الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


برجوازية ليل غيلان في عرس الماي

يوسف المحمداوي

2008 / 3 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


ترددت كثيرا في الكتابة وانا احاول الابحار في هذا العرس لكونه عرسا للماء، ومثل هذا العرس يحتاج الى سفن كلامية وشباك بلاغية قادرة على الغوص وفاعلة في اصطياد لآلئ الشاعر من عمق اتقاده




لكني جانبت ذلك التردد ايمانا مني بقضية هذا المبدع الذي ادمن الاسى فاتاح بعبثيته وعدم اهتمامه بالاضواء ان تؤجل رؤية وليده البكر الى هذا القرن بالرغم من ان اغلب نفانيف”عرس الماي “ خاطتها قريحة االعريس في الثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ومجيء الديوان بهذه الحلة اخرس الكثير من الالسن التي ادمنت التطاول وما زالت على الشعر الشعبي متهمة اغلب شعرائه بالتزلف والاستجداء على ابواب الحكام والسلاطين بعيدا عن الموقف والابداع

لا ننكر بان هناك الكثير من تلك الابواق والنماذج السيئة ابان سلطة اللانظام خلعت زيها الزيتوني وارتدت الان الزي الذي يديم لها النعمة والترف غير المشروعين غير آبهين لمحنة وطنهم وشعبهم والامر من ذلك ادعاؤهم المظلومية والاضطهاد من غير خجل او حياء ممن عرفوهم وسمعوهم يتقاذفون بالشعر قدحا ومدحا على باب الطاغية لكن في الضفة الاخرى كان هناك اكثر من شاعر لم يتخل عن موقفه وهو يرى شعبه يساق الى الحروب والمقابر فقال كلمته، وبعضهم دفع حياته ثمنا لذلك، ومنهم من غادر الوطن باتجاه المنافي لكن”كاظم غيلان “ الذي نعت بابيض الوجه في الموقف والابداع باتفاق جميع النخب الثقافية قال كلمته وهو يئن تحت سياط الجلاد لفضح اساليب النظام عبر بريده السري بين المعارضة وشارع المتنبي، ومع ذلك لم يغادر الوطن وهو مجرد من اية حصانة، وثروته قلم واوراق وغرف بائسة في فنادق هنا وهناك اقل ما يقال عنها انها فنادق من الدرجة الاخيرة، ولم يغادر الوطن على الرغم من كونه المرشح والمفضل على الكثيرين في مسألة الرحيل لما عاناه من تهميش وتغييب اضافة الى دخولة المعتقل اكثر من مرة فضلا عن عزوبيته المتواصلة التي اظنها الدافع الاول له لعقد قرانه الابدي مع الارض فلا وجوب للاستغراب وان تبحر في هذا المحيط الشعري الصعب ان تعثر مرغما بضلوع الامكنة وهذا ما يحيل القارئ الى الايمان المطلق ببديهية باتت واضحة الملامح بان هذا الجنوبي”الماذر “ الغليظ الملامح اضعفنا جميعا حين يتعلق الامر بعشق الارض وأكاد اجزم بانه لو امتلك قصرا في اجمل مدن العالم لا اظنه سيرضاه بديلا عن”صريفة “ في اقصى الجنوب لذلك رأينا الامكنة تعبّ مراكب مراكب في روح وذاكرة الشاعر في عرسه الذي ظننت بانه لا يجيء لكنه جاء لنحتسي نبيذا شعريا خالصا وصادقا بكؤوس غيلانية المنبع والمصب.
وهنا يعترضني سؤال هل كان الشاعر كما يقول:”جزيرة وتحدي برمالي المزامير“.
ابدا لم يكن غير روضة غناء وعاشق حالم قال كلمته بهدوء كناسك من غير صخب او هتافات، حتى في قصائده الوطنية كان الغزل يؤطر الثورة:”لطولك ضحكت الدنيا.. لطولك هلهلت خرسه “ ويطيل هذا الناسك سجوده في قصيدة”الجدية “ تلك القرية الحالمة على دجلة كميت في مدينته العمارة، ولم يكن الشاعر بعيدا عن جنون”بريسم “ ابن القرية، لان الصور غير المألوفة باقمارها المتناسقة بالجماليات التي شعت من”الجديه “ لا يكتبها الا مجنون هائم بحب الارض:”سمره البيوت وتنده باخر جرح “. قالها وصعق وكأنه يعلن موتها وتقوده تلك الصعقة الى هلع وخوف على هذا اللصيق المتمثل”بالجدية “ وهذا ما جعله يتراجع عن ما قال ويعلن سريعا:”وهناك بالجدية عثر جدم الصبح“. ورغم الاسى الذي يكتحل وجه القصيدة لا سيما ان الشاعر عاش محنة القرية ايام الانتفاضة:”شهيد بلايه راس وبيرغ بلون الوطن مترب “ ومع ذلك”اهناك الناس ما تمدح وبس اتسب “ ”هناك بالجدية يصير بريسم بكيفه وزير
هناك تبدي الدنيا كلها بمنقلة وحب وحصير “ ورغم بساطة الاشياء التي تبتدئ بها الحياة هناك لكن الشاعر بخياله استطاع ان يحول من مظلوميتها الى انتصار وتفاخر وزهو حين اعلن بعاطفة يرصعها الهيل والقبل والوفاء”تهابها الدنيا وتبوس جفوفه ودم ولدها طبعته بنفنوفهه “
”الجدية “ ومن بعدها تأتي شواخص اخرى لا يمكن ان لا يمر بما موكب عرس الماي الميدان/ باب المعظم/ الرشيد/ المقهى/ ليجعل من دموع الام صواني نذر لتلك الدلالات التي سكنها وسكنته لعقود مضت ولا اظنه سيتخلص من ملاحقتها وملاصقته له الا بالخلاص:”هلبت بالجرف نلكه سفينة نوح “.
وهذا البحث الدائم عن الخلاص هو ما جعل الشاعر يحول المدرسة الى سجن مديره”نصف كاولي “ وهي اشارة واضحة الى تعلق المسؤولين ابان سلطة الدكتاتور بالغجر ونصفه الاخر”نذل “ وهي دلالة لقوة وتجبر المدير الذي يمثل رأس النظام:”هدومه من الصبح بضلوعي يكويها “.
يغادر الشاعر زنزانة السجن ليدخل زنزانة الخمر مخيرا وهو المواظب على عشقها كعشقه للارض فمن ذا الذي يستغرب قوله في”ياسميري “:”من اشربك يشتعل بيه الوطن “.
وحين يشتعل الوطن داخل الشاعر لا اظن بان حرائقه الروحية يطفئها غير ذلك السمير وخِشيته من الخيانات التي تعرض لها تجعل منه متوجسا من الكأس خشية ان يتكرر المشهد ولا يخفي قلقه من الديون لانه طالما اقترضه ليأكل او ليشرب او لتسديد فواتير الفنادق التي الفها وما دام مواظبا على منادمة سميره فلا عجب ان يكون فعلا:
”من يطيح بكل خصر ركصه يصير
ورجفه مجنونه تنسيه الديون “.
لكنه يواري التراب خشيته من خيانة الكأس في نهاية القصيدة:” برجوازي الليل وانه اول فقير يشتريك من العصر لمن تخون “.
ويرتعش الشاعر الطائر عاليا ويتأبط الحنين اجنحة نورس غايتها جنوب القلب المتوسد الازمات دائما وابدا:
”انه طير من الجنوب امي من توميلي بالطيف امتحان
انه طير امتاني سجينة ذبح
ودمي جدامي لكيته يقره بكتاب الصبح “.
ويواصل هذا المتقد، اتقاده وفي حلمه حضرة للام لا يمكن الا ان يطوف عليها بتواصل وكأن من خلال طوفانه حولها يغازل امكنته:” المح امي بآخر شيله
اتلملم كل شيبات الراس
اتنكط دمعاتي وتتسودن، روحي الحاير بيها وبيه
ذباني الطيف ولن صدفه
شفت امي بنصب الحريه “
ويتجه موكب العرس نحو مدينته العمارة وهو مجبر بالطبع لا مخير لعدم قدرته على تجاهل جسرها وشارعها ومدرسته وشخوص المدينة:”حتى مركبها الغركان، اوسينما الثورة فيها).
وهذه حالة ادمان واضحة في عشق المدينة عند الشاعر نلاحظها في شعره وفي حياته الطبيعية، فاحيانا افتقده الصبح وحين اراه مساء اسأله مستفسرا”اين كنت ؟ “ فيأتيني الجواب ورغم غرابته لكني لا استغربه من هذا العاشق المتعجرف ”غبشت للعمارة “ يمارس هذا الطقس وما زال ومن فرط العشق اوالتيه يقول:”بيك كل عصريه موجة ضوه ونافورات ميهن مي ورد “
ويوجعني بالذ حنين متسائلا:”حنيت يا هو اللي يردني الصف الاول “. ويواصل كشفه لمبررات تعلقه بمدينة صباه معتبرا كل هذا العالم عبارة عن صحراء جرداء وهو النهر الذي لا يستطيع الا ان يغازل بستانه كل فجر:”النهر بالهيمه غريب استاحش البستانه “.
وفي”قفل “ يفتح الشاعر الباب على مصراعيه مبينا من خلال ذلك الصور النقية والقائمة على عظمة وفاء الطالب لمعلمه والابن لابيه ومدى تعلق وتأثر واحترام الشاعر للرموز الابداعية العراقية، وحين اصبح اللقاء عليه عصيا مع الشاعر الكبير مظفر النواب وقف على باب داره الموصد واخذ يطوف عليها بالدمع والشعر صارخا:” يابه... عبرني حزني الجسر- الماي مثل العطش والشمع صار اتراب.. غنى الدهر ياعتبة النواب “.
ولا اظنه سيرتوي من الحزن الا بحداء الجنوبيات وكثكلى تنوح:” يا قفل يلمامش مفاتيحك
يا ورد يالممنوع ريحك “.
ويخاطب معلمه:”يالي كل جلمه مناره
تشلبهت روحي على اسياج القصيده
وروحي صعدت للمحجر تقره للريل وحمد “.
وتحول النحيب غضبا وتحديا وتحد ورفضا لواقع مفروض ليترك الدار ويقف مواجها نصب الحرية صارخا ومعاتبا:
”ليش يانصب الحلم
ينطفي البيت الترس روحي محبه
ويعتلك بيت الدعاره “.
ثم يأتي العرس الحلم الذي ارق الشاعر وما زال لكنه حظي به في”ليلة كتابه وحذف “ نعم لعرس الماي ونعم لعرس الشاعر لينعم ويتمتع مع ليلاه بليلته ما دامت ساعاتها تتحكم بها الكتابة والحذف:”ليلة امس ماجنها ليله
جنها سفره، ارتعش بيها من اول الخطوات طولي، وشاور الثوب التراجي“.
ساعات الكتابة هي من اوصلت الفستان الى تراجي حبيبته ليهمس باذنها”هام بالكذله مشط سنه رطب “.
ولم يخجل من عدم قدرته على النهوض في ليلة عرسه المنتظر لان:”الرعشه كتبتني على الحايط قصيده
ليلة نستني الحدايق والمزايق والجريده “
وتتراقص الصور الغيلانية في ساعات ليلة كتابته وترقص معه عروسه مامورة” كومي نركص طاح من عده ردف “ ولكني لم الحظ اي وجود لساعات الحذف في تلك الليلة بل سيطرت ساعات الكتابة على المشهد تماما.
ويتواصل الشاعر احتراقه بشموع العرس وعاطفة الشاعر الملتهبة صوب اصدقائه المخلصين من ساكني المهاجر فيتجه بالحنين والشكوى لصديقه الشاعر العراقي المغترب رياض النعماني، ليعلق في تحفته”الشاعر من يزعل “ اكثر من عقد نفيس على جيد الشعر الشعبي الحديث ولا اكون فعاليا مغالبا اذا قلت بان”كاظم غيلان “ في هذه القصيدة بالذات تعملق على الكثير من الاسماء المهمة في الساحة الشعرية ومن غير المعقول ان لا نطلق على هذه القصيدة لانفراديتها بالروعة بـ”عروس الماي “:
”كمره وسبع اخيول التصهل
حنطه.. وجفيات اتهلهل
غفله وجن اندك الباب
حتى البرده اتكلي مسودن
جفلت روحي اسمع حس خضيري بروحي وسيد محمد والنواب
جرحين من الروح انطيتك واحد يم نصب الحرية اواحد جاي من السياب.
ويتسامى في وصف صديقه النعماني وكانه يريد ان يحمل عنه وجع المنفى لكون الشاعر لذته اكبر من ان توصف ومتعته تصل الى درجة عشق الموت في وطنه رغم الخيبات التي عاشها فيه:
”بالحيره النامت بجفونك.. بالفرحه الصارت خطار
ياعين السهرانه الوحدج.. خل نتداين حسبة نوم
وحسبالي انضم البوسات الباجر وباجر نتوسل ابيا فرحه انطب لدنيانه
ابياشفه انذوب وما نزعل “.
واخيرا تحين لحظة الزفاف وهي حلم الشاعر الازلي لنودع عرس الماي في قطعة”حرير “ متجمرة ومتخمرة باللذة والابداع وكيف لا وهو الشاعر المتواصل بالبحث عن امرأة الحلم، وحين يلاعبها يسقط الوزير”الخاطرك يوكع وزير والخاطرك حطيت فختايه على الشباج الاخضر انته صوفر وانه اطير
مهرتك خضره حبيبي السعف مشط راسهه
ومن غفت كعدت نشيطه ممشه لن برد الشرايع جاسهه “ .
لكن الحلم سرعان ما يتلاشى رغم انه سيظل المؤرق والمحرك الاول والاخير لجنون الشاعر ليعود محتميا برغبته تحت وصاية سيد الامكنة و”شوغاته “ وصية من ان الوطن هو الوريث الوحيد لما يملكه الشاعر ليظل المكان هو الام والحبيبة والعرس والصديق والكأس عند الشاعر، وفي ختام ما كتبت اجدني غير مقتنع باني قد انصفت العرس وصاحبه واعلن في الختام عن وهن وفقر ادواتي في الكتابة عن الاصدقاء لكني شعرت مرغما بضرورة بوح ذهولي فيما شاهدته في موكب هذا العرس، شكرا للشاعر وشكرا.
للمأسوف على رحيله عبد اللطيف الراشد على عجالة ذلك الرحيل لانه ترك لي”كاظم غيلان “ صديقا لا ينافسني على رفقته غير الكأس التي سبقتني وسبقت الراشد باصطياده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السفينة -بيليم- حاملة الشعلة الأولمبية تقترب من شواطئ مرسيلي


.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية ردا على احتمال إرسال -جنود م




.. السيارات الكهربائية : حرب تجارية بين الصين و أوروبا.. لكن هل


.. ماذا رشح عن اجتماع رئيسة المفوضية الأوروبية مع الرئيسين الصي




.. جاءه الرد سريعًا.. شاهد رجلا يصوب مسدسه تجاه قس داخل كنيسة و