الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في السياسة والأدب (2)

سهر العامري

2008 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


مما قيل عن العامل الذي وقف حائلا دون استلام الحزب الشيوعي للسلطة في العراق إبان حكم رئيس الوزراء الراحل عبد الكريم قاسم هو وقوف الإتحاد السوفيتي ضد هذا التوجه الذي كان ينادي فيه الكثيرون ممن هم في صفوف الحزب رغم أن تحقيق هدف الاستلام هذا كان لا يتطلب أكثر من أربعة مسدسات مع أربعة رجال من العسكريين الشيوعيين على حد تعبير الضابط الشيوعي سعيد مطر يتم بها وبهم إجبار الزعيم على التنحي من السلطة ، لكن قيادة الحزب وقتها كانت ممنوعة عن تحرك كهذا من قبل الرفيق الأكبر ، الإتحاد السوفيتي .
ويضاف الى هذا أنني قرأت ما يشير الى ذلك من خلال مقابلة أجرتها جريدة صوت الكويت مع القيادي الشيوعي ، ثابت حبيب العاني ، وكانت الجريدة تصدر من لندن بعد أن احتل صدام الكويت عام 1990م ، وكان تاريخ إجراء المقابلة تلك قد وقع في النصف الثاني من شهر كانون أول / ديسمبر سنة 1990م على ما أتذكر.
والذي يعزز صدق هذه الرواية هو ما حدث بعد ذلك بسنوات طويلة ، فقد وقف الإتحاد السوفيتي بقوة ضد التوجه الذي ساد صفوف الحزب بضرورة ترك العمل فيما سمي وقتها : الجبهة الوطنية والقومية التقدمية . تلك الجبهة التي ضمت الحزب مع حزب البعث الحاكم في العراق ، وذلك بعد أن تعرض الحزب الى حملة قمعية فاشية قام بها الحزب الحليف ! والتي بدأت بشكل قاس منذ بدايات سنة 1978م ، حيث تعرضت أعضاء الحزب الى ملاحقات ظالمة قادت بعضهم الى الموت والسجون ، واضطرت البعض الآخر لمغادرة العراق .
جل القاعدة الحزبية في المنافي وما تبقى منها في الداخل وقفت مع فرط العلاقة مع البعثيين والى الأبد ، لكن قيادة الحزب كانت تمانع في ذلك ، مأخوذة بموقف السوفيت الذي كان يطالب بتقديم المزيد من التنازلات ، وعدم فرط العلاقة بالحزب الحكام ، حزب البعث ، وقد روجت تلك القيادة عبارة أشتهر فيما بعد تقول : نحن بصدد درء تدهور العلاقة مع البعث !
لقد سمعت أنا هذه العبارة من فم أبو سعد مسؤول تنظيم كربلاء في آخر اجتماع عقد في بيتي من المدينة المذكورة ، وفي ذروة تصاعد تلك الحملة الشرسة ، ثم بعد ذلك تحول التنظيم في تلك المدينة الى العلاقات الفردية والى أن صدر قرار من قيادة الحزب يسمح لأعضائه بمغادرة العراق .
لقد ظلت القيادة وقتها في حيرة من أمرها ، مترددة لا تستطيع أن تتخذ قرارا حاسما بفرط علاقة الحزب مع حزب البعث ، مثلما تريد القاعدة الحزبية التي توزعتها المنافي ، والتي أصبحت على مسافة قريبة من تلك القيادة التي كانت تسمع بوضوح أصوات أعضاء الحزب الكثيرة ، والمطالب بالخروج من الجبهة وتركها للبعث كي يتنعم بها . هذا من جانب ومن جانب آخر كانت تلك القيادة لا تستطيع تحقيق رغبة السوفيت وحرصهم الشديد في العمل على درء تدهور العلاقة بين الحزب وحزب البعث! حتى لو قدم الحزب المزيد من التنازلات لحلفاء الأمس ، فقد كانت القيادة تعلم انها إن عادت ستعود وحدها ، فقواعد الحزب وقفت هذه المرة موقفا بطوليا بوجهها رغم تعرض الكثيرين من رفاق الحزب الى الملاحقة والمطاردة من قبل تلك القيادة هذه المرة ، وليس من قبل البعث والسلطات الجائرة في العراق .
لكن شيئا متوقعا حدث جعل تلك القيادة تحسم أمرها ، وتصطف مع قواعد الحزب التي باشرت بالتدرب على السلاح خاصة في جمهورية اليمن الديمقراطية ولبنان . ففي زيارة مفاجئة قام بها وزير الدفاع ، علي ناصر عنتر ، ونحن في ساحة التدريب من معسكر يقع في عدن الصغرى ، طلب اللقاء بنا ، ليخبرنا من بين ما أخبرنا به الآتي : رفيقكم عزيز محمد ، سكرتير الحزب ، موجود في عدن اليوم ، وقد التقينا به، ووجدناه غير متردد هذه المرة، ويبدو أنه قد حسم أمره .
كان لنشوب الحرب العراقية الإيرانية أثر كبير على قرار قيادة الحزب في ترك الجبهة لصدام وحزبه ، وقد كنت أنا وغير من أعضاء الحزب نتوقع اشتعال نيران الحرب بين العراق وإيران في شهر آب ، ولكنها نشبت على أية حال في أيلول .
لقد صممت تلك الحرب قوى رأس المال في أمريكا والغرب منذ أن أمرت أمريكا الشاه بالخروج من إيران وسهلت دخول الخميني بدلا منه ، فقوى رأس المال تلك وجدت أن الحرب لا يمكن لها أن تقوم بين العراق وإيران إلا بوجود نظامين طائفيين متعصبين متعاكسين فيهما ، ولهذا السبب حطت طائرة الخميني بسلام في مطار طهران الدولي ، وكان ثمن ذلك قيام تلك الحرب وإرجاع الثروات المالية النفطية التي تكدست في خزائن دول الخليج العربي بما فيها العراق وإيران . تلك الثروات التي نظر لها الغرب على أنها ثروات قد سلبت منه دون وجه حق ، وذلك حين أدخل العرب النفط سلاحا في معركتهم ضد إسرائيل إبان نشوب حرب أكتوبر عام 1973م ما بين العرب وإسرائيل .
أعود لأقول : حدث انقلاب شركات النفط عام 1963م مثلما قرأت ذلك في منشور الحزب الذي مر في حلقة سبقت ، وقد كنت وقتها أمضي إجازة نصف السنة الدراسية مثل غير من طلاب السنة الثانية في متوسطة الجمهورية من مدينة الناصرية ، تلك المتوسطة التي كانت تناوب إعدادية الناصرية للبنين في دوام ، والتي تقع في شارع الحبوبي وقبالة مستشفى الناصرية الرئيس .
في صبيحة اليوم الثاني من ذلك الانقلاب اعتقلت أنا مع بائع طحين يدعى سيد حسين سيد يوسف ، وحملتنا سيارة محروسة بشرطيين مسلحين أحدهما يدعى حمدان ، وكان يقودهما مفوض الشرطة ، حياوي ، وحال وصول السيارة الى قضاء الجبايش زج بي وبسيد حسين بالسجن الذي كان متخما بأكثر من أثنين وأربعين سجينا ، هو حصاد الانقلابين خلال أقل من 48 ساعة ، وكان التهمة الموجهة للجميع هي تهمة الانتماء للحزب الشيوعي العراقي باستثناء رجل واحد كان معتقلا بجرم سرقة ، وهو من بقايا عهد الزعيم عبد الكريم قاسم في تلك الغرفة الضيقة والتي تكاثر فيها القمل والبرغوث بشكل رهيب .
كنت أنا أصغر واحد في ذلك السجن فعمري لم يذرف بعد على خمس عشرة سنة ، ولهذا تفضل علي بقية السجناء في مكان نوم منفرد يقع بين قائمي الباب ، وعلى كومة من أحذية السجناء ، بينما أضطر بقية السجناء على المناوبة في النوم لضيق الغرفة الذي لا يسمح للجميع بنوم وهم ممددو الأجساد . وفي ليلة من هذه الليالي الحالكة سمعت صوت ينادي باسمي ينطلق من فم أحد أفراد الشرطة عند الساعة الواحد بعد منتصف تلك الليلة يطالبني بالخروج من السجن مع حمل فراشي المتواضع معي .
خرجت من السجن وجدت حياوي المفوض بانتظاري فأخذني على مبعدة من بقية أفراد الشرطة ليقول لي : أنت تعلم أنني صديق والدك ، وأعدك بشرفي أنني سأنقذك مما أنت فيه ، ولكن لي شرط عليك هو أن تترك العناد وتشخص الأوراق التي كتبتها أنت بيدك ومن دون أن تعترف على الآخرين الذين اعترفوا عليك وهما : فلان وفلان المعتقلان الآن في مركز شرطة الفهود . وافق أنا على تشخيص أوراق المنشور التي كتبتها بيدي ولا غير ذلك أبدا وحسب الاتفاق التي تمّ بيني وبين حياوي المفوض ، وقد قمت بتشخيص هذه الأوراق في حدود الساعة الثانية بعد منتصف تلك الليلة الشديدة البرودة ، وأمام معاون شرطة قضاء الجبايش المكنى أبو قيس وهو من أهالي كربلاء ، وبعد تشخيصي لتلك الأوراق التفت أبو قيس الى ابنه قيس الذي كان يصطحبه في تلك الليلة قائلا له : هل تريد أن تصبح أحمر مثل سهر ؟
أخذتني سيارة الشرطة مع المفوض حياوي والحرس المرافق ، وبعد الوصول الى مركز شرطة الفهود طلب حياوي أن أسجن في غرفة بمفردي ، ومن دون السماح لي بلقاء الاثنين اللذين كانا يقبعان في غرفة أخرى هما : رشاد حسيين ، وجواد كاظم ، وكان هذا الأخير هو من اعترف علينا ، وقد كانت الصدفة وحدها هي التي فرضت مشاركته لنا في كتابة وتوزيع المنشورات التي كانت تهاجم انقلاب شركات النفط الأمريكية الأسود . تلك الشركات التي يعيث جنودها فسادا في العراق اليوم ، معتقدين خطأ أن العراقيين سيسكتون على الدمار الهائل الذي حلوه بالعراق وأهله وبالتعاون مع الجارة المسلمة إيران ! ومع عملائها في العراق .
لكنني رغم تحذير حياوي المفوض للشرطة في منعي من الالتقاء برشاد وجواد إلا أن استطعت الخروج من غرفتي وتوجهت الى شباك غرفتهم المطل على حديقة المركز المذكور ، فقد كنت أنا على سابق معرفة بهذه البناية إذ أنني اعتقلت بها على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم .
كان الساعة تشير الى الخامسة من صباح تلك الليل حين قمت بطرق الشباك عليهما بقوة فنهضا هما من النوم متوجهين الى الشباك ، فبادرتهما أنا بما يجب عليهما قوله خلال المحكمة الخاصة التي ستعقد في مدينة الناصرية غدا بعد أن نرحل نخن إليها اليوم ، وحذرتهما من الاعتراف على جهاد العريف العسكري والذي هو أخو رشاد كذلك .
في المحكمة الخاصة التي انعقدت في سراي مدينة الناصرية تم الاستماع الى إفاداتنا بشكل فرادي ، لكنها كانت كلها متطابقة ، وقد تمّ ضبطها على هذا الأساس بعد ذلك أخرجت أنا ومن معي من موقف سجن سراي الناصرية الواقع في بناية المحافظة والمطل على شارع الجمهورية ، وقد كان أول من التقاني في هذا السجن هو المعلم الشيوعي المعروف ، كريم عاجل ، وأعتقد أنه كان مسؤول التنظيم داخل ذلك السجن ، فقد سألني من أي سجن نقلنا ، وما هي حقيقة القضية التي سجنا بموجبها ، هذا في وقت أثار فيه صغر سننا انتباه كل من كان في ذلك السجن على كثرة عددهم .
أجبت كريم عاجل على كل أسئلته ، وقد عرفت فيما بعد عنه أن أمه قتلت في المظاهرة الضخمة التي انطلقت في صبيحة يوم الانقلاب الأسود منددة بالانقلابيين وأسيادهم الأمريكان وذلك بعد أن تعرضت تلك المظاهرة الى طلاق نار حي من قبل الشرطة .
بعد ذلك تركت كريما أنا وتوجهت نحو أستاذي في مادة الرسم : الأستاذ عبد الرحمن مجيد الربيعي وكذلك أستاذ مادة التاريخ إسماعيل العضاض وصديق لي كان طالبا في دار المعلمين بمدينة الناصرية اسمه نجاح من أهالي قلعة سكر ، وكانوا هم قد مدوا أفرشتهم المتواضع على الأرضية المنداة لذلك السجن ، فمددت فراشي المتكون من حصير وبطانية الى جانبهم صارفا ليلة من تلك الليالي السود معهم وذلك لأننا نقلنا ثانية الى سجن قضاء الجبايش .
في الطريق جلست في المقعد الأمامي من السيارة مع المفوض حياوي ، بينما جلس صديقاي في المقعد الخلفي ، وقد وجد المفوض حياوي فسحة من الوقت ليقول لي : والله لو كنت أخبرتني بنيتك في توزيع مناشير تهاجم بها الانقلابيين لأمرت الشرطة تلك الليلة بعدم جمع أي منشور ، ولجعلت الناس في المدينة تطلع على مضامينها .
لم أحمل كلام المفوض حياوي على محمل الجد ساعتها ، لكنني بعد هذه السنوات أجزم بأنه كان صادقا فيما قاله لي ، فجهاز الشرطة في العراق كان ينفر من كل الأحزاب العراقية ، ولا يريد لأي حزب أن يتحكم به ، أو يسلب سطوة الحكم منه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تسعى إسرائيل لـ-محو- غزة عن الخريطة فعلا؟| مسائية


.. زيلينسكي: الغرب يخشى هزيمة روسية في الحرب ولا يريد لكييف أن




.. جيروزاليم بوست: نتنياهو المدرج الأول على قائمة مسؤولين ألحقو


.. تقارير بريطانية: هجوم بصاروخ على ناقلة نفط ترفع علم بنما جنو




.. مشاهد من وداع شهيد جنين إسلام خمايسة