الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوحة الأكشن في معرض بمتحف بايلار .. بازل - سويسرا

يوسف ليمود

2008 / 4 / 1
الادب والفن


لا شك أن أي معرض فني، كأي حدث، فني أو غير فني، هو فرصة للتأمل نخرج منها بمكسب ما، بغض النظر عن تقييمنا ذلك المعرض أو الحدث سلبا أو إيجابا. وفي معرض ضخم، كالمقام حاليا في متحف بايلار بمدينة بازل والذي يستمر الى 12 مايو، بعنوانه الدال: "لوحة الأكشن"، تتداخل القيمة الفنية للمعروض مع قيمته كصفحة من تاريخ الفن ما تزال تجد من يشخبط فيها، تكون فرصة التأمل أكبر والفائدة لا شك أكبر. من دون شغف كبير بالأعمال نفسها التي تعبت منها حيطان المتاحف العالمية خلال ستين عاما، أتجول ببطء في الصالات والغرف رائقة المقاييس والجمال للمبنى المعاصر، بين مائة لوحة ضخمة لسبعة وعشرين فنانا تجريديا - تعبيريا، قليل منهم من الجيل الثاني ممن أضافوا حساسية مغايرة للسابقين عليهم، لكن الكثرة من رواد هذا الاتجاه الطليعيين، الذين عكست تكنيكاتهم ذبذبات كيانهم وأمزجتهم الشخصية وعوالمهم الداخلية الأكثر تجردا وغموضا؛ فالعصب الفلسفي لهذا الأسلوب في الفن يعتمد في الأساس على حركية الفنان نفسه كمزاج وتقلبات وتدفق انفعال وحدس لحظي يستبقيه صاحبه على سطح لوحته يجف، فيكون قد جمّد حالة لا يعود للعمل عليها بعين بنائية عقلانية لكي يعدّل خطا انحرف أو شكلا تداعى أو نقطة طارت خارج المدار. لا، إنها الدفقة الأولى وما يتلوها بكامل الحيوية والانفلات من كل منطق، لا يلجمها سوى شرط بسيط لكن صعب بلوغه، ألا وهو السيطرة الكاملة على المادة والتكنيك: التوقد الذهني وسرعة التصرف منذ لحظة انطلاق الهدير النفسي للفنان متزامنا مع لحظة دلق أو رذ الألوان والصراع معها، وجوديا، وكأنها مسألة حياة أو موت: حياة اللوحة أو موتها يساوي خلود اللحظة أو اندحارها في العدم.
في أعقاب الحرب الثانية، وبمنطق رد الفعل المثقف نفسه الذي ابتدع الدادائية والسريالية في أثناء الحرب الأولى وبعدها، خرجت التجريدية التعبيرية من معتملاتها التجريبية لتشغل حيزا لافتا على جدران الفن وفلسفته، حدث هذا في أوروبا وأمريكا في الوقت نفسه تقريبا، بحكم نزوح فنانين كثر من أوروبا إلى أرض الحلم الأبيض الأمريكي، وكأن القارة التي اكتشفها كولومبوس مرة أعاد اكتشافها فنانون هاموا طويلا بسفنهم السريالية في أوروبا قبل أن يرسوا أخيرا علي أرضها ويجد بعضهم خلاصه في الفضاء التجريدي المعبّر الذي تشعب منه، صدفة، مصطلح "فن الأكشن" في إشارة إلى فئة من ممارسي هذا الاتجاه. بمجرد التلفظ بـ لوحة أكشن تقفز الي الذهن صورة الأمريكي جاكسون بولوك، رائدها الأبرز وأيقونتها المعبرة بعمق عن هذا الاتجاه في التصوير الحديث، سواء على المستوى الفني أم الحياتي، لما فيها من حس حركي انفعالي انتحاري عاش به وانتهى أيضا به في شكل مأسوي صادم. له بالمعرض قاعة منفردة احتلتها عشر لوحات تقريبا، وصل ثمن واحدة كبيرة منها مؤخرا مائة وأربعين مليون دولار، لكن، حين يحدد السمسار القيمة فالأفضل أن نتلمس الفن في مكان آخر.
هانز هوفمان الألماني المهاجر الى فرنسا أولا، ومنها إلى نيويورك، حيث أسس معهدا للفنون يحمل اسمه، له أربع لوحات متوسطة الحجم نلمس فيها حسا أصيلا يؤكد أسبقيتَه، تكنيكيا، على بولوك. الألماني الآخر جيرارد هومه، كاسِراً المستطيل التقليدي للوحة، نراه في أربع لوحات تحولت الى أعمال مركبة، حيث اشتغل على ظهر اللوحة بالثقوب تخرج منها أحبال وأربطة تتجاوب معها، كلحن مصاحب، خربشات من خطوط بالقلم الرصاص تكاد تنعدم منها أي مركزية أو جاذبية ثقل (ربما يرجع هذا إلى شغفه الذي لم يتوقف يوما، رغم كابوس الحرب الذي شارك فيها كطيار، بالتحليق اللا محدود في الفراغ). مشتركا مع جيرارد هومه في الحس الفضائي وخربشات كتابات الحائط - الجرافيتي، نقف أمام أربع لوحات ضخمة لـ سي تومبلي، معجبين بالفضاء الكبير الذي يبعدنا عن الأرض قليلا، يجري عليه السن الرصاصي بطفولة وسذاجة واعية، ولكن، من دون جدوى، سوف تبحث العين غير المؤهّلة عن معنى هذه الشخبطة. جان فورترييه، أحد ممهدي الطريق للوحة الأكشن، تتحول الأشكال المعالَجة بعنف على سطح لوحته الراقدة أفقيا الى إرهاصات تجريد يتراوح بين العنف والرقة.
كذلك الأمريكية من أصل ألماني إيفا هيسه، محطمة ًمسطحَ اللوحة بأبعادٍ إيحائية وتكسّرات وهمية، نفهم لماذا أولت اهتماما متزايدا إلى عالم المجسدات بأبعادها الثلاثية قبل أن يضغط الورم علي مخها ضغطته الأخيرة لترحل مبكرا جدا. أما الأمريكية ليندا بينجليز، بسمك طبقة اللون المدلوق، من حدود الريلييف وحتى النحت، يثير عملها السؤال عن العلاقة الملتبسة بين إرادة الفنان وإرادة العمل الفني ذاته حيث المصادفات الناشئة عن تكنيك الدلق وكيمياء الامتزاج؛ سحبت هذه الفنانة أرضية اللوحة، قماشا كانت أم خشبا، من حساب اللوحة وأبقت على الطلاء المدلوق الثلاثي الأبعاد كقشرة سميكة لتكون "جناحا" أو فلطحة ًممدودة تهبه اسم "كوكب وليد" مثلا؛ في عملها نرى كيف أفلتت إرادة اللوحة من حدودها لتخترق بالجناح فضاء النحت. ثم نرى الفرنسي أرمان في عمل ألصق فيه مئات من أنابيب اللون الزيتية على لوح كبير وضغط عليهم بأصابعه فسالت ألوانها البنية لتشكّل لوحتُه نفسها بنفسها بكثير من الصدفة والدلالة المفتوحة. الألماني فولز، الذي رأى فيه جان بول سارتر مثال الفنان الوجودي لما اهتصره من كوارث شخصية وفقر وحياة انتحارية منقوعة في رحمة الكحول، نرى ألقا ً ما يزال يرتعش على المسطحات الست المتوسطة الحجوم، العفوية الشديدة منطلقها، بشخبطة متمركزة على محور كثيف تتفجر منه اللامبالاة التي، رغما عن الفنان ذاته، يحكمها منطق خفي أقرب ما يكون إلى الكتابة الأوتوماتية التي تأثر بآليتها ومارسها عن طريق الألوان والخطوط الحافرة.
هيلين فرانكنتالر، خارجة من معطف بولوك، طوّرت تكنيكا تتشرّب فيه قماشة اللوحة دلقات الألوان المخففة التي أعطت بترشّحها بعدا ثالثا لنثار البقع اللونية، نراها في ثلاثة من أعمالها الصدفة أساسُهم. متأثرا بطريقة فرانكينتالر في تخفيف الأكاسيد اللونية بالتربنتين وتركها تترشح خلل القماش، كانت بدايات طريق موريس لويس نحو أشكاله التي تقلصت وتقلصت حتى انتهت إلى خطوط أفقية مستقيمة صريحة الألوان، فيما يشبه أطراف أصابع ملونة تتقابل من طرفي المساحة الضخمة للقماش، غير المحضر سابقا، من دون أن تتلامس. ويبرز الياباني كازو شيراجا، مؤسس جماعة "جوتاي"، أي الشيء الملموس، بـ "عربداته اللونية" يمثل استطرادا متطورا لتقاليد بولوك، كجرأة تكنيكية على الأقل، غير أنه استطاع أن يدعم لوحته بخلفية تأملية نابعة من فلسفة الزِن ومقاييسها الجمالية التي تحتفي بالنقص كواقع إنساني مقدس، كما احتاجت لوحته قوة بدنية ولياقة مدربة جعلته يعلق نفسه بأحبال ليغوص بقدم هنا ويزحزح بأخرى تكتلا لونيا في حقل آخر على مسطح لوحة تئن تحت العنف والوزن الثقيل للألوان، لكنها تصمد بقوة روحية واثقة وغامضة في آن واحد. ثمة أيضا الهولنديان كارل أبيل و آسجار يورن، بألوانهما السميكة وتعبيريتهما الطافحة. غير أن الهولندي الآخر فيليم دي كونينج الذي نافس بولوك في التكنيك والشهرة له حضور أكثر بأربع لوحات كبيرة تسحب العين الواعية إلى تاريخ تلك الحقبة أكثر مما تستوقفها أمام عناصرها المسحوبة بيدِ التهور العارفة بأسرار الصنعة، رغم ألوانها التي تبدو كأنها ما فتئت تجف.
لم يغفل منظمو المعرض علاقة الصداقة الحميمية بين دي كونيننج وأرشيل جوركي، الناجي من مذبحة الأرمن، حيث علقوا له، جنب صديقه، أربع لوحات جادة.
نتعرف أيضا على هانز هارتونج، الألماني المهاجر إلى فرنسا الذي يكبّر اسكتشاته بدقة تامة دون أن يدع مجالا للصدفة. ثم، جوان ميتشل، بعملين يذكّران بلوحات فولز المتمركزة حول تفجّرات ديناميتية، و، سام فرانسيس، بخمسٍ من حقوله اللونية الضخمة السابحة بعنفها في فضاء أعزل، يمثل عملهما نوعا من حنين الى أوروبا الأم ومصالحة بين فنها الراسخ وبين ذاك الطافح من قريحة قارة تلهث كي تصنع تاريخا.
كذلك لوحة رذاذية ضخمة لـ نورمان بلوم. ومن بيير سولاج، نرى شيئا من مسحاته السوداء العريضة بالغة الزهد والتركيز، ونتابع كيف انتهى إلى لون واحد، غالبا الأسود، يمشطه، كما شعر زنجية، في مساحات عرضية واسعة تعتمد على انعكاسات الضوء عليها لتقول في صمت ما تريد وأكثر. لفرانز كلاين، ثلاث لوحات كبار يمكن مقاربتهم مع فرشاة سولاج العريضة وأن اختلف منطقهما. أيضا لكليفورد ستيل، أربع لوحات بمساحات جبلية صريحة ترتعش على حوافها ذبذبة طاقة هائلة. أما إرنست ويلهلم نِآي، بتعبيرية لونية أقرب إلى لتجريد الغنائي، نراه في لوحة، ستة أمتار في ثلاثة تقريبا، تثير غنائيتُها التساؤلَ إن كانت حقا تنتمي إلى فكرة المعرض - الأكشن! لِي كرانسار، منظورا إلىها كزوجة بولوك أكثر من تقييمها كرسامة، لها ثلاث لوحات متوسطة، ينتظرون وباقي أعمالها حكمَ التاريخ، غيابيا، عليها، بإفلاتها من أو بقائها إلى الأبد تحت ظل بولوك الداكن. بحس مغاير تماما، تكنيكا ورؤيا، نرى لوحتين لروبيرتو ماتّا، تجمعان بين التجريد والسوريال، يسبح فيهما فتات هندسي زوْبعَتْه عاصفة خفية. كذلك، لوحتان كبيرتان وانستيليشن حائطي من مجموعة رسوم ورقية نقرأ من خلالهم الأبعاد التراكبية لشخصية الأمريكي روبرت مازارويل العارفة بالأدب والفلسفة وعلم الذات، بالعمق نفسه الذي اخترق به سطح اللوحة في زهد وبلاغة.

يوسف ليمود – بازل
[email protected]
النهار اللبنانية

الأسماء الواردة بالمادة في الأصل:
Karel Appel – Arman – Lynda Benglis – Norman Bluhm – Jean Fautrier – Sam Francis – Helen Frankenthaler – Arshile Gorky – Hans Hartung – Eva Hesse – Gerhard Hoehme – Hans Hofmann – Asger Jorn – Franz Kline – Willem de Kooning – Lee Krasner – Morris Louis – Roberto Matta – Joan Mitchell – Robert Motherwell – Ernst Wilhelm Nay – Jackson Pollock – Kazuo Shiraga – Pierre Soulages – Clyfford Still – Cy Twombly – Wols








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى