الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة فرح وراء القضبان

تغريد كشك

2008 / 3 / 25
الادب والفن


عزيزي،
أبحث عن عينيك، عن شقائق النعمان، أسألك عن حمى اللقاء، عن فوضى جميلة ما زال عندي الكثير منها، وما زلت أبحث عنها بين أشيائي الكثيرة المهملة، فوضى تشبه بعمقها القبلة الاولى، تتوغل في ذاكرتي كما كآبة الوحدة، تتلبس كياني دائماً.

عندما اقتادوك إلى المعتقل في ذلك اليوم، كنا نجلس في المطعم، وكان الناس يتناولون طعامهم، قصائدهم وأحلامهم وحتى نساءهم، كانوا يتناولون أحداثاً ثقافية وسياسية، تحدثوا عن المرأة والحب وأنظمة سياسية فاشلة، تحدثوا عن الملابس وعن أحدث مسابقات المحطات الفضائية العربية وعن المقاومة والنضال، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يدركوا طريقة اعتقالك الوحشية حتى ولو عبر انعكاسها من خلال نصل سكين الطعام الصغير اللامع في أيديهم!
مفارقة كبيرة أني حينها كنت ما أزال أعرفك طيرًا صغيراً ما أن يستشعر اقتراب الخطر حتى يفلت من الصياد!
كان الشوق يقيدني، وكانت اللهفة تسيطر عليّ في تلك اللحظة، كنت خائفة من كل ذلك.

الآن أكتب إليك وأنا أجلس إلى تلك الطاولة في ذلك الركن من المطعم، أتجاوز خوفي بعد سنوات لأكتب لك، أتعرف أنني عندما أكتب لك تتحول حروفي إلى لحم ودم، تتنفس تتأوه، تعشق وتتوجع، تشكل ملامحاً للقاء فريد بعيد قد لا يتكرر أبداً.

أتعلم عزيزي أن انقطاعي عن الكتابة لك يشبه نوعاً من صداع الوحدة وكآبتها، تأتيني الأيام طويلة ومملة وكأنها تنتقل على عكازين، وبمجرد التفكير بأنها قد تتحرك على قدميها مرة أخرى أبدأ الكتابة لك من جديد.

أعلم أني مدينة لك بالكثير من الاعتذار لأن أفكاري وانفعالاتي الحادة لم تعد قادرة على الانكسار فوق ومضة عينيك حين تنعسان، لأني أعجز بصمتي وخوفي أن أقول لك بالصوت أني اشتقت لك، لعلي أكون مخطئة في إحساساتي نحو الحاضر والواقع والمستقبل القريب، ولكني ما زلت أشعر بمرارة الحنظل تبدأ في فمي كلما حاولت النطق، ولا تنتهي إلاّ في قلبي كومة ضخمة من الاكتئاب، وألسنة خافتة من الغضب والحقد.
قد لا يمكنني أن أتنبأ كم هو الواقع قاس علينا، أو كم قسونا نحن على الواقع! و لم أعد أعرف إن كان ما أكتبه لك تعبير عن موقف سياسي فاض بكل ما هو قبيح بعد رؤيته لمشهد عسكري غريب، أم هو مجرد خوف إنساني طبيعي جميل?
لا أعرف حتى إن كنت أستطيع تجاهل هذا الوجع والخوف، لأن خوفي أصبح منذ الآن يستبيح مطر القلب المنكسر مع كل اختلاجة!

كنت قبل أسبوعين قد جمعت أغراضي وحزمت حقائبي في محاولة للرحيل، ولكني عدت مساء هذا اليوم أحمل الكثير من القلق والهموم، هل يعني كوني فلسطينية أنني أرتكب جريمة بحق الإنسانية؟ كان انتظاراً طويلاً في محطات السفر، إجراءات سفر طويلة معقدة وصامتة، ينظرون إلينا بحذر شديد، يخافون الاقتراب منا.
كل الترف والبذخ والجمال والموجود في أوروبا لا يمكن أن يعوضني عن لحظات القلق والترقب والخوف، لكني رجعت بهدوء القلق ورهبة الخوف وانتظار المجهول لأعلن من جديد أنني ما زلت فلسطينية الهوية.

طيلة سنوات لم أشتق أنا لسماع صوتك فحسب، بل اشتقت إلى روحك التي لم تفارقني منذ لحظة اعتقالك، ربما هو الشوق القاتل، ربما أصمت كثيراً عن الكتابة لك، فقد يكون في الصمت بلاغة أقوى وفصاحة أعظم، ولكني في أحيان كثيرة أجدني قد كسرت حواجز صمتي ولغة البعيد واقتربت ألامس قضبان سجنك التي ما زالت تنتظرني والتي أتمنى أن تغفر لي يوماً انقطاعي عنها لأنها تشعرني بالاختناق، تمزقني وتشتت وعيي وإدراكي وقدرتي على التركيز، ولكني رغم ذلك لا أقدر إلاّ أن أبقى حبيسة هذه القضبان.

أحيانا أعود بذاكرتي أعواماً إلى الوراء، لكني لا أعود لأستذكرك وأتذكرك، لأنني أحملك دائماً في قلبي ولو أطلقت العنان لشوقي ربما أحرقني، لذلك أحاول أحياناً أن أتسلل إليك من بين الكلمات، من وراء لغة ترهقك وقلبي بومضات من نار شوق قد لا تصل دائماً إلى حدود المعتقل، لكني مع ذلك أعرف أنك تترجم كلماتي لك إلى الكثير من اللغات التي لا تُقال، بل والتي تفقد قيمتها إن هي قيلت.

الآن لم تعد الكلمات تكفيني لأبوح لك كيف ألجا للموت في وطن أعيش فيه حالة من الاغتراب، وكم أتمنى أن يكون ما يشعرني بالبعد والغربة هي المسافة فقط.
لا أعرف عزيزي إن كنت أستطيع أن أشاركك ما تفكر، أو أن أسألك عما تعانيه خلف تلك القضبان الصدئة، ولكني أرغب في ذلك حقاً، فقد بدأ القلق يستوطن روحي، وبدأت أتساءل عما يجري هناك في المعتقل، ردة فعلي لم تعد بطيئة كما كانت، ولكن بداخلي يأس كبير يمنعني من الكتابة، مدينتي بطيئة الحركة وكئيبة الشوارع، كل الأشياء فيها تغيرت لدرجة أنني أفكر أحيانا أن ما يحدث في قطاع غزة لم يعد قادراً على أن يحرك في مدينتي ساكناً، وعندما أنظر إلى الوجوه الكئيبة العابسة وإلى المحلات التي تغلق أبوابها قبل حلول الظلام أرى إنعكاس ما يحدث في مرايا واجهات المحلات المغلقة.

قد يكون اليأس قد استطاع أن يكسر في داخلنا أحاسيساً كثيرة، الحب، الشوق ومعاني كل الكلملت الأخرى التي اعتدنا جمالها، تخيل كيف أصبحت مدينتنا الجميلة مدينة أشباح تدخلها سيارات الاحتلال العسكرية ليلاً دون حسيب أو رقيب، بات مشهدها طبيعياً وحركتها رتيبة واثقة من عدم إمكانية اعتراضها، وأنا أنظر إلى كل ذلك ولا توجد لدي الرغبة في تغيير أي شيء، لدرجة أني لا أجد حرجاً في أن أمسح الغبار بيدي عن مرآتي الوحيدة في الصباح لأتمكن من رؤية انعكاس وجهي المبلل بالماء البارد من خلالها.

في مكتبي كل الألوان أصبحت ضبابية خرساء واجمة، ألوان العلم في الخارج أصبحت كئيبة جداً وثقيلة لدرجة أن السارية أصبحت تنوء بحملها، فمنذ الانقلاب الأخير في غزة لم تعد ألوان العلم تعكس توهج أملنا بالحرية والتحرر، حتى موسم البرد في رام الله لم يعد يحمل الدفء للعشاق الذين ينتظرونه، ولم يعد الليل كافيا لأحلامي الباقية، وباتت وسادتي تئن تحت رأسي المثقل بالأفكار والكوابيس.

كنت أتمنى لو أن كلماتي كانت تستطيع أن تحمل لك أكثر من الدفء، لكن كل الأشياء هنا سوداء تستأصل منا إحساساً ما بالحياة والشوق، واعلم أنه رغم أنك تعيش في مربع زنزانة الكارثة؛ إلا ّ أنك تحمل من الأمل أكثر منا جميعاً، وحي الزنزانة يلهمك شعراً ولا يلهمني سوى الصمت، لا أعرف كيف تهرب مني الكلمات كلما فكرت بك، إحساسي يُفقدني حينها كل الصور، يأخذني إلى عالم تذوب فيه كل الكلملت وتصبح بلا معنى وبلا وجود، كأنها خُلقت للبشر وليس للملائكة من أمثالنا.

منذ سنوات أجبرت نفسي على القلق الدائم بحثاً عنك في أماكن سرية لرفاق الكفاح، والآن تجبرني الحياة على القلق مرة أخرى وعلى الركض من بوابة المعتقل إلى باب المحكمة، زيارات ممنوعة وأخرى يلفها الغياب، نظرات مصلوبة بقوة على قضبان السجن، يدي تلوح بالوداع ويدك تتهرب من لمس الزجاج الفاصل بيننا، أما يد السجان فتقبض دائماً على المفتاح.

عزيزي، منذ أن رحلتَ إلى غياهب الظلم؛ لم يعد للمساء حلاوته المعهودة وباتت سنوات الحرب والرعب تفضح العالم القوي وأمتنا الصامتة أبداً، ولم يعد لديَ متسع من الوقت لأقول لصورتك تصبحين على خير، لكن قلبي ينتظر الآن زيارة جديدة لينفخ على جمرات الغضب من أجل إشعال الثورة في قلوب كثيرة أضناها التعب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل