الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام القبض على الدكتاتور6 أحفاد الدكتاتور

حمزة الحسن

2003 / 12 / 23
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


مثل أي إخطبوط أو كائن عضوي متفسخ أو ظاهرة منحرفة، لا يولد الدكتاتور من فراغ ولا يذهب إلى فراغ. إن القول بذلك يمثل وهم الأوهام.

ومن يقرأ هذه الأيام بعض مقالات تحمل نسب الفكر السياسي أو الثقافي أو ما شابه أو شجرة الوهم الكتابي ويعود بالذاكرة قليلا إلى أيام ما قبل الظهور العلني للدكتاتور على مسرح العري السياسي، سوف يكتشف بدون عناء اننا نعيد خلق التجربة ذاتها بذات المواصفات وحتى بدون تحوير.

هذه المقالات لا تناقش ظاهرة لأنها أعجز من أن تفهم ما يدور من صراع سياسي ضخم، ولا ترصد قانونا ثقافيا أو سياسيا لأنها لا ترى  ـ إذا كانت ترى ! ـ شيئاً لأنها مقالات إنشائية تكرس حالة العمى العقلي،لكنها متخصصة في رصد خصوصيات الآخرين وطراز عيشهم وفرشاة أسنانهم وطعامهم الخ ..الخ.. فهذه أهم من مصير الوطن،  وكل  ذلك لغرض التحريض والتعبئة والتجييش لا أكثر ولا اقل. وعلى رأي الكاتب والمفكر عبد الإله بلقزيز فإن الإرهاب الفكري ولغة السلطة التي احترفتها شريحة محددة باتت معروفة من بعض أهل القلم هي(لغة القدح والذم، والتشنيع، والتشهير، والسجال المتجه نحو تسفيه الخصم والتحريض ضده، تصيد الثغرات قصد تجييش الجمهور،التأويل غير الموضوعي للنصوص على النحو الذي يحشر الخصم في زاوية الاتهام... أي كل ما يحول الخصم إلى" شيطان" رجيم يحمل اللسان على الاستعاذة به!) وهذا الإرهاب الفكري لا تمارسه شرطة دولة فحسب بل يمارسه " مثقفون" أو أشباه يعرّفون أنفسهم على أنهم " معارضون" لسلطة إكراه، لكن الواقع والممارسة العملية تقول عكس ذلك فهؤلاء يمارسون في بعض حالات ما تخجل أقذر سلطة فاشية عن القيام به علنا حفاظا على الهيبة الخارجية في الأقل، لأن الإرهاب يمارس ضد أشخاص من أجل( ابتزازهم، أو النيل من هيبتهم وسمعتهم، أو تحريض الجمهور عليهم...هذه الأفعال تلبس في الغالب لبوسا ثقافية لكنها في الحقيقة تنتمي إلى السياسة...الناقد يعترض بوسائل حضارية" ثقافية":المناظرة،والحوار،والتحليل، وتفكيك الفرضيات...
أما الإرهابي، فيشهر الاعتراض نصلا من الكلمات الباغيات يتجه إلى التعريض بالمخاطب في طويته،ودينه، ووطنيته،ونزاهته...الخ...فيحرض عليه بالإقصاء والعزل ان هو تساهل، أو يرفع التحريض إلى الإفناء الجسدي إن اخطأ مراقبة انفلات غرائز العدوان...الناقد يعترض بسلاح الرأي، والإرهابي معترض بسلاح الفتك.ينطق الأول باسم تنوع الثقافي، فيما يلهج الثاني بلسان وحدانية السياسي! ـ كتاب نهاية الداعية ).

"ثقافة" التحريض والوصم معادية لثقافة المعرفة: الأولى تنتج سجنا وتشوها وكراهية لا أكثر ولا أقل، والثانية تفتح أفقا معرفيا وتشيع جمالا وحبا وتنمية وحداثة. وكما تحتاج الأولى إلى دعارة أخلاقية وسياسية علنية ومفتوحة، تحتاج الثانية إلى العلم والثقافة والمعرفة والهواء النقي والحوار النظيف: يختنق الإرهابي بالهواء الفاسد الذي يحيطه ويحاول تعميمه بعد تغليفه بشعارات، فيما يتنفس المثقف المعرفي الهواء النقي حتى داخل جيفة!  

وهذه النماذج تزدهر، كما في كل المخلوقات  القبيحة، في مناخ التعفن وغياب المعايير واضمحلال حس العدالة، وسيطرة وسائل نقل إعلامية سياسية تتسم بالجهل والأمية الثقافية والأخلاقية، والأهم  وجود مناخ حاضن وشبكة تسويات ومجاملات وصفقات وحلقات زار وتمادح ترفع شعار الوطني، فيما تبيع وتشتري كل شيء تحته، كمرقص تعرية جنسية" ستربتيز" كتب على واجهته الأمامية: كنيسة أو مسجد تحت الترميم!

فلا أحد يحتج على( اغتصاب) ثقافي وفكري وأخلاقي، ولا أحد يرفع عقيرته ضد إعادة تأسيس قيم ثقافية فاشية من جديد، ولا أحد يهمه مصادرة حرية آخر أو تخريب أخلاقيات الحوار السياسي، لا أحد يحتج، لا أحد يهتم، الكل وحيد في منفى أو سجن أو محبوس داخل جلده!

يبدو الوطن هذه الأيام بحرائقه وموته وتهشيمه ومخاطره القادمة في كثير من هذه الكتابات لا وجود له، بل الموجود هو هوس( السحق) الشخصي وهتاف الابادة وانطلاق غرائز القتل والسحل حتى أن رائحة الدم تفوح من بعض هذه( المقالات) التي تشبه دعوة علنية مفتوحة للجنون الجماعي والقتل. 

والوطن العراقي لم يكن حاضرا يوما في فكر ( نخبة) معروفة من أهل القلم إلا حضور ديكور: فالحاضر مثلا هو البار، أو الشعر، أو الريادة الشعرية، أو الخصم، حتى لو كانت عواصف الاقتلاع قد رفعت كل شيء بما في ذلك السقف: هؤلاء لا يسكنون وطنا، ولا وطن لهم، إنهم يعيشون أسرى، سجناء، محبوسين" داخل جلودهم" بصورة أبدية وكل السجناء يخرجون إلا هؤلاء لأنهم في إقامة أبدية.

إنهم البؤساء الذين كان المسيح ينصحهم قائلا: (إن الحق يحرركم) أي أن التحرر من القيود الخارجية سهل لكن القيود الداخلية هي الأصعب، ومثلها خاطبهم القرآن بأن تغيروا ما في أنفسكم. لكن كيف يغير نفسه من صارت قيوده الداخلية هي البديل العقلي والفكري عن ذات مصادرة ممحوة وصار الشغل الشاغل هو صناعة( واجهة أمامية) للاستعراض، والعمل ليل نهار، وبجهود تستنزف الجسد والنفس، من أجل صيانة وتجميل هذه الواجهة كي لا تثقب أو تتعرى أو تنكشف؟!

وهؤلاء ليسوا ظاهرة عراقية فحسب، بل هم ظاهرة بشرية موجودة في كل مكان وزمان وهي لا تفسر تفسيرا سياسيا فحسب بل يمكن كذلك الاستعانة بعلوم أخرى لدراستها ومنها علم النفس وعلم النفس الاجتماعي الذي يدرس الظاهرة( النفسية) بوصفها ظاهرة اجتماعية.

إنه نوع من المركزية النفسية بحيث يتمحور الفرد حول ذاته ويجعلها  مركز العالم ويفسر كل شيء  انطلاقا منها حتى لو احترق الوطن والدار والثياب.

وهذه المركزية تبحث عن مبرر وشرعية لوجودها غير شرعية العيش البشري الطبيعي، أي تبحث عن شرعية  تصدّر الواجهة أو المشهد الاجتماعي  حتى لو كان مشهد جنازة أو حملة تواقيع  أو سطو على تاريخ أو حضور حفل، أي حفل، فليس المشهد مهما بنفسه بل المهم هو الموقع ، المكان، الكرسي، الديكور، الواجهة.

وهذا ( الفراغ) السياسي والفكري والثقافي هو المكان المثالي لنمو وولادة ظاهرة الدكتاتور الذي يعاد إنتاجه في كل مرحلة على شكل آخر مختلف.

في حقبة الستينات كان الجيل الشعري، مثلا، منخرطا في عالم شعري سحري ضبابي منعش ومهدئ ومطمئن في حين كان العقداء يصنعون تاريخ العراق  في الثكنات ويقودون الكتاب والشعراء والمثقفين إلى السجون أو المنافي. وكان معظم هؤلاء الكتاب والمثقفين والشعراء إما في السجون أو خارج  وظائفهم أوفي المنفى الطوعي، وتُرك الوطن بيد حفنة من المغامرين العقداء الريفيين الأجلاف يعيثون فيه فسادا ونحن ندفع إلى اليوم ثمن تلك( الغفلة) التي اختلطت فيها نرجسية فردية مركزية مع نزعة مرضية في صناعة( واجهة) شخصية على حساب كل الهموم الوطنية.

بجانب تلك الغفلة، كانت تصعد بهدوء وصمت وسرية أقذر فاشية في التاريخ، لكن نخبة أو شريحة " وليس كل"  من أهل القلم والفكر والشعر كانت مشغولة في المقهى أو البار ـ كما هي اليوم ! ـ بخلق الأساطير الشخصية عن "ذات" متوهمة، ضخمة، لا تدور حول العالم، بل العالم يدور حولها، ومن يطلع هذه الأيام على شهادات بعض هؤلاء وهم يعودون إلى الوطن سيكتشف العجب العجاب: إن الوطن في شهاداتهم ليس أكثر من بار أو مقهى حتى أن رائحة الخمر تفوح في هذه النصوص وتتلاشى رائحة الدم، ولا يشكل مرور الدبابة الأجنبية في شارع الرشيد سوى مناسبة للنظر في عيون بعض ( ثم انفجرنا ضاحكين!) كما لو على نكتة عابرة كما جاء في شهادة أحدهم. فليس هذا المشهد الجوهري، مرور الدبابة مناسبة للمراجعة وإعادة النظر، بل هو قطع "غير شعري" لوضع مفرط في "رومانسيته" أما موت الناس والبطالة والجوع والتفجيرات وغيرها الكثير من الفواجع فلا وجود لها في نص الاعتراف لأن وجود( الجماهير) في نصوص الاعتراف يقلل من شعرية النص كما تقول كتب النقد لا كما تقول الحرائق! 

وهذا الوهم المرضي  ـ المتواصل ـ يتيح في كل زمان ومكان الفرصة لصعود الدول البوليسية وفي كل مرة بطبعة مختلفة وعلى هتاف نقض الآخر.

للدكتاتور أسلافه الذين يموتون لكنهم يتركون في الوعي العام الصورة والنموذج والمثال عن السلوك الوحشي البدائي الغرائزي عن السلطة وعن الثقافة وعن الاختلاف الوحشي، وله أيضا أحفاده الذين يسرحون في حقول الصمت والتواطؤ والنرجسية المختلة وتحويل ذات فردية كي تكون بديلا عن وطن يحترق أو يوشك !   








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث تحت الأنقاض وسط دمار بمربع سكني بمخيم النصيرات في


.. مظاهرات في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وإعادة المحتجز




.. رغم المضايقات والترهيب.. حراك طلابي متصاعد في الجامعات الأمر


.. 10 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في حي النصر شمال مدينة




.. حزب الله يعلن قصف مستوطنات إسرائيلية بعشرات صواريخ الكاتيوشا