الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بورتريه الغرابلي

أحمد الفيتوري

2008 / 3 / 13
الادب والفن


أسمر سديد السمرة قصير القامة لا تفارقه بسمة هي بياض الوجه السمح، مسبوك البدن كما رياضي، حركة دائبة كما عش نحل يسكن البدن، يداه يدا محترف يدوي الانشغال، حتى الفكر عنده مشغل، لذا كثيرا ما عبر عن فكرة بمنحوتة أو شكل لوحة وفي حين طرز منديلا ببيت شعر .
عاشق للآخر كما لو كان نفسه، وملح علي أن هذا الآخر نفس حرة تمنحه وجوده.
يختلك بهدوئه وينساب فيك كالظل، هو ليس دمثا و لا عجولا و لا علي دراية بأمره و لا يشغل نفسه بأمور الساعة، لكنه نسغ الحياة وجذوره عميقة الغور في المكان، لا يلهيه شيء عن الانسياب في الزمان حتى الوقت نفسه لا يلهيه، كأنه الحياة ذاتها ترتع في غوط الحياة .
يهدر و لا هذر، قليل الكلام كثير المعاني.
يربط ظهره بذراعيه في كثير الوقت وهو يجول في الساحة، كأنه يخاف أن ينزلق من نفسه التواقة للآخرين، لذا أسر النفوس التي عرفته والنفوس التي لم تعرفه بعد كان مؤسرا شديد الخفة علي الروح أو أنه أم رءوم وأب حنون وأخ جسور ،دون ادعاء أو تملق، لهذا كان أمره صعب المراس علي نفسه أولا وثانيا روحه وثالثا علي جسده.
- أنت لديك تليف الكبد
- أليس مرض كذا يصاب به السكارى
- نعم
كانت روحه سكرانة دائما بالحياة ومخمورة بالمحبة المركزة ، روحه من نوع الفودكا أو التاكيلا ، لم يشرب الخمر لكن هذا ما حدث؛ مصاب بتليف الكبد كان عبد العزيز الغرابلي حين شخص الطبيب محمد المفتي مرضه في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ، في العقد الثامن من القرن العشرين، حيث كان يقضي حكما بالمؤبد بدعوى انتمائه لحزب تروتسكي يهدف لإسقاط نظام الحكم .
لم ينتبه مرة أي أحد لمرضه كان ينسيك مرضك ويتسرب فيك كهواء منعش،يرسم قصائد أصدقائه ، ويصنع هداياهم لمحبوباتهم المفترضات،ويجول هنا وهناك بحثا عن أي شيء حتى ألا شيء كي يصنع هدايا لأعياد ميلاد زملائه في السجن أو أبنائهم أو أعياد زواجهم دون تفريق، لذا كان المختلف الذي لم يكن علي خلاف مع أحد .
معجون من ابتسامة دائمة لا تفارق محياه خاصة في الظرف الصعب،وهو خلائط من غضب المظلوم وحليم كمتصوف، يمشي في ساحة القسم الرابع في سجن الحصان الأسود ضحى كل يوم بتؤدة متأملا فسحة الزرقة مستنشقا رحابتها زوادة للزنزانة الضيقة التي تضمه وأكثر من عشرة أنفس، في الزنزانة يبث رحابته من تلكم الزوادة، يخترع العاب ورسوم وحكايات فيحول الزنزانة إلي فسحة زرقاء وفضاء يسع ضيق النفوس السجينة والأجساد المنهكة،ثم يستحلب مطر الذاكرة عند زملائه كي يغادر بهم المكان إلي سماء الذاكرة التي أفقها كما أفق البحر .
البياض لوحة هذا الأسمري السحنة؛ يطرز المناديل بعبارات شعرية ليهربها زملائه لمحبوباتهم، يرتق الثوب البالي ويوزع ابتسامته دون كلل، بخطه الجميل المميز يخط دروس الزملاء، عند حدة النقاش يذهب عنك كي يجئك باشا، مسرورا - بحدة – بك،ويخترع حكاية كي يستمطر ذاكرتك بما تشتهي أن تستعيد منصتا لمسرودك، يغالب جسده المريض ونفسه الموجوعة كي تخرجا معا من السجن كطيرين، مرشدا لك حين تهب ريح الحنين وتغلبك القضبان.
كنا معا في القسم الثالث في الزنزانة الرابعة، في سرير حديدي واحد هو في السرير الأعلى،نتبادل الحكايا وأسمع ما حفظ من قصائد، وأنصت دون أن ينتبه لأنين مرضه عند نومه أحيانا،وأنظر لاصفرار وجهه حين لا ينتبه وتنقشع بسمته.
بادلني قصة حبه يوم عاد من عملية جراحية أجريت له في المستشفي بشكل ضيق وعلي عجل،أخذ يقول لي هل تذكر قصيدة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عن اسماعين الذي كان قد عاش حياته كلها جوعان ، هل تذكر اسماعين ذاك أنا، اسماعين بعد جوعه شبع مرة ونام تحت جميزة ومات.
شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
كان قد عاد من المستشفي وشاهد الشوارع وغيرنا من الناس، وقعد في غرفة وحده وان بحرس وكلبشة، وزاره بعض من يحب، وعامله حرس بشفقة، وتنسم هواء عليل، ووجد اهتمام من ممرضات وطبيب تشيكي: شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
مات عبد العزيز الغرابلي، فعلا كما ظنه، مات بعد أن عاد من المستشفي.
كنت أصارعه، نلعب كالعادة ولكن بتؤدة كي ننسى المرض والمستشفي والسجن وظنونه، فجأة تدفق دمه من فاه، عربد المكان من ألم فقد أخذ للمستشفي حيث لن يعود لزنزانته بل إلي مدينته الزاوية حيث دفن.
لم يكن الطير علي الرؤوس كان الحزن قد خيم والليل قد عسعس، لم ينم أحد في القسم الثالث في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ليلتها،ليلتها كانت النفوس مكلومة ، وفي حفل التأبين الذي أقيم عبر وصول خبر وفاته انقشع الحزن فقد استعيدت بسمة عبد العزيز الغرابلي، الجميع كانوا واحدا يرثون عبد العزيز بروح غامرة بمودة عارمة لتلك الابتسامة التي لم تفارقه مرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر