الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في رواية -عمارة يعقوبيان- لعلاء الاسواني

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2008 / 3 / 16
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


منذ أن نشر علاء الأسواني روايته الشهيرة “عمارة يعقوبيان” والساحة الأدبية تردد صداها. فقد بيع أكثر من 250 ألف نسخة ثم تحولت إلى فيلم ومسلسل تلفزيوني يعرض على الفضائيات العربية. وهذا يدل على عمق التأثير الذي أحدثته الرواية من إشارة بشكل جريء إلى بؤر تكاد تكون معتمة وإلى دلالات مكانية وزمانية تهيكلت خلال التاريخ المصري المعاصر. والراوي يحاول من خلال مواقف شخصياته أو الحوار الدائر بينها أن يدل عن حالة سائدة بين بعض الشرائح التي أفرزتها المراحل المتلاحقة في القرن العشرين.‏

اختزالات مكانية :‏

تحاول الرواية اختزال مصر كوطن في عمارة يعقوبيان والتي مثلت كل شرائح المجتمع المصري من خلال الطبقة الفقيرة المسحوقة أو الطبقة الغنية ، حيث تفرق بين الفئة التي انتفخت حديثا أو التي أهملت ما بعد الثورة وظلت فاعلة اجتماعيا رغم الخسارة التي منيت بها على الصعيد السياسي. فهذا المكان الصغير الموجود في العاصمة يضم فئات المجتمع المصري بكل تشعباته . فالعمارة تحمل رمزا أكثر مما تحمل واقعا رغم وجودها على شارع سليمان باشا. وهنا يبدو الاختزال رمزيا خاصة إذا ما استحال على المرء اختزال الأماكن كلها في عمارة أو شوارع مصر في شارع واحد. العمارة تحمل أكثر من رسالة يحاول الأسواني تمريرها من السرد الروائي.‏

اختزالات زمانية :‏

يركز الأسواني على تاريخ مصر الحديث والمعاصر حيث يبدأ هذا التاريخ بإنشاء عمارة يعقوبيان عام 1934 بواسطة المليونير الأرمني جاكوب وحتى عصرنا الحالي . وبهذا الحصر يتعرض إلى جملة من الأحداث والمتغيرات التي ساهمت في بلورة واقع مصر اليوم. فهو ينطلق من مكان وزمان ذو دلالة ليأخذ بيد القارئ ويدله على الورم وأسبابه.‏

شخصيات وأحداث :‏

تبدأ الرواية بالحدث الأول مع نزول زكي الدسوقي من شقته إلى مكتب الهندسة في العمارة الواقع في شارع سليمان باشا . فزكي هو وريث طبقة إقطاعية سياسية بائدة حيث كان رد فعلها على التهميش السياسي والاجتماعي هو ظهور اليأس من العودة إلى المراتب الماضية ومن ثم وقوعها في هاوية اللذة والشراب الذي أدى بهذه الشخصية أي الدسوقي إلى سلوك افقده وقاره وحتى صدامه مع شقيقته التي انعزلت وسقطت تحت نير الاكتئاب أيضا. ومن ثم طرده أمام الجيران من الشقة ومحاولة طرده من المكتب.‏

شخصية الدسوقي تختتم الرواية وهي سعيدة بما حققته من سعادة ونجاح باهر في مجال الحب الذي حصلت عليه من الفتاة الفقيرة بثينة السيد والتي كانت تسكن على سطح العمارة. هي شكل رمزي من اتحاد هذا الصنف من البشر مع الطبقة الفقيرة بعد أن عانت واقعاً جديداً رسمته لها شريحة من هذه الطبقة. بثينة هي فقيرة تبحث عن لقمة عيشها لإطعام إخوتها رغم تعرضها للابتزاز وهنا تكمن رؤية الكاتب حول الفقر المدقع والأخلاق والشرف بشكل يرسم ملامح كل ذلك في العلاقة التي قبلتها بثينة مع طلال صاحب المتجر أو مع الدسوقي لاحقا. ومن خلال علاقتها مع طه نرى أن المثاليات التي يعظ بها لا تنفع مع بثينة لأنها في النهاية يجب عليها إطعام أخوتها الجائعين. ويبرز طه الشاذلي من خلال علاقة الحب التي تربطه ببثينه فهو يبني لنفسه عدة أحلام لم يتحقق منها شيء. فحلمه بأن يصبح ضابط في الشرطة ، كان يكبر عندما كان يخدم اسر البناية ويمسح الدرج ، وكان يكبر إلى جانبه زواجه من بثينة. وتبدأ هذه الأحلام بالتحطم الواحد تلوى الأخر على صخرة واقع فاسد ترسمه المحسوبيات والتراتبية الاجتماعية. خاصة عندما عرف الضابط الممتحن أن مهنة والده بواب. ثم تنحرف عنه بثينة لما طرأ على شخصيته وسلوكه من تغير إذ أصبح شغله الشاغل بعد دخوله السجن الثأر لنفسه من ضابط الشرطة.‏

تلعب شخصية طه الشاذلي محورا مهما في سرد الرواية فهو شخصية بسيطة فقيرة تحلم بمستقبل مشرق صحي ثم تتحول لظروف الواقع المنحط إلى شخصية عصابية إرهابية متطرفة. هذا التطرف تغذى على فساد منظومة الحياة العليلة. شخصية طه عبارة عن ناقوس يؤرجحه الأسواني لنسمع دقاته الحذرة ويقول لنا أن الفقر والفساد ينتج الإرهاب والتطرف. وأن التعامل مع الناس بتعال وإلغائهم بهذه الطريقة يولد الحقد ومن ثم الثأر والفوضى.‏

هذا الواقع أنتج أيضا شخصية كمال الفولي . الرجل الانتهازي الذي “ انضم إلى كافة تنظيمات السلطة بالترتيب ففي العهد الناصري كتب عن التحول الاشتراكي وعند التحول إلى الرأسمالية صار أشد أنصار الخصخصة والاقتصاد الحر (ص-114) “ . هو يمثل أيضا الشخصية الفهلوية ومثقف السلطة الذي يزوّر الانتخابات للذي يدفع أكثر. رسمه الأسواني بنظراته النافذة ومنظره البذيء السوقي. الفولي احتك مع شخصية أخرى استوفت سردا مطولا هي الحاج عزام . وعزام أتى من الحضيض. من مهنة ماسح أحذية إلى أكبر تاجر في شارع سليمان باشا. أصبح مليونيراً بعد تجارته بالمخدرات وهو رجل غير مثقف، فظ تقتله الشهوة التي أدت به إلى زواجه من سعاد جابر الشابة الجذابة وهو الرجل المترهل. حيث ينتهي الزواج إلى مأساة بالنسبة إلى سعاد التي تحاول أن تحمل من الحاج عزام. وهنا يتعاون الفولي مع الحاج كي يقدمه للانتخابات مقابل مبلغ مالي كبير حيث يقول الفولي عبارته الهامة ليطمئن شريكه الحاج ويختصر آراءه بالناس والشعب ( ص-120) : “الناس الساذجة فاهمين إننا نزور الانتخابات. لأننا دارسين نفسية الشعب المصري كويس..المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة...لا يمكن لأي مصري أن يخالف الحكومة. . هناك شعوب طبعها تثور وتتمرد إنما المصري طول عمره يطاطي لأجل يأكل عيش. الكلام ده مكتوب بالتاريخ. الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا “ . الشراكة لا تتوقف على السياسة بل تنتقل إلى التجارة، حيث يقاسم الفولي الحاج عزام على تجارة السيارات. لكن الأسواني يورد جملة بالغة الأهمية يريد أن يقول من خلالها الكثير خاصة عندما حان وقت توقيع العقد بين الحاج عزام والممثل الياباني عن الشركة. ورد هذا على صفحة 278 برسم بالغ الذكاء:“ الحاج عزام بقامته الضخمة ووجهه السوقي ونظراته المراوغة وبجواره يجلس رئيس شركة تاسو بقامته اليابانية الضئيلة ونظراته المستقيمة ووجهه المهذب الجاد ، وكأن المفارقة بين مظهر الرجلين تلخص المسافة الشاسعة بين ما يحدث في مصر وما يحدث في اليابان “ .‏

وتأتي شخصية حاتم رشيد الصحفي صاحب الأصول البرجوازية العريقة الذي يتعرض لاغتصاب ومن ثم يتغير سلوكه حيال الجنس الأخر. هذا السلوك الذي يدفعه في مجتمع محافظ إلى الموت عن طريق الشاب الصعيدي عبد ربه. وكأن الأسواني يريد أن يطرح بجرأة شخصية لم تكن مرغوبة وتسبب اشمئزاز القارئ العربي لما تحمله من شذوذ وآثام.‏

وربما عملت شخصية أبسخرون خادم الدسوقي وأخوه ملاك كخلفية مكملة للرواية. لعبت في سير الأحداث وفي تكامل الصورة وفي اختزال المجتمع المصري بطبقاته وفئاته وطوائفه. فابسخرون الضعيف البسيط يحمل أيضا أحلاما ومهمات أهمها إعانة أسرته وأولاده وشقيقه . ويحاول الأسواني رسم صورة هامة من خلال وضع أبسخرون الأوراق المالية وراء صورة السيدة مريم العذراء . هذه النقود التي اقتنصت من خلال التوفير الطويل السري من معلمه الدسوقي . هي طريقة مبسطة للغش وطريقة أخرى للفهلوية الاجتماعية السائدة. ‏

الخاتمة :‏

الرواية تختم بحفل زواج الدسوقي من بثينة ، هنا يتساءل المرء لماذا ينجح مثل هذا الزواج بين الكهل زكي ويفشل مع كهل آخر الحاج عزام. السبب هو كما يريد أن يخبرنا الأسواني بأنه الحب الذي آلف بين الأولين والنزوة والشهوة والمصلحة التي جمعت بين الاثنين الآخرين. إعجاب بثينة بالدسوقي يذكر إعجاب الغجرية في رواية (احدب نوتردام) بضابط الشرطة. هي طريقة للشعور بالأمن المعنوي والمادي.‏

تجلت رائعة علاء الأسواني بأنها تطرق عددا كبيراً من الأبواب وعلى عدة أصعدة ولا تخلو من جرأة سياسية واجتماعية إذ تطرح مشاكل مازالت عالقة. وربما عبرت بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الأحداث والشخصيات عن النظرة الليبرالية التي أرادها الكاتب، هذا إذا عرفنا بأنه عضو في حركة كفاية اللبرالية، وبذلك تم توظيف أفكاره من خلال روايته الرائعة والتي تؤرخ لمرحلة هامة في تاريخ مصر.‏













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قتيل وجرحى في انهيار مبنى بمدينة إسطنبول التركية


.. مبادرة شابة فلسطينية لتعليم أطفال غزة في مدرسة متنقلة




.. ماذا بعد وصول مسيرات حزب الله إلى نهاريا في إسرائيل؟


.. بمشاركة نائب فرنسي.. مظاهرة حاشدة في مرسيليا الفرنسية نصرة ل




.. الدكتور خليل العناني: بايدن يعاني وما يحركه هي الحسابات الان