لنا أن نسميها خيمة لحسان ، وهاهو أحمد يدخل علينا بقامته الفارعة الطول رافعا شارة النصر التي لا تفارقه ويسأل كيف الحال، هل استمعتم إلى الإذاعة الوطنية ليلة البارحة، ثم نتجاذب أطراف الحديث، وبعد إنهاء الشاي نهب بالخروج قصد التوجه لزنازن أخرى نعرفها حق المعرفة لنجد أمامنا إبراهيم الخليل يتماوج المسكين في مشيته فهو معاق لكنه رغم ذلك يضل يجوب عنابر السجن طيلة اليوم، ونتجه جميعنا صوب الزنزانة التي يقبع بها عمار أو الداهي عمار كما نناديه فهو شيخ يبلغ من العمر 80 سنة يسألنا عن الجديد من الأخبار حول القضية الوطنية وأخبار انتفاضة الاستقلال وبينما نغوص في أعماق النقاش وقف علينا سيد احمد ليبشرنا بأخبار عاجلة عن مظاهرات باسا والعيون وطنطان، وبعد الفرحة العارمة التي اجتاحت وجداننا خرجنا إلى ساحة هذا السجن اللعين باحثين عن بقية الرفاق ليشاركوننا الحدث، هاهم الحسان والزبير يتوسطهم حمادي يروي لهم حكاياته المضحكة التي نجتهد دوما لحفظها من أجل إعادة المشهد ليواسينا في ليلينا البارد والكئيب.
أغلقت الأبواب الحديدية الصدئة مرة أخرى من أجل القيلولة التي لا يعرف السجناء إلا اسمها، ومن أجل أيضا تناول تلك الصراصير التي طالتها إبادة السيد الطباخ بفعل قنابل العدس الصلبة التي لا يجد الجياع مناص عنها، وبعد ساعتين ونصف فتحت الزنازن من أجل الفسحة المسائية ومعنى هذا موعد أخر مع رفاق الدرب، وعند التقاءنا مرة ثانية أخذنا نتجول داخل الساحة التي لا يتعدى طولها 13 متر لنرى جميع أنواع المآسي البشرية كائنات ذات أشكال غريبة البؤس والشقاء والتعاسة أهم معالم وجوههم الشاحبة التي تفننت السكاكين في رسم خريطة الرعب عليها، وبينما نحن نسبح بأعيننا البراقة في السماء نرقب بفارغ الصبر لحظة معانقة الحرية ليس حبا في الاستمتاع بها، ولكن لمواصلة الزخم النضالي وتأجيج معارك انتفاضة الاستقلال، لتنطلق صفارات الحراس التي تعلن عن نهاية الوقت المخصص للفسحة في تلك اللحظة بالذات شعرت بنار الفراق تشتعل بداخلي تجرف كل تلك الفترات القليلة التي قضيتها مع الرفاق.
وعندما اتجهت لزنزانتي الحالكة السواد بعد توديعي الرفاق شاهدت أحد الحراس المتوحشين وهو ينفرد بسجين يلقنه أعتى مساحيق العذاب و ذنبه الوحيد أنه لم يدفع الجزية المفروضة على السجناء وهي عبارة عن مبلغ مالي يدفع لمافيا منظمة تضم الموظفين ورئيس المعقل والمدير، وبعدما أنهى هذا الوحش الكاسر والمتجبر هوايته المفضلة و التي مارسها بهمجية تنم عن انعدام أدنى صور الإنسانية بهذه المقبرة.
وبعدما دخلت أطياف الكوارث البشرية أو بالأحرى أشباه البشر التي تكدست داخل غرفة لاتتعدى 8 أمتار طولا و 4 عرضا خصصتها دولة الحق والقانون لإيواء أزيد من 60 نزيلا، وتصور المشهد كيف سيكون مزريا، وكالعادة جاء الحارس من أجل عدنا مرة أخرى كما يفعل راعي الغنم مع قطيعه كل مساء، وعند دخوله وقف الكل في صف مرصوص كأننا في ثكنة عسكرية، ليخرج بعدما أشفى غليله من الكلمات النابية التي تهاطلت على السجناء المساكين كالمطر تاركا خلفه أجواء الرعب تشل حركة المكان لمدة دقائق معدودات، وتنطلق بعد ذلك الصرخات والمعارك والمشاجرات وسط أعمدة الدخان القادم من تلك الأفواه التي دمرتها المخدرات وبمختلف أنواعها.
انزويت إلى ركني لأصارع ليلي القاتم بالذكريات الماضية ومداعبة صفحات الكتب لأغازل الأفكار المتناثرة بمخيلتي علني أنجح في خلق جو بعيد عن عالم الضوضاء والفوضى فلا أجد سوى قلمي الذي أبى إلا أن يكون شاهدا على هذه المرحلة بحلوها ومرها يؤرخ لتجربة الاعتقال السياسي التي ستبقى خالدة في تاريخ المقاومة المدنية الصحراوية، وكلما شدني الشوق للصحراء الساحرة أتذكر تلك الطلحة الشامخة بوادي لثل والتي أدمنت شرب الشاي تحت ضلها الوافر وفي بعض الأحيان كنت أجد شيوخ صحراويين بلغوا من الكبر عتيا كانوا يأتون لهذه المعلمة الطبيعة يروون في ما بينهم ملاحم جيش التحرير الصحراوي على ساحة الوغى... وفي وسط هذا الكم الهائل من الذكريات الجميلة التي استمتعت وأنا أعيد شريطها قاطعني لمين لتناول العشاء الذي كان عبارة عن أكلة ماروا ، ودائما كنت أجد صعوبة في غض النظر عن تلك الأعين الحزينة التي ترمقنا بنظرات استعطاف وتوسل إنها نظرات سجناء الحق العام فنصيبهم خبزتين فقط طيلة اليوم ذالك ما يجعل جلهم يبيت بلا عشاء اللهم الكذب على الأمعاء بأكواب الماء علها تملأ مكان القوت.
وبعد يوم حافل بالآلام والآمال، بالمعاناة والمعنويات، بالأحزان والأفراح، أسندت رأسي على وسادتي بعدما قرأت المعوذتين لأخوض غمار معركة النوم الذي فارق الأعين من شدة سواد الليل وعتمة ردهات هذا الجحيم في انتظار بزوغ فجر يوم قادم ترقبوا أعزائي القراء تفاصيله...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي


.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية




.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق


.. هل يمكن أن يتراجع نتنياهو عن أسلوب الضغط العسكري من أجل تحري




.. عائلات الأسرى تقول إن على إسرائيل أن تختار إما عملية رفح أو