الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأمر المُطلق

أوري أفنيري

2003 / 12 / 31
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


       عندما قررت لجنة التحكيم منح جائزة إسرائيل للبروفيسور يشعياهو ليبوفيتش رحمه الله، اعتقدت بأنه سيكون من اللائق دعوته إلى مؤتمر "المجلس الإسرائيلي من أجل سلام إسرائيلي فلسطيني"، الذي كان في طليعة المتفاوضين مع منظمة التحرير الفلسطينية.

     فأجابني: "أنا مستعد للمشاركة بشرط واحد: سأتحدث عن الواجب الأخلاقي لرفض الخدمة في الأراضي المحتلة". فقد كان يرى في ذلك جوهر النضال ضد الاحتلال.

     أجبته بأن له كل الحرية بالتحدث عما يريد، رغم أنني لم أكن مقتنعا بهذا الرأي.

     (على فكرة، لقد تمخضت محاضرته عن نتيجة غير متوقعة. فبأسلوبه الاستفزازي المعهود قارن، في خطابه، بين الوحدات الخاصة في الجيش وبين الإس إس النازي. لقد نشرت أقواله وأثارت ضجة هائلة، وكان في نية لجنة منح الجائزة إلغاء منحه الجائزة، فأبلغها ليبوفيتش بأنه متخل عنها)

     منذ ذلك الحين يدور في نفسي حوار ثاقب وموجع بهذا الشأن.

     أنا لست مسالما إذا كان الأمر متعلقا بالرفض المطلق لحمل السلاح. فأنا أتعاطف مع يونتان بن أرتسي، الماثل الآن لمحاكمة عسكرية بسبب مبادئه السلمية التي لا تقبل المساومة. إنه شاب رائع ويستحق الإعجاب. ولكن بكوني من أحفاد جيل واكب الحرب ضد النازيين، لا يمكنني قبول المبدأ القائل بأن كل حرب هي حرب غير أخلاقية. فبعد أن سيطر النازيون على ألمانيا وبدءوا بتنفيذ مآربهم، لم يكن بالإمكان القضاء عليهم إلا بقوة السلاح.

     في الوقت الذي لم ينشأ فيه نظام عالمي جديد بعد، يشمل سلطة دولية، قانون دولي (آمل أن يقوم مثل هذا النظام قبل نهاية القرن الواحد والعشرين)، لا يمكن للدولة أن تتخلى عن قوتها الدفاعية. وطالما لا يوجد نظام عالمي يتيح لكل طالبي الحرية الوصول إلى الاستقلال بالطرق السلمية، على المقاتلين من أجل الحرية حمل السلاح.

     إلا أن ليبوفيتش لم يكن مسالما. فهو لم يؤيد رفض حمل السلاح بشكل قاطع، بل أيَّد رفض خدمة الاحتلال. لقد كان يؤمن بالقيمة الأخلاقية الكامنة في الرفض، بواجب الإنسان الأخلاقي بالابتعاد عن نظام حكم أثيم والإعلان برأس مرفوع عن أنه لن يساند هذا الوضع غير الإنساني، غير الأخلاقي وغير القانوني في جوهره. لقد كان يؤمن أيضا بأن رافض الخدمة هو القدوة التي يمكنها التأثير على الشعب.

     هناك نقاط ضعف في هذا التوجه كما هو معلوم، وضعتني أمام حيرة.

     أولا، زعزعة النظام الديمقراطي. وظيفة الجيش هي خدمة الحكومة القانونية التي انتخبها كافة المواطنين. من يرفض تنفيذ أوامر الحكومة القانونية، يزعزع بذلك ركائز الديمقراطية.

     ثانيا، تشجيع الرفض لدى اليمينيين. فحسب "الأمر المطلق" للفيلسوف عيمانوئيل كانْت، يجب على كل إنسان التصرف بحيث تشكل أعماله أساسا لقاعدة عامة. فإذا سمح لفلان رفض خدمة الاحتلال يسمح لآخر رفض إخلاء المستوطنات.

     ثالثا، دب الفساد في الجيش. إذا ترك كل أصحاب المبادئ الأخلاقية الجيش فسيسقط لقمة سائغة بين أيدي أشخاص لا يتمتعون بالمبادئ الأخلاقية. سيرابط على الحواجز من يكره العرب فقط، وسيقوم بالعمليات العسكرية الساديون. ولكن لو بقي أصحاب المبادئ الأخلاقية في الجيش، فسوف يكون بإمكانهم التأثير على جوهره، ومنع الأعمال الأثيمة والأعمال البشعة بمجرد وجودهم فيه، أو على الأقل التبليغ عن هذه الأعمال بعد وقوعها.

     كنت دائما أكن احتراما كبيرا لرافضي الخدمة. فأنا أعلم علم اليقين مقدار الشجاعة التي يحتاجها شاب (أو مسن) للوقوف في وجه الضغط الاجتماعي الذي يتعرض له من قبل عائلته، أصدقائه ومحيطه، عند اتخاذه لهذا القرار وتحمل نتائجه. بطولة المقاتل الأخلاقية تفوق بطولته في القتال، رغم معرفته بأن الشعب كله يقف من وراءه ويسانده. (أقول ذلك لأنني كنت جنديا مقاتلا في وحدة "خاصة").

     لذلك أيّدت دائما حق أي شخص في رفض الخدمة. ولكني لم أكن على استعداد، في أية مرة من المرات، أن أحث الشباب على المضي في مثل هذه الطريق. لقد كان موقفي دائما: على الشاب أن يقرر بنفسه فيما يتعلق بالموقع الذي يمكِّنه من الإسهام بشكل أكبر في النضال ضد الاحتلال – داخل الجيش أو خارجه.

     إلا أنني أشعر بأن موقفي هذا بدأ يتغير.

     بادئ ذي بدء، قد أقنعني العديد من الشباب بأن من غير الممكن الصمود أمام الضغط داخل الجيش. فغسيل الدماغ هائل ومتواصل، والمناصب العليا يتقلدها رجال آليون معدومي الأحاسيس، وهم من مخلفات الاحتلال؛ ناهيك عن تلاميذ الحلقات الدينية الذين يكرهون العرب والمستوطنون الذين يعتمرون القلنسوات المحاكة.

     ثانيا، لقد تحول الاحتلال ذاته إلى غول، من غير الممكن خدمته دون فقدان الصورة الإنسانية. عندما يقول ذلك مقاتلو الوحدات الخاصة الذين أحسوا بهذا الواقع بشكل يومي فإن شهادتهم هي الفاصلة. عندما يتمرد الطيارون الذي قال قائدهم بأنه لا يحس سوى "ضربة بسيطة في الجناح" عندما يقوم بقذف قذيفة تقتل النساء والأطفال، فهذا موقف جدير بالاحترام. عندما يفضل خمسة شبان تبلغ أعمارهم 19 سنة السجن على أن يكونوا محتلين أحرار، فإن الفيلسوف كانْت نفسه كان سيؤدي لهم التحية. الاحتجاج ضد نظام الحكم غير الأخلاقي هو بمثابة أمر مطلق.

     هل سيمهد مثل هذا الرفض للخدمة الأجواء لرفض من قبل الطرف الآخر أيضا؟ من المؤكد أنه لا يوجد تشابه بين المناضلين من أجل السلام، الذين يرفضون أخذ قسط في الإثم المتواصل وبين المستوطنين الذين يعتبرون جزءا من هذا الإثم. ولكن من يعترف بالحق برفض تنفيذ الأوامر من منطلق الضمير والعقيدة، عليه تطبيق مبدأ الفيلسوف كانْت على نفسه أيضا. فإذا تم إخلاء المستوطنات، يجب أن نعترف بحق أي جندي بعدم المشاركة في ذلك الإخلاء  من منطلق الضمير والعقيدة.

     هل تعتبر هذه ضربة للنظام الديمقراطي؟ بالتأكيد. ولكنها ضربة مفيدة، فالديمقراطية الإسرائيلية آخذة بالتآكل في شتى المجالات، مع كل يوم احتلال يمر. إننا نشهد تدهورا متواصلا: فالحكومة هي حضانة يديرها شارون، الكنيست أصبحت تثير الاشمئزاز والمحكمة حولت نفسها، نوعا ما، إلى أداة بيد الاحتلال ووسائل الإعلام أصبحت مجندة تسير كالقطيع. رافضو الخدمة، بالذات هم الذين أعادوا إلى الحوار الجماهيري بُعده الأخلاقي.

     إلا أن رفض الخدمة يسطع نوره كشعلة في الظلام. إنه يطرد اليأس الذي بات يقضي على كل شيء جيد. إنه يعيد الإيمان بدولة إسرائيل وبالجيل الإسرائيلي الناشِئ.

     نعم، رافضو الخدمة قلائل. إنهم أقلية بين أوساط الشعب والجيش. إلا أن مثل هذه الأقليات هي التي صنعت تاريخ البشرية – لقد صنعه أشخاص كانت لديهم الشجاعة على المضي قدما بينما كانت الأغلبية تصرخ "توقف!"

     إن تزايد حالات رفض الخدمة، حيث كل حالة من هذه الحالات تشكل إلهاما للحالة التي تليها وأصبحت هذه التصرفات تنتقل من وحدة إلى وحدة، من شأنه أن يؤثر على الجمهور. إن الرفض هو تجسيد للتغيير وهو قوة تدفع هذا التغيير قدما.

     ولربما، أكثر من أي شيء آخر، يعيد لنا هؤلاء الأشخاص فخرنا، فأمة لديها مثل هؤلاء الأبناء يمكن أن يحذوها الأمل.    








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السلفادور تنقل 2000 سجين إلى معتقل ضخم جديد


.. حاج مصري: جئت لأدعو لغزة فهي جرحنا النابض




.. نفاد الوقود يهدد بتوقف محطة الأكسجين الأخيرة بمدينة غزة وشما


.. مسؤولون أمريكيون: إدارة بايدن تشعر بقلق بالغ من العنف المتصا




.. نار هبّت بعد انفجار 12 صهريجا.. حريق هائل في مصفاة نفط بأربي