الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا طيرة طيري...

صبحي حديدي

2003 / 12 / 23
الادب والفن


قبل أسابيع كتبتُ أمتدح الدورة الثامنة لـ "مهرجان السنديان" الثقافي، الذي تقيمه (في قرية الملاجة الساحلية، مسقط رأس الشاعر السوري الراحل محمد عمران) جمعية أهلية اعتماداً على تبرعات عدد من المؤسسات المدنية والمتطوعين، وتشرف عليه الشاعرة رشا عمران. وإلى جانب اللائحة المتمـــيّزة من المبدعات والمبدعين الذين شاركوا في مهرجان هذه السنة، أنجــــزت إدارة الســـــنديان نقلة حاسمة فكرية ـ سياسية حـــــين أقامت المهرجـــان تحت شعار "الإيمان بدور الأدب والفنّ في تهذيب والارتقاء بالمجتمع من خلال بناء الفرد الإنسان الحرّ، وبالحوار الديمقراطي أسلوباً للارتقاء". وكانت تلك نقلة نوعية نحو السياسة البيّنة، مثلما هي خطوة ارتقاء بالعمل الثقافي الذي لا يستطيع التملّص من هموم الاجتماع والمجتمع.
واليوم يبهجني أن أمتدح لفتة ثقافية أخرى متميّزة، تبادر إليها هيئات المجتمع المدني بدافع وطنيّ ـ ثقافي، بعيداً عن أجهزة الدولة الرسمية، ودون انتظار شيء منها في الواقع. فقد حملت أخبار دمشق أنّ فرقة "إنانا" المسرحية السورية قرّرت إحياء الذكرى المئوية لرحيل المسرحي السوري الرائد الشيخ أحمد أبي خليل القباني (1836 ـ 1904؟)، وذلك على نحو متواضع وبليغ في آن: دعوة فنّاني المسرح ومحبّيه والعاملين في الحقل الدرامي إجمالاً إلى التجمع أمام مسرح القباني في العاصمة دمشق، وإشعال شمعة وفاء في ذكرى الراحل الكبير، قبل التوجه إلى مسرح الحمراء حيث يُقام حفل مسرحي ـ موسيقي يتضمن مشاهد من أعمال الراحل.
وفرقة "إنانا"، لمن لا يعرفها، هي "كركلا سورية"، في أقلّ تقدير. وأعمالها المتميّزة ("هواجس الشام"، "أجراس القدس الدمشقية"، "أبناء الشمس"، ...) حظيت بالتقدير الواسع لأنها تقدّم مقترحات مسرحية طليعية لتاريخ الحضارة العربية، وللفولكلور السوري بصفة خاصة، وتحاول تقديم الرقص الشعبي في صياغات جديدة تمزج بين التراث وفنّ الباليه. وليس اهتمامها بإحياء ذكرى الرائد المسرحي الكبير سوى تذكرة جديدة بخياراتها الجمالية والفكرية، التي لم يعد في الوسع إغماض العين عن دلالاتها السياسية الصرفة في واقع سورية الراهن، حيث تخوض قوى المجتمع الحيّة معارك شرسة (وليس في النعت هذا مبالغة، والله يعلم!)، متعدّدة الأشكال، شديدة الذكاء في التحايل على قوانين الإستبداد، ثقافية وفنّية وفكرية وحقوقية، من أجل سورية أفضل.
وبالنسبة إلى فرقة مسرحية طليعية، مَن أجدر بالاحتفاء من الشيخ أحمد أبي خليل القباني؟ ففي نهاية الأمر، لقد كان الراحل الكبير طليعياً في المسرح، وطليعياً في الفولكلور والأغنية الشعبية (نتذكّر أنه صاحب اللحن الشهير "يا طيرة طيري يا حمامة"، وعدد آخر من الأغنيات والألحان التي نتغنى بها جيلاً بعد جيل، دون أن تفقد بريقها وجاذبيتها).
وليس أفضل من قبّاني آخر كبير، راحل بدوره، في تصوير ريادة أبي خليــــل، ومحنته. يكتـــــب نزار قباني، الذي كان الشـــيخ عـــمّ والدته وشقـــــيق جدّه لأبيه: "قليلون يعرفون أنه هزّ مملكة، وهزّ باب (الباب العالي)، وهزّ مفـــاصل الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر. أعجوبة كان هذا الرجل. تصوّروا إنساناً أراد أن يحـــوّل خانات دمشــــق التي كانت تــــزرب فيها الدواب إلى مسارح، ويجعل من دمشق المحافظة، التقية، الورعة، (برودواي) ثانية. وفي غياب العنصر النسائي اضطــــرّ الشيخ إلى إلباس الصبية ملابس النساء، وإسناد الأدوار النسائية إليهم، تمـــــاماً مثلما فـــعل شكسبير في العصر الفيكتوري (...) وطار صواب دمشق، وأصيب مشايخها ورجال الدين فيها بانهيار عصبي، فقاوموا بكل ما يملكون من وسائل، وسلطوا الرعاع عليه ليشتــــموه في غدوه ورواحــــه، وهجوه بأقذر الشعر، ولكنه ظل صامداً، وظلت مسرحياته تعرض في خانات دمشق، ويقــــبل عليها الجمهــور الباحث عن الفنّ النظيف".
وبالطبع، كان أمراً محتوماً أن يصدر فرمان سلطاني بإغلاق أوّل مسرح طليعي عرفه الشرق. ولكنّ هذا لم يشف غليل الرجعيين والمنافقين من رافعي لواء الدين والأخلاق، فأحرقوا مسرحه، وحاصروا منزله، وكانوا يرسلون وراءه صبية سفهاء يهتفون له: "أبو خليل النشواتي/ يا مزيّف البناتِ/ ارجعْ لكارك أحسن لك/ إرجع لكارك نشواتي/ أبو خليل مين قال لك/ على الكوميضيا مين دلك/ إرجع لكارك أحسن لك/ إرجع لكارك نشواتي". وهكذا غادر أبو خليل إلى مصر، وبقي فيها منفياً طيلة 17 عاماً، حتى سنة 1900، حين عاد إلى دمشق ليكون هذا هو تاريخ انطلاقة المسرح السوري الحديث.
والسوريون كرّموا أبا خليل مراراً، وفعلوا ذلك غالباً على نحو مدني مستقلّ، بمعزل عن أجــــهزة الثــــقافة الرسمية (نتذكّر، في المثال الأبرز، مسرحية الراحل سعد الله ونوس "سهرة مع أبي خليل القــــباني"). وكانوا دائماً يستلهمون في المسرحي الكبير حسّ الريادة، وعقـــــابيل القهر، وروحية المقاومة، وإصرار الإبداع على البقــــاء أياً كان شكل الاستبداد المهيمن على العباد. وأعترف أنّ مبادرة "إنانا" تجـــعل امرءاً مثلي يتذكّر أبا خلـــــيل المنفيّ أوّلاً، قبل أن يدندن: "يا طــــيرة طيـــري لوادينا/ واحكيلو علّي مبكّينا..." .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل