الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يتحرر الديموقراطيون الاجتماعيون من تبعيتهم لليمين؟

نبيل يعقوب

2008 / 3 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


الحزب الديمقراطي الاجتماعي، اقدم احزاب المانيا (150 سنة) واكثرها عضوية، واعمقها تأثيرا علي صياغة السياسات الاجتماعية لعقود من الزمن، يعيش محنة متصلة منذ سنوات. وتفتقد قيادات الحزب الشجاعة والارادة لاخراجه من الازمة التي ادت لخروج ربع الاعضاء ولانحسار جماهيريته التي انعكست في تضاؤل نتائجه الانتخابية وسقوط حكوماته في المقاطعات الواحدة بعد الاخري اثناء حكم المستشار شرودر.
وانتهي الحال الآن لما يسميه زعماء من نفس الحزب ومحللون سياسيون بان الديمقراطية الاجتماعية الالمانية تعيش في الأسر البابلي. وقصة الانجيل عن سبي اليهود في زمن نبوخذ نصر قبل اكثر من 500 سنة من ميلاد المسيح تتحدث عن حنين اليهود الي زمن افضل ولي وذهب، زمن كانوا يملكون فيه ارادتهم. ويرمي هذا التشبيه الي توصيف تبعية الديمقراطيين الاجتماعيين لسياسات المحافظين وهم الاقوي سلطة في الدولة، سواء علي المستوي الاتحادي أوفي المقاطعات. التبعية التي وصلت لان يتخلوا عن تراثهم التاريخي القديم في الدفاع عن مصالح العاملين، ويذهبون للالتزام بنهج النيوليبرالية بشكل لم تجرؤ عليه قيادة المحافظين ذاتها. وكان المستشار كول في عهده قد احجم عن التخلي عن اعمدة مهمة تقوم عليها "الدولة الاجتماعية" والتي ثبتها الدستور الالماني "نظاما للدولة". وفي تطبيقها السابق كانت "الدولة الاجتماعية" تقدم علي نطاق واسع ضمانات اجتماعية مثل معونات البطالة بمستوي يفوق بكثير ما اصبح مقررا الآن، وتضمن مجانية التعليم، وتطبق نظاما للمعاشات يترحم عليه الكثير من المتقاعدين حاليا. وعندما جاء شرودر الي الحكم اثبت للرأسمال ان حكومته اقدر علي انجاز المهمة التاريخية باسترجاع ما اضطرت الرأسمالية للتنازل عنه للعمال ايام التنافس بين النظامين العالميين.

امام الامتحان الكبير

ودفعت الديمقراطية الاجتماعية ثمنا غاليا بسبب سياسات حكومتها السابقة التي الحقت اكبر الضرر بالمصالح الاجتماعية لغالبية العاملين، وبتشديدها للقوانين التي تنتقص من الحقوق الاساسية، وبزجها البلاد في حرب (يوغسلافيا).
صرح احد القادة المعارضين لنهج الحزب الحالي مؤخرا بان اسم الحزب - يقصد "الديمقراطي" و"الاجتماعي" قد سرقه اللصوص. ووصل الامر لان تخضع قيادات من الحزب لضغوط اليمين المتمثل في المحافظين وضغوط من داخل الحزب نفسه بالامتناع عن قبول اية تحالفات مع اليسار الذي تؤيد اهم شعاراته ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية ورفضه مشاركة المانيا في عمليات عسكرية خارجية (افغانستان) ليس قواعد الديمقراطيين الاجتماعيين فحسب، بل ايضا اغلبية اعضاء جميع الاحزاب السياسية في المانيا طبقا لاستطلاعات الرأي.
ومعني هذا الامتناع ان يعجز الحزب الديمقراطي الاجتماعي عن تشكيل حكومات في الشرق وبعض مقاطعات الغرب الا مع احزاب يرضي عنها المحافظون، وهي احزاب تطبق بالضبط السياسات التي يرفضها الناخبون. هذا في الوقت الذي نمت فيه قوة حزب اليسار لتعلن الاستطلاعات الاخيرة عن نية 14% من الناخبين التصويت له في الانتخابات العامة القادمة، اما في الشرق فاصبح هذا الحزب اقوي الاحزاب بحصوله علي 30% من الاصوات (مؤسسة "فورسا" للاستطلاعات).
منذ صيف العام الماضي تحتدم الصراعات السياسية والاقتصادية في المانيا بشكل سريع فتتواصل الاضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية علي تدهور الاحوال الاجتماعية وتباطؤ الاصلاحات الحقيقية. الاعلام والمحافظون اطلقوا صيحات الانذار القائلة ان "المانيا تنحرف نحو اليسار". وتواصلت الغارات الاعلامية علي حزب اليسار الذي تشكل من وحدة اليسار في الشرق والغرب في شهر يونيو الماضي والذي اصبح الآن ممثلا في عشر مقاطعات من بين 16 مقاطعة. وقد حمل هذا الحزب لغة جديدة الي الحياة السياسية في بلد وصفه احد الكتاب السياسيين بانه يعاني من "استقرار متورم".
اشارة الخطر الاكبر والتي اجبرت جميع الاحزاب للبحث والمراجعة كانت نتائج الانتخابات، والتي بينت أن جزءا كبيرا من الناخبين لم يعد يصوت بناء علي الانتماء الحزبي ولا علي برنامج الحزب او القيم التي يروج لها في دعاياته وانما علي الخبرة الذاتية بناء علي ما تعنيه السياسات التي يمارسها الحزب فعلا بمصالحهم. والانتخابات في بلد اوروبي مثل المانيا هي السبيل الوحيد للوصول الي مقاعد الحكم او الحفاظ عليه. ولذا بدأت مباراة بين الاحزاب الكبيرة وحتي حزب الاحرار في تجميل وجوههم بمسحة اجتماعية. ولكن لم تؤثر عمليات التجميل طويلا ازاء طوابير العاطلين امام مكاتب العمل، وبحث ربات البيوت عن سلع ارخص في مواجهة غلاء مستشر لم تشهد المانيا له مثيلا منذ عشرات السنين.
في انتخابات هيسين كان للسيدة "ايبسيلانتي" زعيمة الديمقراطيين الاجتماعيين في المقاطعة، وهي من يسار الحزب، فضل في صياغة برنامج يناقض سياسات قيادة حزبها برفضها الواضح لنهج شرودر، واستهدافها اصلاحات تعبر عن مصالح العاملين والفقراء. والصياغات التي تشبه صياغات اليسار، وان فسرها البعض بانها محاولة لجذب الناخبين للديمقراطية الاجتماعية وقطع الطريق علي حزب اليسار كيلا يحصد المزيد من الاصوات، جاءت ملبية لما يريده اعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وضمنت له ان يعود بقوة الي برلمان المقاطعة.
من هنا نشأ موضوعيا التقاء بين حزبين متنافسين يرفعان راية اليسار في واحدة من اهم مقاطعات المانيا. وعندما انتهي الفرز تبين حجم الكارثة التي حلت بالمحافظين، ولكن تبين ايضا عمق الخطأ الذي وقعت فيه قيادة الديمقراطيين الاجتماعيين العليا والتي كانت قد اعلنت انه لا تعاون مع حزب اليسار في الغرب ولا تشكيل حكومة تعتمد للحصول علي الاغلبية البرلمانية علي اصوات نواب حزب اليسار.
وصلت سياسات عزل اليسار اذن الي طريق مسدود. وعبر المحافظون عن فرحتهم وشماتتهم. وكانت نتيجة القرارات اليمينية لقيادات الديمقراطيين الاجتماعيين تعني بقاء رئيس الوزراء المحافظ في الحكم رغم انه الخاسر الاكبر في الانتخابات الي ما شاء الله، او الي حين اسقاطه في التصويت علي الميزانية، ثم الدعوة الي انتخابات جديدة. ولكن زعيمة الديمقراطيين الاجتماعيين في المقاطعة، والتي كررت مرارا وعدها بالتمسك بقرار قيادة حزبها خلال الحملة الانتخابية بنبذ اليسار احست بالورطة، فلا سبيل لانهاء حكم رولاند كوخ رئيس الوزراء المحافظ الا بالاستعانة باصوات نواب اليسار الذين اعلنوا انهم لا يطلبون المشاركة في الحكومة، وانهم سيساندون ايبسيلانتي مادامت تمسكت بوعودها الانتخابية التي تتطابق مع برنامجهم. واعلنت ايبسيلانتي انها سترشح نفسها لرئاسة الحكومة وانها تقبل الاعتماد علي اصوات اليسار.

سن السكاكين

فجأة ظهرت علي شاشات التليفزيون سيدة تدعي "ميتزجر"، احدي نائبات الحزب الديمقراطي الاجتماعي في برلمان مقاطعة هيسين، لتقول ان "ضميرها" لا يسمح لها بانتخاب رئيسة حزبها السيدة ايبسيلانتي لمنصب رئيسة الوزراء، لان وصولها لهذا المنصب سيكون بفضل اصوات نواب حزب اليسار الذي ترفض لاسباب "اخلاقية" اي تعامل معه. وقالت ان ايبسيلانتي وعدت قبل الانتخابات انها لن تتحالف او تعتمد علي اليسار في انتخاب الحكومة ولذا فهي لا تقبل ان تحنث بالوعد. موقف نائبة الديمقراطيين الاجتماعيين المنشقة وجد ترحيبا كبيرا من المحافظين والصحف الكبري التي فتحت صفحاتها لصور وكلمات السيدة ميتزجر مادحة موقفها الاخلاقي. ولكن هذه العظة الاخلاقية لم تكن فعالة بالنسبة لقواعد حزبها اذ لم يثر ضميرها عندما حنث قادة الديمقراطيين الاجتماعيين في الحكومة الاتحادية بالعشرات من وعودهم السابقة فور انتهاء الانتخابات الاتحادية وتشكيلهم حكومة مشتركة مع المحافظين.
ونشطت المؤامرات داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي .. و"العجل وقع ..هاتوا السكين". وانطلق مهرجان اعلامي يطالب ويستفتي الشعب في القنوات التليفزيونية علي بقاء او استقالة رئيس الحزب بسبب "الخطأ الفاحش" الذي ارتكبه بالتصريح لمنظمة حزبه في مقاطعة هيسين بالتعاون مع اليسار. وسارع نائبان لرئيس الحزب (من ثلاثة) بانتقاده علنا رغم ان القرار المذكور ايدته الاغلبية الساحقة لقيادة الحزب. واطلقت مجلة "در شبيجل" مدفعيتها الثقيلة لتأكيد ان الرئيس لا يصلح ان يكون مرشحا للديمقراطيين الاجتماعيين في انتخابات العام القادم. والمرشح المفضل كان جاهزا وان سارع محرجا بالنفي: وزير الخارجية شتاينماير. ولا تزال المعركة محتدمة في صفوف الحزب الديمقراطي الاجتماعي ولا زال اليمينيون في القيادة، وكثير منهم مرتبطون مباشرة بالشركات والبنوك الكبري، يعملون بها كمستشارين واعضاء مجالس ادارة يضغطون ويخططون لاضعاف مواقع بل وابعاد العناصر اليسارية او لنقول الديمقراطية الاجتماعية المتمسكة بتراث الحزب. ووصل الامر ان وزير الاقتصاد السابق في حكومة شرودر، فولفجانج كليمينت، علي سبيل المثال، والذي كشف الاعلام بانه يتلقي اجرا من احد اكبر احتكارات الطاقة، كان قد دعا في خضم الحملة الانتخابية لعدم التصويت لحزبه (!) لان برنامجه الانتخابي يتضمن اغلاق محطات الطاقة النووية. امثال هؤلاء اضطروا عددا من افضل قادة ونشطاء الحزب ومثقفيه، ومنهم رئيس الحزب السابق لافونتين وكثير غيره للاستقالة، او دبروا ابعادهم عن الترشح للبرلمان.. وكثير من هؤلاء اصبحوا الآن في صفوف حزب اليسار، ومنهم نواب برلمانيون، وقادة نقابيون، ونشطاء في منظمات عديدة في كافة انحاء المانيا. ويكتشف اعضاء الحزب العريق اليوم ان النيوليبراليين في صفوفهم لا يقيمون وزنا لمصلحة الشعب، ولا الحزب، ولا للاخلاق.

في هذه اللحظة ليس من الواضح الي اين ستتجه الامور في حزب الديمقراطية الاجتماعية: نحو التفكك والتشرذم والمزيد من هروب العضوية والناخبين، والمزيد من التبعية للمحافظين والابتعاد عن تراث الحزب القديم، ام في اتجاه مراجعة جدية للسياسات والانحياز الي مصالح الشعب الحقيقية بدلا من ادارة الحكم لصالح الرأسمال الكبير بالمشاركة مع المحافظين. مع النقابات ام مع اصحاب الاعمال. مع مجانية التعليم ام مع التعليم لابناء النخب الاجتماعية، مع سياسة اقتصادية اجتماعية تضمن حق العمل وتقضي علي الفقر ام مع العولمة الرأسمالية المنفلتة، مع الديمقراطية ام مع التواطؤ لتقويضها، مع مواصلة عسكرة السياسة الخارجية ام مع نهج سلمي يسهم في ايجاد حلول عادلة للنزاعات في عالمنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزارة الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني كان يستهدف


.. قنابل دخان واشتباكات.. الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض اعت




.. مراسل الجزيرة: الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل عددا من


.. شاحنات المساعدات تدخل غزة عبر معبر إيرز للمرة الأولى منذ الـ




.. مراسل الجزيرة: اشتباكات بين الشرطة وطلاب معتصمين في جامعة كا