الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجامعة العربية تترنح، لأنها دون جذور

ناجح شاهين

2008 / 3 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


هناك من يظن بأن التعليم لعبة محايدة منفلتة من اطارها التاريخي-الاجتماعي. ويذهب أصحاب هذا الرأي حد القول بأن التعليم يمثل آلية لنقل العلم للأجيال الشابة يستوي في ذلك أن يكون المرء صينيا أو فرنسيا أو عربيا وربما حتى اسرائيليا. بهذا المعنى يبدو وكأن العلم لا وطن له، أو قل أنه يتعالى على الأوطان خاصة، والشروط الاجتماعية-التاريخية عامة. ولعل ما يعزز هذا الاعتقاد هو انتشار الثقافة الأمريكية على نطاق واسع في العالم بحيث تعطي زخما لفكرة مفادها أنه ليس التعليم فحسب، وانما كل مظاهر الحياة تتجه نحو التماثل على نطاق كوني. وهذه الظاهرة الأخيرة تأخذ المصطلح الرجراج الذي لم يعد أحد يعرف معناه المحدد على وجه الدقة، نعني بالطبع مصطلح العولمة.
نود في هذا السياق أن نؤكد أن العولمة انما تعني في الواقع تكريس ثقافة واحدة على مستوى عالمي مثلما تعني تكريس هيمنة اقتصادية وسياسية على حد سواء. وليس المثقف وصانع التعليم في الوطن العربي بغريب عن ذلك كله. لعل العكس هو الصحيح، نعنى أن العرب أدرى من غيرهم بطبيعة ما يجري لأنهم يشهدون آثار سياطه على ظهورهم بالذات. من هنا لا نرغب في الاطالة في توصيف هذه الظاهرة وانعاكاستها العامة مكرسين الجهد لموضوع التعليم الذي يشكل في رأينا جسرا لا غنى عنه لأمرين في أشد الأهمية والحساسية: أولا ان التعليم بطبيعته التاريخية منذ أقدم العصور كان وما يزال حجر الزاوية في تحقيق الوحدة المجتمعية للدولة. وبالنسبة للدولة الحديثة على وجه التحديد فهو يؤدي دورا هائلا يتمثل في بناء الأساس القومي ل الدولة-الأمة، ومن يجهل ذلك فقط يمكنه أن يتحدث عن تعليم كوني أو معولم أو ما أشبه. نريد أن نؤكد أن التعليم في الولايات المتحدة مثلا تعليم أمريكي بالمطلق. ولا تتعب كتب التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد وما الي ذلك من تكرار نشيد واحد لا يتغير: الولايات المتحدة ربيبة اوروبا، وكل قيمها ومعنى وجودها يأتيان من هناك، خصوصا من انجلترا-لعل ذلك يفسر لمن لا يعرف عمق الاربتاط الأنجلوأمريكي-. وُيرسم خط التاريخ بشكل ملتو لا معنى له لكي يبدأ من اليونان معزولة عن سياقها الحضاري المتوسطي الذي لولاه ما كانت ولا كانت ثقافتها –اللغة اليونانية تدين في وجودها للهجاء الكنعاني من بين أمور أخرى- ويمر بالرومان، ثم دون أن ينبس ببنت شفة يقفز عن العرب وحضارتهم الهائلة ليصل الى أوروبا الوسيطة والحديثة ثم امريكا. الحق أنه لولا هذه الحركات البهلوانية لما تمكن الاعلام الجمعي والأكاديميا في الويات المتحدة من تسويق مفاهيم متهافتة منطقيا مثل "الفاشية الاسلامية". لكن مع اهمال العرب خصوصا وكل من لا ينتسب الى عالم الرجل الأبيض عموما يغدو كل شيء ممكنا. أخشى أننا من هذه الناحية نفعل بأنفسنا ما يفعلونه بنا. ولسنا في معرض يسمح بذكر عورات اخوتنا في الجامعات العربية والا لقدمنا شواهد لا حصر لها على تسويق بضاعة اديولوجية غربية –لكي لا أقول أمريكية- تؤدي الى تقويض هوية المواطن العربي العامة وحتى هويته القطرية بوصفه مصريا أو سوريا أو يمنيا...الخ
نعم ان التعليم حجر الزاوية في تشكيل وعي المواطن –غير العلمي بكل المقاييس- بهويته القومية وانتمائه لبلاده وحضارته. ولا أظن أحدا يجهل عمق تصديق الأمريكي –وعذرا لاصراري على نفس المثال لكنه الأوضح – لفكرة أن بلاده تجسيد للديمقراطية والعدالة دون منازع. وذلك يحدث لدهشتنا الشديدة على الرغم من أن تلك البلاد كانت مرتعا خصبا للعبودية والقهر والابادة الجماعية. وما تزال حتى بعد انجازات حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي ملاذا للعنصرية والفقر وقهر النساء والمهاجرين. ان التعليم يتظاهر –اذا ما ذكر هذه الأمور- بانها شكلية وهامشية، وأن الأساس هو العدالة والمساواة والحريات الفردية الواسعة.
ثانيا: في العصر الحديث تحديدا اكتسب العلم أهمية هائلة تنبع من كونه أصبح يشكل ربما للمرة الأولى في التاريخ الرافعة الأشد فاعلية من أجل المنعة والقوة والازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. اليوم بشكل لا مثيل له تدين البلاد أي بلاد للجامعة –ومن ورائها المدرسة- في نموها الصناعي والزراعي والعسكري والتقني والصحي. كل ذلك واكثر. ولكي أوضح ما أعنيه بذلك ربما تسعف بعض الأرقام في توضيح ماهية وحجم الجامعة المنغرسة الجذور في مجتمعها وشؤونه الأساسية. خصصت جامعة كولومبيا –في نيويورك بالولايات المتحدة- مبلغ اربعماية مليار دولار للقيام ببعض أعمال التوسع العمراني والبحثي. ولكي لا يظن القارئ أننا أخطأنا في كتابة الرقم فان المقصود هو اربعماية الف مليون دولار أي ضعف ما كلفت الحرب في افغانستان والعراق حتى الآن أو ما يوازي نصف الدخل السنوي لكل العرب بمن فيهم الدول العربية المنتجة للنفط.
قد يسعفنا مثال آخر في توضيح الدور المذهل للجامعة في عالمنا المعاصر: تعرضت ميزانية جامعة بنسلفانيا-الولايات المتحدة ايضا- لعجز في الميزانية، فقامت بحملة لجمع التبرعات –قادتها رئيسة تلك الجامعة امي جوتمان- أسفرت عن جمع خمسة مليارات دولار خلال شهر واحد.
ربما تشيرهذه الأرقام الى حجم الجامعة وعظم دورها: مركز قومي لصناعة العلم والثقافة منحازة لبلادها وهموها ومنغرسة فيها. ان الأمثلة السابقة هي عن جامعات خاصة –بمعنى انها ليست حكومية- ولكنها ليست ربحية وادارتها المالية طبعا شفافة. ولكن نشاطاتها –على الرغم من انفتاحها على العالم من نواح عديدة- ليست شفافة، وهي تعمل في كل شيء يهم البلاد بما في ذلك بالطبع النشاطات العسكرية. ومن ذلك لكي نكون أكثر وضوحا، القيام بأعمال البحث الللازمة سياسيا وعسكريا لتسهيل الاحتلال الأمريكي للعراق أو أفغانستان: ان مشاكل الجنود الأمريكان في مطاردة العراقيين ليلا على سبيل المثال يتم البحث عن حلول لها في الجامعات ومراكز أبحاثها، ومع ذلك تحافظ المؤسسة الأكاديمية على قشرة زاهية تؤكد على قيم العلم المحايدة وكونيتها.
ماذا نريد من كل ما سبق؟ الأكاديمي في الوطن العربي يتغنى بالشهادة التي جاء بها من جامعة غربية، ويتبجح بالانجليزية غالبا لتكريس الولاء لقيم الآخر واحتياجاته البحثية، وهذا يعني ببساطة أحد أمرين أو كلاهما معا: ان دور الجامعة في البلاد العربية منبت الصلة عن سياقه الاجتماعي-القومي، وأن ما تقوم به يسهم في طرح ومعالجة اشكاليات وهموم الآخر التي قد لا تتقاطع وربما تتناقض مع همومنا واحتياجاتنا.
ليس في وارد هذه المقالة التنطح لعرض حل لهذه المعضلة التي تجعل التعليم في بلادنا تبعيا -بالمعنى البنيوي للكلمة- بحيث يجعلنا دون أن ندري نهدر الجهد والمال في عمل لا نقول لا طائل تحته، وانما نخشى أنه عمل يقوض مستقبلنا ويرهنه في خدمة الآخر الى زمن غير منظور. لا بد للخروج من المأزق من غرس الجامعة عميقا في واقعها العلمي، والثقافي، والاجتماعي العربي ورفدها بامكانات حقيقية لكي تتمكن من القيام باسهام حق في بناء الواقع الذي تنتمي اليه وفي اطار مصالح وخصائص واحتياجات أوطانها لا أوطان الاخرين.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد يختبران مدى التوافق بين عمار وريم ????


.. بحثا عن غذاء صحي.. هل المنتجات العضوية هي الحل؟ • فرانس 24 /




.. خروج مستشفى الأهلي المعمداني عن الخدمة بعد العملية الإسرائيل


.. إسرائيل قطعت خدمات الاتصالات على قطاع غزة منذ نهاية شهر أكتو




.. أمهات المحتجزين الإسرائيليين ينظمن مسيرة في الكنيست