الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن بطل

طارق قديس

2008 / 4 / 27
الادب والفن


جلس خلف مكتبه ، أمسك قلمه الذهبي ، نظر إليه بتمعن ، رنَّتْ أسئلة كثيرة في ذهنه : لماذا وصلت إلى هنا ؟ لماذا لم يعد لديَّ ما أقدمه للناس؟ أنا مختار رئيس تحرير أكبر مؤسسة صحفية في البلاد ، أنا من تفوق على أساتذة فن كتابة القصة في سن العشرين ، أنا من حاز على جائزة الوطن العربي الأولى للمقالة اليومية ، لا يمكن أن أرضى بالأمر الواقع بعد ما وصلت إليه من شهرة و مجد ، وأن ينتهي بي الأمر للعودة إلى نقطة الصفر.

تنهد بعمق ثم مال بنظره إلى الصحيفة الملقاة على مكتبه ، وقد نشر فيها ما أكد إحساسه بالإفلاس ، إنه الاستفتاء السنوي للجمهور حول كاتبهم المفضل هذا العام ، حل فيه بالمرتبة الخامسة للمرة الأولى بعد أن كان لست سنوات متتالية الأول بلا منازع .

حاول مختار منذ زمن أن يعالج السبب ، لكن ما هو السبب ؟ لم يعرف مطلقاً ، لذا قرر أن يُغيِّر روتين حياته اليومي، قرر السفر إلى فرنسا وحده دون زوجته التي ظنها سبب انقطاع اسهاله الإبداعي ، وهناك قضى أسبوعين من المرح ، شرب عشرات الكؤوس ، عاشر العديد من الفتيات ، أغدق عليهن الكثير من الهدايا فأغدقن عليه شتى القبلات ، ملأ جيوبهن بمئات اليوروات ، فملأن فراشه طوال الوقت ، ومن ثم عاد إلى الوطن ، عاد إلى زوجته ، عاد إلى مكتبه ، و لكنه عاد كما كان .

ظلت فكرة اعتزاله الكتابة كابوساً يتراءى أمامه في كل مكان ، حتى في شفتي زوجته المنتفختين عندما يأويان إلى الفراش معاً ، إذ لا يمكن لأحدٍ أن يوافقه على الفكرة بعد أن وصل إلى قمة المجد وهو لم يبلغ بعد الخامسة والأربعين، فيما يحتاج الآخرون إلى سنوات ضوئية ليحققوا نصف ما حققه، وظل يبحث عن حل إلى أن لمعت في ذهنه فكرة ، فألقى قلمه إلى المكتب ، و انحنى قليلاً ، ثم فتح درج مكتبه ، وأخرج منه مغلفاً كبيراً ، إنه مغلف مشاركات المتسابقين في مجال القصة القصيرة لهذا العام في مسابقة المبدعين الشباب السنوية الخامسة ، والتي يرأس مختار فيها لجنة التحكيم.

بدأ ينظر إلى مشاركات المتسابقين بنهمٍ وهو يتمتم : يبدو أنه لا مفر من ذلك . ظل يقلب في الأوراق حتى توقف فجأةً ، وابتسم ، ثم عاد إلى الوراء و أسند ظهره إلى المقعد و تنهد تنهيدة عميقة وقد وجد ضالته أخيراً .

وجاء يوم إعلان نتائج المسابقة ، وجلس مختار في المنصة ، وأعلنت النتائج ، و سلمت الجوائز المالية والعينية ، و تصور الجميع ، ثم عاد إلى مكتبه ، و أخذ ينتظر . كان على يقين بأن ما خطط له سوف يحدث ، وحدث فعلاً ، إذ جاءت فتاةٌ إليه ، في ريعان شبابها ، وقد احتبس الدمع في عينيها من شدة الحزن ، و جلست أمام مكتبه، لم تستطع الحديث في البداية ، لكنه اختصر الطريق قائلاً :
- إني أعرف يا آنسة نادية أن نتيجة المسابقة كانت مفاجأة بالنسبة لك ، كنت تتوقعين أن تحتل قصتك المرتبة الأولى ، أو على الأقل الثانية ، و ليس الرابعة . لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، هكذا حال الدنيا .

قالت بصوت متقطع :
- أية رياح يا أستاذ ؟ أنا طول عمري الأولى في كتابة القصة القصيرة على مستوى المدارس كلها ، وأنا عندما شاركت في هذه المسابقة كنت واثقة جداً من أن قصتي لن تنال إلا المرتبة الأولى!

عندئذٍ اقترب منها وقد أخذت تكفكف دموعها وقال :
- انظري يا نادية ، إني أشعر بما تشعرين به ، أشعر بموهبتك التي جرحت ، و أحلامك التي تلاشت ، لأنني مررت به في السابق ، لكن هذا ليس نهاية العالم ، وربما تكون الفرص المتاحة أمامك للإبداع أفضل بكثير من هذه الفرصة.

نظرت إليه ،وهي تحاول أن تفهم ما بين السطور ، فتابع قائلاً :
- لقد قرأت قصتك ، و قرأت معها سيرتك الذاتية ، وعرفت غايتك الحقيقية من وراء المشاركة ، غاية فتاة فقيرة في السنة الجامعية الأخيرة ، لها سبعة أخوة هي أكبرهم ، أبوها توفى منذ سنتين ، وأمها ربة منزل تقليدية ، تحتاج إلى المال أكثر من أي وقتٍ مضى لتتابع دراستها و حياتها مع أنها لا تؤمن بأن المال عصب الحياة . أو ليست هذه قصتك التي شاركت بها ، و تشابه إلى حدٍّ كبير سيرتك الذاتية؟

دهشت لما سمعته ، ولم تصدق انه استطاع معرفتها من خلال ما كتبته ، وهنا عاجلها قائلاً :
- أنت فتاة موهوبة ، وأسلوبك في الكتابة غاية في الروعة ، وأنا لدي حل لكل مشاكلك ، حلٌّ أؤكد لك أنك لن ترفضيه.

في الحال قامت عن المقعد و اتجهت نحوه و كأنها وجدت طوق النجاة :
- وما هو الحل يا أستاذ؟

قال لها فيما هو ينظر إلى الشارع من نافذة مكتبه بتردد :
- ما رأيك أن تعملي لدي ؟ .. الراتب سيكون مجزياً ، و لن تحلمي بمثله في أي مكان آخر ، و في سن مثل سنك.

لم تتيقن مما سمعت ، كان العرض مفاجئاً ، بدا لها أنها تحلم ، و أن السواد الذي غطى الكون من حولها بدأ يتلاشى ، غير أن ذهولها لم يمنعها من السؤال :
- و ماذا سوف أعمل وأنا لم أتخرج بعد من الجامعة يا أستاذ ؟

عندئذٍ استدار نحوها ، و أمسك بذراعها و قال وهو يبتسم :
- ستكونين أنا!

لم تفهم ما يقصده في الحال ، ولم تدرك سريعاً أن احتلالها للمرتبة الرابعة بدلاً من الأولى لم يكن إلا فخاً قد نصبه لها ، لكنها فهمت فيما بعد ، فهمت أنها ستكون قلمه، ستكون كلمته ، فهمت أنها ستكتب له قصصه، ومقالاته بأسلوبها الرائع الذي تقاطع بشكل مذهل مع أسلوبه المعهود. فهمت أنها ستعمل محررة لديه في العلن ، وكاتبة خاصة في الخفاء ، و سينسب كل ما تكتب إلى الأستاذ مختار نظير وظيفة مستقرة ، وراتب مرتفع .

والغريب أنها قبلت العرض ، قبلت أن تلعب دور كاتبة الرئيس ، فلا ضير في ذلك ، فالرؤساء لا يكتبون خطاباتهم ، وإنما آخرون يعملون لديهم ، وفي النهاية ينسب الخطاب إلى صاحب السلطان. لقد قبلت بالعرض ، واستطاعت أن تعيد الشباب إلى قلم الأستاذ ، أن تعيد البريق الذي رحل عنه ، وأن تحافظ على مجده ليعود و يحتل المرتبة الأولى من جديد ، فيما استطاعت هي أن ترتقي بحياتها وحياة عائلتها من الفقر إلى الثراء ، استطاعت أن تستقل سيارتها الخاصة للمرة الأولى بعد أن أنهكتها مواصلات النقل العام . وفوق هذا وذلك ، لم تستطع أن تخفي سعادتها بنجاح قلمها الموهوب ، وتمدده على الساحة الثقافية بهذه السرعة ، وحتى وإن كان تحت اسم آخر أو اسم مستعار.

مضت سنوات ، ونجم مختار في صعود ، وراتب نادية في صعود ، حتى أتى اليوم الموعود ، وحدث ما لم يكن متوقعاً ، لقد بُلَّغ مختار رسمياً من قبل الدولة بأنه تم ترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب لهذا العام عن مجموعته القصصية الأخيرة ، وهو ما يحلم به أي كاتب مبدع على وجه الأرض ، لكنه لدى سماعه النبأ تجهم وجهه ، وبدأ يفكر من جديد ، بدأ كابوس قلمه المفلس يراوده مجدداً بعد سنوات من الانقطاع ، وأخذ يسأل نفسه للمرة الأولى : هل تراني استحق هذا التكريم؟

ظل لمدة أسبوعٍ يفكر ، ويفكر ، يحاول أن يهضم الموضوع ، يحاول أن يتجاوب مع كلمات المهنئين ، مع قبلات زوجته الملتهبة في السرير وأنوثتها اللامتناهية ، يحاول أن يلبس عباءة البطل المنتصر التي وضع نفسه تحتها ، ظل يحاول إلى أن اتخذ قراره دون رجعة.

كانت الساعة الخامسة مساء بالضبط ، دخل إلى المكتب بسرعة ، دخلت نادية وراءه ، ومن ثم أمرها بإغلاق الباب و الجلوس . جلست نادية ، بدأ بالحديث ، ودخل في صلب الموضوع دون مقدمات ، لقد كان يرغب بإنهاء التمثيلية ، كان يرغب بأن توضع الأمور في نصابها ، و أن يعرف القراء نادية باسمها مباشرة لا من خلال اسمه هو ، فهو لم يتوقع يوماً أن يصبح بطلاً قومياً على حساب بطلٍ آخر يستحق هذا الثناء والتقدير ، لكنها لم تنطق بكلمة واحدة.

قال لها وهو ينظر للناحية الأخرى من الغرفة :
- ما هو رأيك ؟ لن تكتبي بعد اليوم في الخفاء ، ستكتبين باسمك ، و ستظلين في مركزك ، وسيبقى راتبك هو هو ، كل ما سيحدث هو أنك ستتحررين من عباءتي ، وتصبحين حرة .

في التو خرجت عن صمتها وقالت ناظرة إليه :
- آسفة يا أستاذ . أنا غير موافقة !

تعجب مختار من موقفها ، وقد توصل إلى قناعة بأنه لا يمكن أن يأخذ زمنه و زمن من هم بعده ، فلا بد لها أن تأخذ حقها في الحياة ، وحاول إقناعها ، إلا أنها أصرت وقالت له :
- يا أستاذ ، أنا لا يمكنني بعد ما فعلته من أجلي أن أرد لك الجميل بالجحود ، لا يمكنني أن أخرج من عباءتك ، وقد عرفت معنى الاستقرار ، لا يمكنني أن أجازف بالكتابة باسمي الخاص بعدما عرفت النجاح بإسمك أنت ، فلربما لن يتقبلني القراء بشكلي الجديد ... آسفة ، أنا لا يمكنني أن ألعب دوراً آخر في هذه الحياة بعدما أتقنت هذا الدور منذ البداية .

حاول أن يقنعها بأن الترشح لهذه الجائزة هو من حقها ، عندئذٍ وضعت يدها على فمه حتى لا يكمل ، كانت المرة الأولى التي تلامس فيها يدها شفتاه ، كانت المرة الأولى التي يشعر فيها بأنوثتها عن قرب .

نظر إليها و الابتسام يملأ وجهه ، فابتسمت أيضاً و قالت :
- إني سعيدة بهذا بترشيحك للجائزة تماماً لو كنت أنا من ترشح ، فأنا معك ، و سأبقى معك ، وأنت في نظر القراء ومن يحبونك البطل الذي يستحق هذا التقدير والتكريم ، وليس باستطاعتك بعد أن منحوك ثقتهم ، ومحبتهم ، أن تتخلى عنهم بهذه البساطة.

وبلا شعور ، ضمها إلى صدره ، وطبع قبلة بريئة على خدها الأيمن ، ثم هبط بشفتيه على شفتيها ، وأخذ يمتص منهما رحيقهما الأحمر ، وقد اكتشف في النهاية أن كل ما قدمه لهذه الفتاة في السابق مكافأة على خدمتها ، لم يكن يساوي في نظرها قبلة واحدة من شفتيه ، وهو البطل الذي لطالما بحثت عنه بين السطور ، وحروف الكلمات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي