الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ارهاب الثقافة في العراق

دياري صالح مجيد

2008 / 3 / 23
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يعاني مثقفو العراق اليوم من غربة حقيقية في الداخل بسبب سوء الأوضاع الأمنية وتدخل العديد من التيارات بمجرى عمل المثقفين سواء أكان ذلك في الجامعات أو في بقية مؤسسات صناعة الثقافة والفكر. الأمر الذي أدى إلى تكبيل المثقف العراقي خوفاً من ان تصدر منه كلمة أو فكرة فيها انتقاد لشيء ما مما يراه في مجتمعه والذي ربما يؤدي ان حصل ذلك إلى الإطاحة به برصاصة واحدة لايتجاوز سعرها 250 دينار عراقي لتنهي حياة إنسان يمتلئ بالفكر والعاطفة كما يمتلئ بالرغبة في إشاعة الثقافة البناءة والعمل على إعادة تركيب حياة المجتمع بالطريقة التي تقود إلى انتشاله من واقع الطائفية المرير ومن واقع الاحتلال البغيض، انه بمثابة النور الكاشف الذي تخشى قوى الظلام وصوله إلى عالمها السري لأنه سيكشف للناس الحقائق وسيبدد الظلمة التي يعمل في ظلها اولئك الأشرار الذين لايقوون على العمل أو الظهور في عالم النور فالأخير هو عالم المفكرين والمبدعين الذين كانوا عبر التاريخ قرابين تقدم عند محراب الحرية والتنوير في عراق يتعطش إلى النور، إلا ان إرادة أولئك حالت دون ان يستفيد العراق أرضاً وشعباً من فكر وثقافة أبنائه فهم أول من يطارد وأول من يطرد إلى المنافي في مشارق الأرض ومغاربها وهو محصل بشكل مريع في الماضي. أمّا اليوم فهم أيضاً مطاردون ليُنفوا رغماً عنهم بعيداً أمّا إلى الموت أو ان حالفهم الحظ إلى خارج حدود الوطن ليبحثوا مرغمين عن وطن لاتكبل فيه الكلمة ولاتخنق فيه الفكرة ولا توئد فيه الانتقادات البناءة الهادفة التي يرمي دعاتها وأبنائها وبناتها إلى تصحيح مسيرة الحياة في كل ميادينها لأجل الارتقاء بالشعب أولاً وبقادته ثانياً، واذا مانجح فعلاً كارهو الثقافة الحرة ومناهضوها من أن يشكلوا نمطاً ثقافياً خاصاً حسب مقاييس يضعوها للمجتمع ولايجوز الخروج عليها لأنها نصوص مقدسة يحرم التلاعب بها أو تفسيرها لغير ماتشتهي أنفسهم المريضة، فإنهم بذلك يقولون لنا لا طريق أمامكم يامثقفو العراق اليساريين أو اليمينيين إلا ان تتحولوا إلى أجهزة استنساخ تأخذون مانعطيكم لتطرحوه على طلبتكم ومريديكم من قراء الثقافة والفكر وان حاولتم الخروج على ذلك فالويل كل الويل لكم. لقد قال الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه حيال هذين النموذجين في رائعته الفكرية "هكذا تكلم زرادشت" مايلي "ماكوّن الشعوب إلا المبدعون الذين نشروا الإيمان والمحبة فأتوا بأجل خدمة للحياة، وما الناصبون الاشراك للجموع الغفيرة إلا من يهدمون كيانها ليشيدوا الحكومات على أنقاضها ويعلقوا نصلاً قاطعاً فوق رأس الشعب".
لقد أدى تعاظم الخطر الذي يهدد مثقفو العراق ومارافقه من تزايد اعداد شهداء الثقافة ومهجروها إلى الخارج إلى عقد العديد من المؤتمرات الدولية لمتابعة هذا الأمر فكان من بينها مؤتمر خاص عقد في مدريد في عام 2006 حيث أكد المؤتمرون على ان قوى الظلام اغتالت أكثر من 190 أكاديمي وقرابة 224 طبيباً في العراق منذ بداية احتلاله، ولكن للأسف الشديد ان هذه الارقام لم تتوقف عند هذا الحد فالاعداد في تزايد يومي لاينقطع علماً بأن من يتم اغتيالهم من بين هؤلاء المثقفين لايحسبون على مذهب أو قومية أو كيان سياسي بل هم من كل ألوان الطيف العراقي، فيا للأسف أصبحنا نعيش في بلد تفرقنا فيه السياسة ودروبها الصعبة وتضاريسها المعقدة في حين يجمعنا الموت على أيدي الاحتلال ومن يطبق مبادئه! .
لقد أدت سنوات الظلم والتعسف التي عاشها العراق ولايزال إلى تصاعد هجرة أصحاب العقول المثقفة منه إلى الحد الذي وصل فيه خطورة الأمر إلى ان يصل بحسب بعض التقارير عدد الاطباء العراقيين العاملين في المستشفيات البريطانية إلى قرابة 2000 طبيب وهي خسارة لا يمكن تعويضها ولا يمكن إحصاء آثارها السلبية على تنمية حياة المجتمع العراقي. ذلك المجتمع الذي خرج من طاحونة الحروب والحصار محطماً ولم يجد للأسف الشديد طوق النجاة الذي طالما حلم به الاباء والاجداد وخوفي من ان نفقد نحن الأبناء أيضاً أي أمل في أن يوجد في يوم ما طوق نجاة. والحال يزداد مرارة في تصاعد هجرة بقية المثقفين من العاملين في التخصصات الإنسانية التي تمارس دوراً فاعلاً في بناء المجتمعات وتطورها، لذا بأزاء هذه الخطورة وجهت احدى الصحفيات سؤالاً إلى أحد المهتمين بالشأن العراقي في مؤتمر مدريد وهو الدكتور إسماعيل جلالي عن السبب الذي يدعوه إلى اختيار موضوع الاغتيالات التي تطال أكاديميي العراق وأطباءه كموضوع رئيسي لاهتماماته، فأجاب قائلاً "انه نوع من الواجب والالتزام. انا مهتم بقضايا حقوق الإنسان في العراق وأركز على اغتيالات المثقفين فيه من اكاديميين وأطباء، إضافة إلى الاهتمام بالمخاطر التي تهدد حياتهم وبالضغط الذي يواجهونه لمغادرة البلاد. ان هنالك العديد من التحديات التي تواجه العراقيين وغيرهم. يجب أن نتعهد بقيادة الطريق" لأجل انقاذهم. وهنا نسجل بأزاء ذلك مدى خيبة الامل التي يشعر بها المثقفون فكم تمنوا لو ان حكومتهم تلتفت قليلاً لما يعانون كما التفت لمأساتهم الآخرون خارج الوطن، فهم رأس المال الفكري المتجدد الذي تبنى على أساسه الأمم والأوطان لأنهم أغلى من النفط والذهب لا بل هم أغلى من الاوطان نفسها لأنه لا قيمة للأوطان بدونهم، فلا تحطوا من قيمة العراق بالسماح بقتل مفكريه وتهجيرهم.
إن حال مثقفي العراق بهذا الشكل المأساوي يذكرني ببعض الأبيات الشعرية التي كتبها الشاعر الكردي "الفيلي" العظيم د.زاهد محمد زهدي حين خاطب الطبقة الكردية المثخنة بجراح الظلم والتهجير قائلاً:
تابعي دربك والبلوى وسيري
واحملي حزنك زاداً للمسيـرِ
واقتفي أثر ألوف عبــروا
قبلك الدرب إلى هذا المصيرِ
لعمري انه شعر لاينطبق فقط على مالحق الكرد من مأساة لا بل قد أصبح اليوم يشمل مأساة جديدة فما عاناه الفيلية بالأمس من عمليات تهجير قسري أطاحت بأبناء هذه الشريحة العظيمة وحرمت العراق من الاستفادة من طاقاتهم المتدفقة, يعانيه اليوم بصورة ما مثقفو العراق إلى الحد الذي نرى بأن طبقة المثقفين فعلاً تتابع دروب الاولين حاملة أحزانها وأوجاعها تاركة العراق رغماً عنها لا طلباً لغنى ولا طلباً لراحة بالٍ، لكن سعياً وراء أملٍ بعيد هو الحياة من أجل هذا البلد، فرغم أن الجراح أثخن من أن تحتمل وان الفراق أصعب من ان يطاق لكنها الحياة ياأحبتي وعلينا الصبر والعبور علنا في يومٍ من الأيام نعود إلى أعشاشنا لنبنيها من جديد وهي أمنية طالما تمناها مثقفونا بالأمس فمنهم من قضى نحبه في الغربة كما حصل مع شاعرنا زاهد محمد زهدي ومع غيره، ومنهم من ينتظر هناك ويرقب الأرض الخضراء مشتعلة بالنيران متسائلين متى تخبو النار لكي نعود؟ وآخرون يطرقون الأبواب طمعاً بالنجاة لا بالهروب، لكنهم جميعاً يحلمون بالعودة من جديد وان يساهموا ولو من بعيد في إخماد النار والزرع من جديد لتعود أرضنا خضراء وليحصل أبناؤنا على ما حرمنا منه، فيا ترى هل يمهلنا الزمان لنرى حلمنا حقيقة أم ستأكل النيران أحلامنا؟. أم هل سيبقى قدر المثقفين في هذا البلد مأساويا إلى الحد الذي تصدق معه مقولة الكواكبي الشهيرة ((الغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره وهذا سبب أن كل الأنبياء العظماء وأكثر الأعلام وألادباء والنبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يشكل لجنة وزارة أمنية مصغرة وسط دوامة من الخلافات بش


.. فايز الدويري: جيش الاحتلال فقد كثيرا من القدرات التي كان يمت




.. أصوات من غزة| تكافل وعطاء رغم الحصار وقسوة النزوح


.. لحظة قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا بخان يونس جنوبي قطاع غزة




.. الجيش الإسرائيلي ينقل صلاحيات قانونية بالضفة الغربية لموظفين