الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فوق كُرسيهِ المُريح .....

شذى توما مرقوس

2008 / 4 / 15
الادب والفن


قصة قصيرة

2003

..... ضايقهُ كل ما كان يحيقُ ببلادهِ من دمار وهو يُتابِعُ هذهِ الأخبار المُؤلمة عبر الكثير من قنوات التلفاز الفضائية يومياً ...... كل يوم يتلقى خِنجراً في قلبهِ وطعنة غدر في ظهرهِ من هذا العالم المُتفرِج المُتشفي ......... الألمُ ساحق وكبير
واليوم صباحاً كادَ الألم يسحقُ معِدته غير أنّهُ كان عليهِ أنّ يمُرّ بمكتبِ تجديد الأقامة للأجانب ..... ووجدَ نفسهُ كالعادة واقفاً بين حشدٍ من الأجانب من كُل القارات وحتى آخرين قادمين من القارة التي أبتلعها البحر كما يُروى ويُقال في الكُتب ........ التذمُر يعُمُّ جميع المنتظرين من طول الأنتظار ..... فكُلٌ منهم ينتظرُ مُنذُ ساعتين أو ثلاثة والشعور بالأهانة من جراء تباطؤ المُوظف المسؤول عن منح الأقامات تباطؤاً مقصوداً غايتهُ أذلال الأجانب كان القاسم المشترك الأعظم الذي يجمعهُم بغض النظر عن كون ما يشعرون بهِ حقيقة أم مُجرد أتهام وظن..... خلو المكان من مقاعد للجلوس والتي تُشكِلُ عادةً دلالة أحترام للمُراجعين زاد الأمر تأكيداً ودعم صحة شعورهم هذا ...... كل هذهِ المُعاناة الصباحية بظروفها ومُلابساتها جنباً الى جنب مع مشاكلهِ المادية والعائلية المُتزايدة تضافرت في إِتعابِهِ أكثر وجعل آلمه أكبر والحرقة في معدتهِ تتصاعد وتطفح ........

ثُم وبعد أنتظار لم تبِنْ لهُ نهاية قررّ الرب وليس المُوظف إِسعافه فكان دوره ..... ألقى التحية آخِذاً مكانهُ قبالة المُوظف الذي بدأ بتقليب ملفهِ مُدقِقاً النظر في كُلِ ورقة وأستغرق ذلك طويلاً لينطُق بعدها قائِلاً : قريباً سنودِعكُم .......
وأرفق قولهُ بأبتسامة أتخمتها السعادة الغامِرة لما سيكون ، نِصفُها خُبثٌ وأستفزاز مُتعمد ونِصفُها الآخر التشفي بما آل اليهِ حالُ لاجئي هذا البلد علماً بأنّ الموقف الرسمي المُعلن للبلد المُضيف هذا كان المُؤازرة والتعاطُف والدفاع عن الحقوق التي أستُبيحت لهذا البلد المُعتدى على سيادتهِ وكرامتهِ وأرضهِ ....... فما بالُ هذا الموظف الذي يتمنى أن يُصبح ما راجَ من أقاويل عن أعادة هؤلاء اللآجئين الى بلادهم حقيقة مؤكدة .......
كلماتُ الموظف هذهِ حملت أهانة واضحة أشعلت النار في معدتهِ والصُداع في رأسهِ لكِنّهُ حاولَ أن يتماسك راشِقاً الموظف بنظرة أستنكار مُجيباً أياه : أذنْ إِفعلوا .......
حربٌ نفسية أعلنها الموظف هذا على مُراجعيهِ الأجانب هؤلاء فما كان منهُ الا أن يتصيد ردود الأفعال لكُلٍ منهم مُصمماً على المُضي قُدماً في أنجاحِها وإِذكاءِ فتيلها فأكمل قائِلاً : تأكد لنْ نتردد ..... .
وما كان من ( س) الا أن أجاب تلميحاً الى الحياة المُملّة والروتينية والثقيلة في هذا البلد : تأكد بأنّكُم لنْ تطردونا من الجنة.
هُنا قررّ المُوظف أنّ يُحاربهُ على جبهةٍ أخرى فسألهُ : هل تعمل ؟
أجابهُ ( س ) بأختصار : نعم .
ثُم ألحقها بمجموعة أُخرى من الأسئلة من أين الى كيف ....... أعطى ( س) أجابات واضحة ومُختصرة لكُلِ سؤال ..... ولما رأى هذا الموظف أن جميع خططهُ الحربية قد أُحبِطت وليس هناك ما يُمكِن أن يؤاخِذهُ على هذا اللاجئ المُراجع قررّ أن يستعمِل صلاحياتهُ كمُوظف فيُعكِر عليهِ ويجعل حياتهُ هُنا أصعب خاتِماً أوراق أقامتهِ لثلاثة أشهُر فقط فما كان من( س) الا أن صرخ مُستفسِراً ومُعترِضاً: لماذا ثلاثة أشهُر فقط ....... أنا بموجب القوانين أستحِقُ سنة على الأقل فمُنذُ أن دخلتُ بلادكم وأنا أعمل وأدفعُ الضرائب ...... لم أتوقف يوماً عن العمل ولقد شرحتُ لك أننّي اليوم مُرتبط بموعد لتوقيع عقد عمل في الشركة الجديدة ليتسنى لي تغيير وترك عملي الحالي والألتحاق بالعمل الجديد وإن لم تختم لي أوراق أقامتي لسنة سيستحيلُ على صاحب الشركة منحي عقد عمل لسنة كاملة ...... لماذا تفعلُ هذا؟
أجاب الموظف : كيف أُصدِقُ ما تدعيهِ ؟
أخرج ( س) من محفظتهِ بطاقة تعريف بالشركة ورقم هاتفها وأشار: اليك هذهِ ..... أتصلْ لتتأكد بنفسك ......
ردّ الموظف بخُبث : وقتك أنتهى ...... وهناك غيرك ينتظرون دورهم ...... والتحقُق من صحة الأمر ليس من مهامي ...... أضفْ الى ذلك إِنّهُ يستغرقُ وقتاً ورُبّما تمتنع الشركة عن الادلاء بأية معلومات .......
ردّ (س) بتأثُر بالغ : لديك الوقت لحجزي أكثر من ساعة في مكتبك وقول ما يحلو لك ولا تملكُ بضع دقائق أضافية للتحقُق من أمر في غاية الأهمية ..... وأن كان الأمر ليس من مهامك فعليك أن تُصدقني ......
بلغ الألم في معدتهِ ذروتهِ وهو يتحسس الأهانات المُتتالية مع الظُلم الكثير فزاد مُضيفاً: تحاسبوننا على لحظة واحدة نتوقفُ فيها عن الجري لأيجاد عمل بغية التقاط أنفاسنا وحين نعمل تحاولون خلق أشكال الإِعاقات أمامنا وأذا وجدنا عملاً لنلتحق بهِ لا تدخرون جُهداً لأحباطِ مساعينا ...... أين العدل في كُلِ هذا ؟ ......
أجابَ الموظف بهدوءٍ وبرود سعيداً بصلاحياتهِ التي منحتهُ الفرصة للنيل من هذا الغريب الدخيل على هذهِ البلاد : ليس لك سوى ثلاثة أشهُر .....
فقال ( س) مُغتاظاً : لا بأس ، ما دُمت مُصِراً سأُريكَ سحنتي مرةً أُخرى بعد ثلاثة أشهر ، وشئت أم أبيت ستختمها لي ثانيةً ...... ليس هذا فقط بلْ سأتحدثُ الى المُحامي عن الأمر ....... فقط أريدُ أخبارك قبل أن أُغادرك أنّ الذي سبقني خرج أيضاً من غُرفتك وهو يلعنك ...... .
أطبقَ الباب بقوة وخرج .... الألم يعتصِرهُ ...... نظرَ الى ساعتهِ ....... عليهِ أن يُسرِع فموعِدهُ مع الشركة قد أقترب ..... سيُحاوِلُ شرح كل شئ لصاحب الشركة علّهُ يتفهمُّ ذلك ........ لو يُدرِك هذا الموظف ما فعلهُ وأي أَذىً ألحقهُ بهِ ؟..... لو يُدرِك أن الحياة أكبر من كُلِ هذهِ السخافات لترّفع عن هذهِ القذارة التي فعلها .... ولكن كيف لهُ أن يفهم هذا وهو الذي لم يُعانْ ما عاناه ( س) ..... إِنّهُ في وطنهِ ، لديهِ بعض الصعوبات بالتأكيد ولكنّ لا يُمكن مُقارنتها مع صعوبات اللآجئين . ينهضُ كل صباح من فراشهِ ليستلقي فوق كُرسيهِ المُريح في مكتبهِ مُتحكِماً بحسب صلاحياتهِ في مصير الآخرين دون مُبالاة بمعاناة هؤلاء ......هكذا يبدو الأمر ورُبّما يكون لهذا الموظف صعوبات حقيقية كبيرة لكنّها لن تكون بحجم مُعاناة الأجانب ممن يتحكمُ في مصيرهم بشكلٍ ما .....
لقد أضاع هذا الموظف بحماقتهِ وكُرههِ اللامُبررّ للأجانب فرصة عمل جدّ (س ) كثيراً من أجلها ..... لكنّهُ رغم ذلك سيحاول ليتفهمّ صاحب الشركة الأمر رغم أنّ هذا الأخير لن يتمكن من منحهِ عقد العمل دون شهادة الأقامة لمدة سنةعلى الأقل وتفهمهِ للأمر لن يحلّ المشكلة ..... .
كم يبدو ( مكتب تجديد الأقامة ) بناية باردة متحجرة كالسجون لا روح فيها ولا حياة ...... حتى الموظفين فيها قد تجردوا من المشاعر والأحاسيس وتحولوا كالبناية التي يعملون فيها الى حجر والى مكائن ...... يصعُب عليهِ التصديق إِنّهم بشر لهم أهل وعائلة وأصدقاء ومشاعر ....... هل حقاً هم بشر أم آلات مُبرمجة ......... معدتهُ آلمتهُ أكثر والوجع فيها صار يطحنهُ ....... بينما كان يُفكر مرّ بخاطرهِ أنّ على الطرف الآخر من الغُرفة ذاتها وقبالة هذا الموظف بالضبط يقبعُ موظف أخر يتصرفُ مع مُراجعيهِ بمسؤولية وأمانة ....... عملياً ذلك لن يفيدهُ ولن يغيرّ من الأمر شيئاً لأنّهُ ملزم بمراجعة الموظف المسؤول عنهُ وليس الموظف الآخر لكنّهُ في ذات الوقت أشعل شمعة في نفس ( س) بين الآف الشموع المُنطفِئة ...... .

2003


مُلاحظة : ( فوق كُرسيهِ المُريح ) قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية الغير المنشورة ــ حكايات جدُّ صغيرة ...... كبيرة ــ عن الغُربة .


ملاحظة للقارئ الكريم : شخوص مجموعتي القصصية ( حكايات جدُّ صغيرة ..... كبيرة ) عن الغربة أرتأيتُ لهم أن لايحملوا اسماءً مُعينة ، هم بلا اسماء لأنّ هذهِ الحكايات هي للجميع بأمكان القارئ أن يُطلِق على شخوصها الأسماء التي يختارها بأية لُغة كانت ولأنّها قصة البشر جميعاً على أختلاف أعراقِهم وانتماءاتِهم وأوطانهم ..... فهي حكاية الأفريقي .... كما هي حكاية الأوربي مثلما هي حكاية العربي وتماماً هي حكاية الأنكليزي والأمريكي والاسترالي ...... هي حكاية كل البشر أياً كانوا ممن يعانون الغربة في أحد أشكالِها .
مع محبتي وتقديري لكل القراء والمُتابعين لكتاباتي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابر الرباعي يكشف كواليس ألبومه الجديد ورؤيته لسوق الغناء ال


.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس




.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-


.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت




.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً