الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجازر الأرمن والمحنة الفلسطينية.. أيكون الفن وحده من يصغي لصوت الضحية؟

ليندا حسين

2008 / 3 / 16
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


بالتأكيد لا يفرح كثير من مواطني "أورهان باموك" بتصريحاته التي أطلقها دون تحفظ حول الجرائم التي ارتكبتها الدولة العثمانية في حق الأرمن والكرد. ليس صعبا تفهم شعور بعض الأتراك بالإهانة من هذه التصريحات. لكن صمتهم على أية حال شكل من أشكال التواطؤ وموقف هش ربما يعكس خوفا من الجدل أو حتى براغماتية تتطلبها المصلحة العامة. الجدير بالانتباه هو الشجاعة التي استند عليها هذا المثقف الكبير لإعلان موقف شديد الحساسية، قد يلصق الخيانة باسمه حتى آخر أيامه. باموك كان يدرك بالتأكيد عواقب انقلابه على "الكبرياء القومية" لأن موقفا مخالفا في هذا المنحى يجلب كراهية قد لا تمحوها لا نوبل للآداب ولا أية تشريفات أخرى. كراهية لن يشفع له فيها لا إبداعه ولا شهرته ولا حقوقه الفطرية في المعتقد وفي التعبير. هذه الكراهية التي تكللت في تهديدات خطيرة وجدية كان قد تلقاها الكاتب التركي الأشهر، دفعته لمغادرة البلاد والتوجه إلى الولايات المتحدة حيث يقيم اليوم.

من المؤكد أن آراء باموك بشأن مجازر الأرمن قد دفعت الكثير من مواطنيه إلى إعادة النظر في حقائق تاريخية كانت قد همشت وعتم عليها منذ دهر. البعض الآخر بالمقابل لم يتسن له أي وقت للتفكير والتمحيص فقد كان شعورهم بالإهانة أقوى وأشد ضراوة من بعض شكوك قد يثيرها هذا المدعي الذي يسيل لعابه لنوبل. كل الاتهامات التي كيلت لباموك في أرضه يمكن تفهمها إذا وضعنا في البال تلك العاطفية والأنفة والفطرية التي مايزال يتمتع بها الأتراك. إلا أنه تحت نفس ضغوط هذه العاطفة وهذا الكبرياء والانتماء أعلن أورهان موقفه. ترى أي امتنان وأي حب يشعر به الأرمن وأقرباء الضحايا منهم لهذا الموقف النبيل. اعتراف من الجانب الظالم بألم المظلوم. محاولة اعتذار ولو متأخرة عن الجرائم الوحشية التي استهدفت هوية شعب بأكمله.

الضجة التي أثارتها وتثيرها مواقف باموك بهذا الخصوص تعادل بأهميتها نضالات ومحاولات سابقة مجتمعة سواء جاءت من الطرف الأرمني أو من الأطراف الأوروبية وغيرها. لأنها اعتراف صادم ومدوّ أتى من طرف الجاني لو صح التعبير. مثل هذه المواقف لا نجدها كثيرا. هذا التخلي عن الطمأنينة التي يتمتع بها القوي والنزول إلى ساحة الضعيف لمشاركته نضاله والاعتراف بمعاناته والسعي لإعادة حقوقه ولو على حساب هذا الهدوء والسلام الوردي.

وإذا كان باموك قد بت برأيه الشجاع في حرب ليست إلا ذكرى من الماضي، فإن موقفه هذا كان ربما سيكون أكثر بطولة وعمقا وشاعرية لو أنه تعلق بحرب طرية، بصراع حي ومعركة معاشة كما صدر مؤخرا وأيضا قبل ذلك عن دانييل بارنبويم قائد الأوركسترا الإسرائيلي الذي قال في لقاء معه في الأسبوعية الفرنسية لونوفيل أبسرفاتور: "الإسرائيليون يقولون يجب أن نعطي الفلسطينيين هذا الأمر أو ذاك. وهذا جوهر الخطأ: فنحن لا نمنح الفلسطينيين هدية، وإنما نعطيهم حقّهم". ثم يضيف أنه سيقيم في احتفالية إسرائيل بالذكرى الستين لتأسيسها حفلا موسيقيا في تل أبيب تحت عنوان "الاستقلال ـ النكبة" لأنّ الفلسطينيين يطلقون هذه الصفة على هذا اليوم بالتحديد. "لا يسعنا الاحتفال بأحد الأمرين على حدة" يقول بارنبويم للمجلة الفرنسية.[1] بارنبويم الذي نال مؤخرا الجنسية الفلسطينية بناء على طلبه في سابقة لا مثيل لها، كان قد صرح قبل ذلك بمدة بالقول: "هل يتوافق احتلالنا وسيطرتنا على شعب آخر مع إعلان الاستقلال؟ هل لاستقلالنا أي معنى إذا كان يمارس على حساب الحقوق الأساسية للآخرين؟[2] مثل هذه التصريحات غير المعتادة لم تخرج حتى من أطراف كانت معنية عاطفيا على الأقل بالإحساس بمحنة الفلسطينيين في غزة مؤخرا وعلى سبيل المثال. تصريحات بارنبويم ومواقفه لا يمكن تثمينها لأنها تأتي من الطرف الآخر في القضية. الطرف الذي كان لن يخسر شيئا لو صمت، بل ربما لكان وفر على نفسه الكثير من وجع الرأس والاتهامات والتخوينات وربما من يدري تهديدات بالقتل على غرار التي تعرض لها أورهان باموك.

هذان المثالان لا يمران كثيرا في الحياة الثقافية. وأما السياسية فلا ولن على أية حال. حالتان تثيران أسئلة عن معيار صدقنا في ما يخص انتماءاتنا وإيديولوجياتنا التي ربينا عليها. كم هي متأصلة هذه الهشاشة وهذه الاستكانة لمسلمات ربما لا نخسر شيئا لو أعدنا النظر فيها سوى مسح الغبار المتراكم على جلود أفكارنا. هل يتجرأ العالم بين الحين والحين على رؤية أخطائه كخطوة أولى للاعتراف بها؟ هل سيتجرأ يوما على النظر في عيون الضحايا وعلى إصاخة السمع لصرخات المظلومين؟ وهل سيأتي يوم يقرر فيه إعادة النظر بكبرياءاته الدينية والسياسية والقومية؟ من يدري ماذا سيجد هناك وسط تلال مكدسة من الفتوحات التاريخية! وكيف ستبدو التعريفات الجاهزة والإدانات المطلقة لو أعيد النظر مرة واحدة في ضوء شمعة يشعلونها للضمير الإنساني عله يبصر.

[1] حوار مع دانييل بارنبويم ترجمه بسام حجار. المستقبل - نوافذ (2 مارس 2008).
[2] دانييل بارنبويم. لوموند ديبلوماتيك (يونيو 2004).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيارة الرئيس الصيني لفرنسا.. هل تجذب بكين الدول الأوروبية بع


.. الدخول الإسرائيلي لمعبر رفح.. ما تداعيات الخطوة على محادثات 




.. ماثيو ميلر للجزيرة: إسرائيل لديها هدف شرعي بمنع حماس من السي


.. استهداف مراكز للإيواء.. شهيد ومصابون في قصف مدرسة تابعة للأو




.. خارج الصندوق | محور صلاح الدين.. تصعيد جديد في حرب غزة