الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مديح الجندي رايان!

صبحي حديدي

2003 / 12 / 30
الارهاب, الحرب والسلام


استقرّ رأي أسبوعية "تايم" الأمريكية واسعة الانتشار، والتي توزّع بملايين وليس بمئات آلاف النُسخ، أن يكون الجندي الأمريكي هو شخصية العام الذي يطوي صفحاته الأخيرة هذه الأيام. صحيح أنّ الرئيس الأمريكي هو الذي اتخذ قرار الذهاب إلى الحرب، يقول جيمس كيللي المدير التنفيذي للمجلة، وأنّ وزير دفاعه دونالد رامسفيلد هو الذي وضع استراتيجية خوض هذه الحرب، غير أنّ الجندي الأمريكي هو الذي وقعت علي عاتقه أعباء التنفيذ.
كلام منطقي، وبريء تماماً للوهلة الأولى. ولكن ماذا عن الأسئلة الأخرى التي تكتنف شخصية هذا الجندي بصفة عامة، وتحدّد معايير الحكم على سلوكه العسكري إجمالاً وفي أفعاله حين يعبر المحيط لغزو البلاد وإخضاع العباد... هنا، في حالة اجتياح العراق، خصوصاً؟ أهو جنديّ في مهمة تحريرية، كما يقول البيت الأبيض وتصادق الـ "تايم"، المجلة الأمريكية قلباً وقالباً في نهاية الأمر؟ أم هو جندي محتلّ، كما تفيد الحقائق وتدلّ وقائع الأرض ويقول العراقيون أنفسهم قبل الأغلبية الساحقة من شعوب هذه المعمورة؟
واضح أنّ تحرير المجلة لم يكن معنياً بطرح هذه الأسئلة، رغم أنها هيمنت بقوّة على الأذهان والضمائر ــ كما ينبغي للمرء أن يتخيّل في أقلّ تقدير ــ أثناء اجتماعات التحرير التي أسفرت عن اختيار شخصية العام. وليس في الأمر جديد، وهذه ليست سابقة في تاريخ الـ "تايم" علي أية حال. ففي أواسط العام 1999، نشرت المجلة سلسلة أعداد خاصّة كانت قد كرّستها لتعيين الشخصيات الـ 100 الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، وكان آنذاك يلملم أسابيعه الأخيرة. وعلى امتداد خمسة أعداد، بمعدّل 20 شخصية في كلّ مرّة، حصر التحرير رجالات القرن في التصنيفات التالية: قادة وثوّار"، "فنّانون ومغنّون"، "بُناة وجبابرة"، "علماء ومفكرون"، "أبطال وأيقونات". وهل من مغزى في التذكير أنّ حظّ العرب في لائحة الـ 100 تلك كان صفراً، أو صفراً مكعّباً كما كنّا نقول أيام التلمذة!
وكان من المدهش أن تضمّ لائحة أبطال وأيقونات القرن العشرين شخصية الجندي الأمريكيThe American G.I، والتي اختار لها التحرير توصيفاً مهنياً ليس أقلّ إدهاشاً: "جندي من أجل الحرية". ومَن، في رأيكم، كتب المادّة الصحفية التي تشرح سبب اختيار هذه الشخصية؟ الجنرال كولن باول دون سواه! رئيس الأركان الأسبق والرئيس آنذاك لمعهد "وعد أمريكا" للدراسات والأبحاث، وبالطبع وزير الخارجية اليوم. وخذوا هذا المقطع من نصّ الجنرال في وصف جنود الحرّية أولئك: "إنهم أمريكا. لقد عكسوا أصولنا المتنوّعة. وكانوا تجسيد الروح الأمريكية في الشجاعة والتفاني. إنهم بالفعل جيش الشعب الذاهب في حملات صليبية للحفاظ على الديمقراطية والحرية، ومن أجل هزيمة الطغاة، وإنقاذ الشعوب المقهورة. إنهم مصدر فخار عائلاتهم. إنهم الجندي رايان، ولقد وقفوا بثبات في خطّ الدمّ الرفيع".
غنائية الجنرال لا تنتهي هنا، إذْ بعد تعداد مآثر جنود الحرية هؤلاء في الحربَين العالميتَين، وفي كوريا وفييتنام، وفي الحرب الباردة (!)، وصولاً إلى العراق والبلقان، يقول الجنرال: "كان أفراد الـ G.I. على استعداد للسفر البعيد والتضحية بأرواحهم، إذا اقتضت الضرورة، من أجل ضمان حقوق وحرّيات الآخرين. ووحدها الأمّة التي على مثالنا، المرتكزة على قاعدة أخلاقية صلبة، هي القادرة على مطالبة مواطنيها بهذه التضحية. وأفراد الـ G.I. لا يطلبون شيئاً آخر سوى القيام بالمهمة والعودة سالمين إلي الوطن. والأجر الوحيد الذي يطلبونه من الشعوب التي حرّروها هو أن تصبح جزءاً من عالم الديمقراطية ــ وقطعة أرض كافية من أجل دفن رفاقهم الذين سقطوا على الدرب، أسفل صلبان بيضاء بسيطة ونجوم داود".
هل انتبهتم إلى حروب الحضارات والترميز الديني (حملات صليبية، صلبان بيضاء، نجوم داود)، وإلى السينما (الجندي رايان)، والبلاغة الرخيصة (إنقاذ الشعوب المقهورة، القاعدة الأخلاقية، الأمّة المثال)؟ هل انتبهتم إلى انطباق هذا الخطاب، انطباق الحافر على الحافر والحقّ يُقال، مع خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش في تسويغ غزو أفغانستان والعراق؟ وإذا كان من حقّ رئيس أركان سابق أن يتغنّى بفضائل جنوده (إذْ كيف نتخيّل العكس في الواقع؟)، فهل كانت أسبوعية الـ "تايم" هي المنبر المناسب لتلك الغنائية الفاقعة؟
المفارقة أنّ العدد ذاك حمل أيقونة أخرى تمثّل القرن العشرين، هي الثوري الشهيد أرنستو تشي غيفارا، الذي لم يعتبره التحرير جندياً من أجل الحرية بل "قائد حرب عصابات " رمز العصيان والإغواء الحماسي للثورة". الجندي الأمريكي يجوب ساحات الدفاع عن الحرية والديمقراطية هنا وهناك في العالم، وغيفارا يجوب شوارع العالم مرسوماً على القمصان التي يرتديها "أيتام الثورة" من "المراهقين" و"الرومانتيكيين". غير أنّ كاتب المادّة كان نزيهاً لمرّة واحدة على الأقل، في السطر الأخير: "حذارِ! عميقاً في القمصان التي حاولنا سجنه فيها، ما تزال عينا تشي غيفارا تتّقدان... بنفاد صبر".
واليوم أيضاً... أكثر من ذي قبل على الأرجح!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا


.. 5 شهداء بينهم 3 أطفال في قصف إسرائيلي على حي الزرقاء جنوب مد




.. طائرة -كواد كابتر- تحلق بالقرب من منازل المواطنين بمدينة غزة


.. مواطنون أتراك يُهاجمون منازل السوريين وممتلكاتهم في أنطاليا




.. محامي ترمب السابق يخسر رخصة المحاماة بعد اتهامه تصريحات مضلل