الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحريات العامة بين التعصب والتسامح

صلاح عبد العاطي

2008 / 3 / 28
حقوق الانسان


بقلم المحامي والباحث صلاح عبد العاطي


كثيراً ما تعرضت المجتمعات في حقب التاريخ المختلفة الى أزمات ومشاكل لا حصر لها، تركت أثارها السلبية على نسق العلاقات الداخلية لهذه المجتمعات وعرضت حقوق وحريات المواطنين للخطر، وأضفت على حركتها الخارجية نوعاً من الارتباك والتعثر؛ بيد أن هذه المجتمعات سرعان ما تداركت أوضاعها، فيتكاتف أبناؤها فيما بينهم للتخلص من هذه ألازمات والمشاكل. ويكون ذلك في الأغلب الأعم عبر الاحتكام إلى صوت العقل الذي يدعو إلى تبني القيم والمفاهيم التي تتقبل العيش المشترك مع وجود الاختلاف والتباين ومن دون شك أن التسامح والديمقراطية واحترام الحريات الشخصية والعامة في طليعة هذه القيم.
إن هذه الحقيقة التاريخية تنطبق وعلى نـحو كبير على المشهد الفلسطيني المعاصر، الذي يعاني من اختلالات سياسية ومجتمعية واقتصادية وثقافية وفكرية خطيرة، أشرت وبشكل لا يكون بوسع عاقل إنكاره, وجود بوادر أزمة حقيقية أخذت تنخر في النسيج الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي، إذ تسود ثقافة التعصب ولغة الاحتراب ومنطق العنف وفتوى التكفير وأيديولوجيا الانقسام وروح الإقصاء.. الخ. فعندما تتغلب روح الثأر على روح العدل، وروح التعصب علي التسامح ، والعنف علي سيادة القانون فعندما تطال عملية تدنيس الوعي وتشويه العقل البشري كل الأعمار وكل مراحل التعليم في المجتمع الفلسطيني. وعندما يقََتَلَ "الخطاب السياسي " في هذا المعمعان.. الوطنية والمواطنة .. عندما يجرّد الناس من مكتسبات عصرهم التي جعلت من تكريم الإنسان وحماية حقوقه قاسما مشتركا أعلى للشعوب الطامحة للعيش بكرامة واخذ دور طليعي في هذا العالم. وعندما يعم الاقتتال والكره والانقسام أبناء المجتمع الواحد ... وعندما يصل الأمر بالمواطنين إلى يأس من نهاية النفق جعل من مأثورة "فليأت الشيطان أو فليعود الاحتلال" رد فعلي لعدد غير قليل من الناس. وعندما يسود التعصب والكره والانتقام والانتهاك الواسع للحريات العامة والشخصية بين فعل ورد فعل بين طرفي الانقسام في المجتمع الفلسطيني، يصبح عندها الإلغاء للأخر ولحق الاختلاف هدفا، ويصير الانتقام الفردي والجماعي الداخلي وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته مقبولا ومبرراً في مجتمع - رزخ أكثر من 40 عاما تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية وجرائم حربه- ونضال من اجل انتزاع حقوقه وضمان حرياته.

فقد ألقت أجواء النزاعات السياسية علي السلطة التي شهدتها الساحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، بظلالها القاتمة على الحريات العامة فقد شهدت الأعوام الأخيرة تدهورا خطيرا في قيم وثقافة التسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان ، وتعززت بدلا منها قيم فئوية وتعصبية وعنفيه ظهرت في صورة انتهاكات خطيرة شكلت اعتداء صريحا على الحريات الشخصية والعامة ومخالفة جسيمة لمعظم التشريعات الدولية والقوانين التي أصدرتها السلطة الوطنية والتي تنظم وتحمي حقوق الإنسان وحرياته، فقد عد العام 2007 الاسوء بامتياز منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية سنة 1994،بالنسبة لأوضاع حقوق الإنسان عامة والحريات العامة علي وجهة الخصوص، فاخطر هذه الانتهاكات ارتكب إثناء عمليات الاقتتال الداخلي والصراع علي السلطة بين فتح وحماس، وبعد سيطرة حركة حماس علي قطاع غزة اثر عملية الحسم العسكري والانقلاب وما تبعة من إقامة سلطة أمر واقع، وإعلان حالة الطوارئ في الضفة الغربية وتشكيل حكومة طوارئ تحولت فيما بعد إلي حكومة تسيير أعمال. فقد خيم الواقع الجديد بظلاله الواضحة على واقع الحريات العامة في أراضي السلطة الفلسطينية، كان من ابرز نتائجه قمع المسيرات وإطلاق النار علي المتجمعين سلميا في كلا من الضفة وغزة كان أخطرها أطلاق النار من قبل الشرطة في الحكومة المقالة علي المحتفلين بذكري رحيل الرئيس ياسر عرفات مما أدي إلى مقتل سبعة مواطنين وإصابة العشرات، إلي توقف عمل فضائية فلسطين وإذاعتي الشباب والحرية في غزة، فيما تم منع صحيفتي فلسطين والرسالة من الطباعة والتوزيع إضافة إلى إغلاق مكتب فضائية الأقصى في الضفة الغربية، ولاحقا منع صحيفة الأيام في غزة، إلي جانب الاعتداء علي الصحفيين وقمعهم وتهديدهم ومنعهم من تغطية أخبار وصور الانتهاكات التي تمارس علي الحريات العامة، وصولا إلي إغلاق واقتحام والاستيلاء علي مقرات ومقتنيات بعض المؤسسات الإعلامية والمجتمعية والنقابات والأحزاب ما عرض الحق في تشكيل الجمعيات والنقابات والأحزاب وممارسة عملها للانتهاك من خلال الاعتداء المباشر عليها أو استمرار السيطرة علي بعضها من قبل سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة ومسلحين محسوبين علي حركة حماس أو من قبل الأجهزة الأمنية ومسلحين محسوبين علي حركة فتح في الضفة الغربية، وفي انتهاك جديد قامت بعض وسائل الإعلام والحزبية منها علي وجهة الخصوص في ممارسة دوراً تحريضياً زاد ويزيد من حالة التعصب والاحتقان والانقسام الفلسطيني، والانكي إن بعضها ابتكر طرق جديدة لانتهاك حرية التعبير مثل الأفلام الكرتونية التحريضية والعنصرية، إما فيما يخص الحق في تولي الوظائف العامة فقد أقصي عدد كبير من الموظفين من وظائفهم وحرم ألاف آخرين من رواتبهم، إما الحق في المشاركة السياسية وتداول السلطة بشكل سلمي فقد تراجعت أسسه وتكرس هذا الأمر من خلال عدم قيام المؤسسات التمثلية المنتخبة بدورها فالمجلس التشريعي معطل، الانتخابات للهيئات المحلية لم تستكمل وبدلا من إليه المشاركة والانتخاب حلت آليات السيطرة.
وتوضح جملة الانتهاكات السابقة وغيرها الكثير مما رصدته الهيئة المستقلة والمراكز الحقوقية الاخري الواقع الخطير الذي تعيشه الحريات العامة في الاراضي الفلسطينية التي غدت ترزح تحث ثقافة تعصبية لا تقيم وزنا للأخر بل وتبرر قمعه والاعتداء عليها، الأمر الذي يؤكد تعرض المجتمع الفلسطيني لمرض خطير يجب معالجته سريعاً لمنع تفاقمه وتحوله إلى مرض مزمن يحول دون قدرة والتفات المجتمع الفلسطيني لمواجهة مخاطر الاحتلال وجرائمه وحصاره الظالم للأراضي الفلسطينية.
فقد ألحقت الانتهاكات الداخلية لحقوق الإنسان الفلسطيني وثقافة وممارسات التعصب والانقسام أفدح الضرر بحقوق المواطنين السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وبحرياتهم العامة علي وجهة الخصوص، وبالقضية الوطنية وصورة الشعب الفلسطيني علي وجهه العموم. فقد أثر الانقسام والاقتتال الداخلي والصراع علي السلطة وما سبقه وتبعه من عمليات تعبئة فكرية تعصبية وفئوية وفي إطار الفعل ورد الفعل في تراجع المجتمع الفلسطيني وواقع الحريات العامة فيه.
الأمر الذي يطرح علاقة الفكر السياسي الفلسطيني بانتهاكات حقوق الإنسان؟ ويثير مسائل عديدة لا يمكن أن تستقيم حياة المجتمع ويتحقق ازدهاره من دون حلها بصورة ايجابية وصحيحة، فهي تطرح نقاط هامة علي رأسها أزمة النظام السياسي الفلسطيني؟ ومسألة العلاقة الصعبة بين السلطة والقانون والمجتمع.؟ وتداول السلطة بشكل سلمي والوصول إلى توافق ومصالحة وطنية بالمجتمع؟ كما ويطرح المسألة الأكثر خطورة التي تمثل جوهر المقال التعصب والعنف السياسي وأثرة علي الحريات العامة وحقوق المواطن الفلسطيني؟ ويؤكد بصورة لا تقبل الشك بأنه عندما يسود التعصب تزداد الانتهاكات لحقوق الإنسان فتصبح التجمعات السلمية والتعبير عن الرأي والحريات الأساسية... جرما سياسيا يقع تحت طائلة الاتهام بتهديد الاستقرار، كما يتحول القانون إلى أداة سياسية من أدوات تثبيت الحكم والدفاع عنه ضد كل منتقديه أو بالأحرى غير المناصرين له، ولا تتردد السلطة القائمة في استخدامه حسب ما تقتضيه الحاجة لإحباط إرادة خصومها السياسيين أو الفكريين ما يخرجهم نهائيا من الساحة العمومية، ولا يضيرها في ذلك أن تكون التهم غير حقيقية أو أن يفقد القانون أي صدقيه. فإذا كانت السلطة الحاكمة لا تسمح بالتظاهر أو الاعتصام أو الإضراب أو النشر أو التنظيم السياسي أو التنظيم النقابي والأهلي، فماذا يبقى أمام الأطراف التي تشعر بالإجحاف أو التي تريد أن تزيل ظلما وقع عليها غير اللجوء إلى العنف الأعمى وعمليات الانتقام.
فالحريات العامة وتنظيمها من خلال القانون يكفل حيز للتوسط بين السلطة التي تخضع لمنطق خاص بها هو منطق الحفاظ على الوحدة والسيادة والقانون في المجتمع الذي يتكون من فئات ومصالح وتيارات واعتقادات مختلفة بالضرورة ومتنافسة إن لم تكن متنازعة، بحيث يساعد هذا الحيز على إيجاد التسويات الاجتماعية وينفس التوترات والاحتقانات الناجمة عن التنوع والاختلاف الطبيعيين، ويعمل بالتالي على تجنيب المجتمعات السقوط في محنة علاقات القوة المحضة التي تعني أن الأقوى عسكريا هو الذي يفرض رأيه ومصالحه على الآخرين.
وإدراكا لذلك، فليست الحريات العامة مصدر الخطر في المجتمع، ولكن بالعكس تماما من ذلك بل أن غيابها وتغييب إرادة الأفراد وإنكار مصالحهم وآرائهم والقضاء على استقلالهم الفكري والسياسي، ومنعهم من حرياتهم وحقوقهم هو الخطر الكبير، ومن يراجع تاريخ الشعوب المعاصرة يدرك أن مسيرة التقدم الحضاري الحديث كانت مرتبطة بتقدم شروط الحرية، أي بنجاح المجتمعات في انتزاع وتكريس المزيد من الحريات. فعندما يغيب التسامح لا تحترم حقوق المواطنين، فالتعصب يؤدي إلى تراجع الحريات وغياب وتعطيل تمتع المواطنين بحقوقهم. فالتعددية والتنوع وحق الاختلاف والاجتهاد وحرية التعبير عن الرأي والتجمع السلمي وحرية العبادة و تشكيل النقابات والمؤسسات والأحزاب والانتساب إليها والمشاركة في الحكم وتدول السلطة يجب أن تكون مصانة في إي مجتمع وإلا تعرضت أركان السلم الأهلي فيه إلى الدمار.
فالعلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني لا تزال تتطلب نقاشا معمقا وجريئا من أجل التوصل إلى صيغة تحمي الحقوق الشخصية والعامة وحقوق المرأة والأقليات وتضمن الحريات وتدعم قيم حقوق المواطنة والديمقراطية. فمفهوم التسامح لايمكن أن يتحقق واقعياً إلا بتلازم فكرتي الحق والحرية، وكل اعتداء على الحق والحرية هو نسف كامل لمفهوم التسامح.

وختاما: ومن خلال ما تم استعراضه في جنبات هذا المقال، يظهر لنا التسامح بوصفه علاجاً شافياً ومخرجاً مثالياً للمجتمعات التي تعاني من سيادة منطق التعصب و العنف والاقتتال وغياب الثقة الداخلية وتزايد الانتهاكات للحريات العامة ولحقوق الإنسان.
ويبدو أن فلسطين بواقعها المؤلم ومحنة الانقسام والحريات التي تتعرض لها ، تحتاج أكثر من غيرها إلى قيم التسامح، بعد أن تداعت عليها المصائب وبطشت بأهلها الأهوال، فراح التعصب والعنف والاحتلال يفتك بأبنائها ومستقبلها. ولذلك فان الدعوة إلى استلهام واستيعاب واستحضار قيم التسامح والحوار والقانون وحقوق الإنسان في أوساط المجتمع الفلسطيني، هي دعوة إلى تجاوز كل هذه المصائب والمحن.
ونحن نعتقد أن الفلسطينيين قادرون على ذلك، لأن معظمهم مؤمن بان ما يجمعهم بكافة أطيافهم هو أقوى بكثير مما يفرقهم، وهم لذلك يفهمون أكثر من أي وقت مضى حاجتهم للعيش المشترك وفق عقد سياسي واجتماعي جديد، يحتكم إلى العقل والتسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان، والواقعية الثورية الوطنية باعتبارهم شعب تحت الاحتلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكومة البريطانية تلاحق طالبي اللجوء لترحيلهم إلى رواندا


.. هل كانت المثلية موجودة في الثقافات العربية؟ | ببساطة مع 3




.. Saudi Arabia’s authorities must immediately and unconditiona


.. اعتقال 300 شخص في جامعة كولومبيا الأمريكية من المؤيدين للفلس




.. ماذا أضافت زيارة بلينكن السابعة لإسرائيل لصفقة التبادل وملف