الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في أرض رجل ليس مريضاً :قصة قصيرة

محمود يعقوب

2008 / 4 / 14
الادب والفن



أوقدت مصابيحي قاطبةً، وجلست لأول مرة أدخن تحت الضوء الساطع ملء رئتيّ. مسترجعاً في ذهني شكوكاً كثيرة حول هذه القصة... إذ يترتب علي القول أنني لم اجزم حتى هذه اللحظة، مَن ربّ هذه الحكاية ومن جلاها؟ فلعلها رويت لي من قبل شخص معين، او كنت قرأتها في مكان ما، او لربما انا مؤلفها الفعلي، او قد تكون من صنع هذا المزيج جميعاً..

في تاريخ الكدر المعاصر، وفي مكان سامٍ، حيث محرار وبارومتر الجسد يقرآن بشكل آخر، حاكت اللقالق عشاً ورقدت على بيضها. وكانت تترك العش قليلاً في فترات متناوبة، بحثاً عن الغذاء، وتسبح في الشمس والهواء.. تمط أجسادها المسترخية..
ومن بضع زوايا شخصت قرب المكان غربان راحت تتربص بالعش وتتدبر له، حتى استفردت به يوماً ما. وفي غفلة استبدلت بيضها ببيوض اللقالق نفسها. وعادت اللقالق لتستغرق في رقادها، حتى خرجت الى الدنيا فراخ أثارت جدلاً حماسياً وشكوكاً حارقة لكل اللقالق!.. فقد كانت ورغم صغرها غريبة بعض الشيء، وقد استعر الجدل واحتدم الشك مع نمو هذه الفراخ. حتى لاح اليوم الذي ُضربت فيه خيمة اليقين، وبات جلياً انها ليست من نسل اللقالق.
فتوقدت في كوامنها الظنون وتوهجت الاوهام.. وعلى الفور اجتمعت اللقالق صوناً للعرض وهاجمت الانثى وقتلتها، بينما افرد قرينها جنحيّه وشهق غائراً في السماء بمرارةٍ رهيبةٍ، ثم أطبق جنحيّه وهوى كالبرق على رأسه منتحراً!..
مذ هذا اليوم لم يعد أحد يتمتع بمثل ذلك المشهد السماوي، حيث تأتي الفصول بهذه الطيور الكبيرة مثل نثار غيوم تدفعها ريح لينة في سماء مشمسة.. لم يعد احد يراها ثانية، فقد هاجرت ثكلى يمزقها الانكسار، لتترك السماء خالية، مغبرة يمزق سكونها نعيق الغربان المنتشية بشراب المكر. وتغدو الاشجار اوكاراً لها وقد ثلت اغصانها وتهدلت كالشعر المنثور وسال الصمغ على خدودها..

وهاجرت خلفها سنين مهللة، مجرحة الاقدام، تحمل على ظهرها حطب الاوهام والرجاء، وتجرنا خلفها اجيالاً من السبايا، نجتر المرارة والقلق والخوف، بل والخجل من افعال لم نجترحها!.. حتى انبلج صبح باهر راح يقشع الغيوم.
وعادت اللقالق مرة اخرى، وبزغت اعشاشها في الاعالي، ورقدت على بيضها بثقة وطمأنينة. ونحن نمر وابصارنا المتلألئة بالفرح مسمّرة إليها، نصفر لها بمودةٍ وحبور. ومن مخابئ معتمة واوكار فغرت أفواهها السوداء، ما لبثت ان توافدت الغربان وراحت تتجاسر بوقاحة تريد النيل من اللقالق. فركضنا نحوها مصعوقين، وأثخناها وآلمناها.. وكانت تهرب مذعورة.. حتى قدر لي ان امسك بأحدها رفعته أمام عيني مطبقاً على رقبته وصارخاً بوجهه مؤنباً:
- لماذا تفعل هذا يا صاح؟..

لقد قرعني كجرس حديدي حين رد عليّ وكان ينطق بالعربي الفصيح!..
كما أسلفت.. لا يمكنني الجزم حول من كتب هذه القصة.. غير أني استطيع القول دون تردد، بأني أمسكت بيدي العاريتين هذه بواحد من تلك الغربان وحملته بعيداً حتى اوصلته الى الحدود، وهناك قعدت ووضعته بين قدمي ورحت أنتفه نتفاً لم يبق عليه ريشاً ولا زغباً، حتى ألفته طيراً من اللحم بين يدي.. بحماس ووجه صارم نهضت وقذفت به خلف الحدود وراح ينكفئ على وجهه كلما حاول السير. أدرت له ظهري وقفلت عائداً تريحني نشوة الانتصار... وما إن خطوت مبتعداً حتى سمعته يجهش ويصيح خلفي:
- ماذا فعلت بي يا أخي؟..

كان يفترض ان لا ألتفت إليه لولا سماعي عبارة (يا أخي)، لذا استدرت إليه بتثاقل، وكان يبدو بائساً، كتلة من اللحم مرمياً في البرية.. وجسداً مقشعراً من لفح الريح وعينين حمراوين هاملتين، ولساناً يصطك لا يقوى على النطق، وصار على هذا النحو يستثير الشفقة. رفعت يدي وانا اخاطبه وأقول: حتى ينبت على جلدك ريش الحكمة سوف لن تطأ مخالبك عشاً وهاك خذ ما يسترك.. ووضعت عليه كوفيته وعقاله ومضيت بعيداً..
_____________________
جريدة طريق الشعب 15 شباط 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية


.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال




.. الفنان محمد الجراح: هدفي من أغنية الأكلات الحلبية هو توثيق ه


.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو




.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال