الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرسالة الاولى

تقي الوزان

2008 / 4 / 26
سيرة ذاتية


قبلني فؤاد وسلمني رسالة ابو رشا , وهي الاولى التي تصلني منه . كان ذلك في تشرين اول عام 1988 , وقد مضى على تصفية الجبهة الوطنية عشر سنوات . كان النظام قبلها قد فعل كل ما يستطيع فعله للوصول الى معرفة ما يجري داخل العوائل العراقية , وتمكن من خلق ايهام لدى الغالبية العظمى بكونه يعرف كل مايقال ضده , بعد ان اعدم الكثيرين بتهم لم يقترفوها , مثل الانتقاص من رئيس الجمهورية او من السيد النائب . ونشر بشاعة التعذيب , وسادية البطش بهذه الضحايا , عن طريق اخبار شفاهية تنتقل من المسؤولين الكبار لتصل الى كل عائلة عراقية , عبر الشبكة البعثية من المنظمات الحزبية والمهنية التي غطت كل زوايا الحياة . زراعة الرعب هذه دفعت الكثيرين للتعاون مع النظام في محاربة الشيوعيين وباقي المعارضين , ورغم اختلاف هذه الدوافع من شخص لآخر , الا ان اخطرها كان من الشيوعيين الذين تعاونوا ( باخلاص ) مع النظام , وارادوا التنكيل بالباقين , عسى ان يعيد لهم ذلك قناعتهم بانفسهم ويصبح الجميع ( في الهوا سوا ) . في هذا الجو وبعد فترة ليست بالقصيرة التقيت بالصدفة بابو رشا في حافظ القاضي وسط بغداد . واصر على دعوتي للغذاء , حاولت التملص , ولكنه مسكني من يدي وسحبني الى مقهى قريب . حاولت ان اكون طبيعياً جهد الامكان , ولا اظهر تمنع اكثر قد يثير شكوكه . طلب مني ان اسمح له بخمسة دقائق فقط ليكلم صديقه في التلفون من متجر بجانب المقهى , ويخبره بانه سيتأخر عليه . خرجت خلفه , واستدرت في الفرع الذي فيه الثانوية الجعفرية , وبعد خمس دقائق كنت في سيد سلطان علي اتنفس بعمق , وقد زايلني القلق ... ربما كان صادقاً باتصاله بصديقه ؟ واذا كان صادقاً سيعذرني حتماً .
عندما بعث الرسالة مع فؤاد لم يخبره أي شئ عن عمق علاقتنا , رغم الحميمية التي تربطه بصديقي فؤاد ايضاً , حيث دخلا في مفرزة واحدة الى كردستان قادمين من سورية , وطيلة الثمان سنوات الماضية لم ينقطع الاتصال بينهما بشكل مباشر او غير مباشر . ولم يخبره ايضاً اننا التقينا قبل سنتين , ربما بسبب طبيعته المتكتمة , او اعتقد باستيائي من تصرفه معي .
كان بيشمركَة في قاطع اربيل , وعلم بقدومي الى مقر قاطع بهدنان , وبلغني احد الرفاق الذين يعملون معه : انه يحاول الحصول على اجازة لزيارتي . سألت الرفيق عنه , كي ابلور صورة استطيع من خلالها التواصل معه بسهولة بعد سنوات على ذلك اللقاء , اجابني بالايجاب بكل شئ , الا انه شايف نفسه . التقينا , وكان ذلك الانسان الحالم الذي عرفته منذ عقدين , يختصر الكثير ويقدم فكرته بوضوح , لايجامل على حساب قناعته , صاحب نكتة , وتعليقات لاذعة يعتقد البعض انها ساخرة .
كانت اجازته محدودة , وكنت اعمل على تقديم مسرحية , وقبل يوم من سفره طلب ان يشاهد التمرين , واعتذرت لان الانصار ليسوا ممثلين وسيربكهم بحضوره , ويؤدي الى فقدان الثقة بأدائهم , في الوقت الذي نعمل فيه على بناء هذه الثقة . الح , واضاف : بان الرفيق ابو خالد ( كان معه ) يود ان يرى التمرين , وهو مخرج ايضاً , وخريج اكاديمية روما المسرحية . اجبته باحراج : اتشرف , وهذا يعزز موقفي . ابتسم ابو خالد بطريقة لاتعبر عن أي شئ , ولكنه حياني بانحناءة بسيطة من راسه , وفي داخلي حسدته على هذه الامكانية في اخفاء مشاعره بالكامل . ابو خالد من اهالي عقرة , يعتمر جمداني ( لباس الراس الكردي ) وشعره اسود طويل ينسدل من تحت الجمداني الى كتفه , في تحدي صارخ للتقاليد الكردية التي لاتستسيغ الشعر الطويل للرجال , ووجه اسمر يعتني بحلاقته يومياً حتى من الشارب , وهذا تحدي ينفرد به من بين كل الرفاق , فمن الذي يستطيع ان يحلق شاربه وسط بيئة ريفية وعشائرية غيرابو خالد ؟! ويبدو ان سبب تمرده لعيشه الطويل في اوربا وتاثره بالحريات الغربية . عرفت ان ابا خالد سيستمر في البقاء ولم يذهب غدا مع ابو رشا , اكدت له بانه سيشاهد التمرين قبل العرض بيومين , واكون سعيدا بملاحظاته . ابتسم ذات الابتسامة , واذهلني برزانته.
.. بعد ذهاب ابو رشا بيوم واحد عرفت ان ابو خالد خياط , قدم الى مقر القاطع لانجاز خياطة بدلات الانصار , وتدريب بعض الرفيقات على الخياطة . وهو امي لاقرء ولا يكتب , وضعيف في الكردي والعربي , ولايعرف في اللغتين اكثر من مائتي مفردة .
ابو رشا ( خالد فضالة ) من الصويرة , كان معلماً وخجولاً , يعشق مدينته , ويتغنى باستقامة ابن مدينته الزعيم عبد الكريم قاسم , كنت اكايده واقول له : ان هاشم ابو البايسكلات من الصويرة ايضاً . وهاشم هذا قتل ابنه بحجة انه هارب من الجيش , اكرمه صدام , ومنحه احد اوسمته , ولاكثر من اسبوع يعرض التلفزيون بطولته , ويمجد كرامته التي ابت عليه ان يرى ابنه هارب من الجيش والعراق في حرب مع ايران . الا ان ابناء الصويرة يعرفون جيداً ان هاشم حاول الاعتداء على زوجة ابنه , واثناء الشجار ضرب ابنه بحديدة ثقيلة ادت الى مقتله.
اخبرني احد ابناء الصويرة بعد سقوط النظام : ان هاشم قد جن , واخذ يجلس في باب بيته الذي اهداه له صدام. وبعض الشباب يبصقون عليه كلما مروا وشاهدوه .
عندما رأيت ابورشا كانت الخطوط تملئ وجهه الاحمر وعنقه الطويل , الا ان شعره حافظ على برونزيته وتجعده , كان لايتوانى عن القيام باي عمل يكلف به , ولفت الانتباه لتخطيطه العسكري الدقيق , وطريقة تنفيذه التي تعتمد في نجاحها على جرءة تقارب الجنون . الحقد على النظام , ورؤية بشاعة جرائمه , ليست هي المولدات الوحيدة لطاقته . هنالك شئ اكبر , وكلما تشابك مع الموت في اغلب العمليات التي خاضها كلما توضحت الصورة التي وجد عليها , انه مخلوق لهذا العمل بالذات . كان فيض نجاحه يغري الشباب بمغامرات فريدة قد تفضي الى الموت . كان حريصاً في اختيار مفرزته التي لاتتجاوز العشرة انصار , ولاتقل عن ثلاثة . سأله احد شباب مفرزته : ليش ما تلبس رتبة عقيد , افضل من نقيب او ملازم اول ؟ اجابه بهدوء : اكو عقيد يقود مفرزة انضباط بالشارع ؟! لو العقيد ايكون بالمديرية .

ارتعب الجهاز الحزبي البعثي والحكومي اكثر , عندما تأكدوا ان حادثة الاختطاف الرابعة خلال ستة اسابيع تمت صباح اليوم , وفي وسط المدينة . تأكدوا من انها ليست مفارز بيشمركة تأتي وتنسحب في الليل . كان المخطوف مقدم استخبارات , قدم في الساعة العاشرة صباحا من المعسكر الرئيسي في اربيل ( حالياً منتزه الشهيد سامي عبد الرحمن ) متوجهاً الى المحافظة في وسط المدينة , والمسافة لاتستغرق في السيارة اكثرمن عشرة دقائق . جن جنون الاجهزة الامنية . بهذه الجرءة ؟! وفي العاشرة صباحاً ؟! الشك ليس بالجحوش ومرتزقة السلطة فقط , بل بكل شئ كردي . الاختطاف هز تماسكهم , وظهرت تشكيلات من العسكريين العرب فقط , ويبدو انها احد خطط الطوارئ , رفعوا الامان , سحبوا اقسام بنادقهم , كانوا يتفرسون في وجه أي كردي , يتلفتون في كل الاتجاهات وهم يطوقون المنطقة التي يعتقدون ان الاختطاف حصل فيها , فتشوا البيوت بيتاً بيتاً , وزاوية زاوية , توزعوا كل عشرة جنود يفتشون دارا , اثنان في الباب , وثلاثة صعدوا الى السطح , واثنان يراقبان , والثلاثة الباقون يفتشون كل شئ , كان البيت صغيراً ويتكون من غرفتين متقابلتين , تتوسطهما طارمة , وامامهما مساحة وسطية مرصوفة بحجر غير منتظم , في جانبها الايمن حوض وصنبور ماء , وفي الجهة المقابلة مطبخ اقرب للصريفة من الغرفة , وبجانبه فتحة بئر مهدم , ولاتوجد في البيت غير امرءة عجوز . فتشوا الغرفتين وقلبوا كل شئ فيها , سأل العجوز : رجلج وين ؟ اكو احد وياج ؟ (سمعهم بوضوح ابو رشا واثنان من مفرزته والاسير) اجابه صاحبه: شتفتهم من هذي مهمودة الشيب , حتى عربي هم متعرف . تقدم الجنديان من البئر , وضرب احدهم الطشت الذي بجانب فتحةالبئر, سمع ابورشاوجماعته حركتهم,احسوا بصوت احذيتهم , كتموا انفاسهم , بينهم وبين الجنود فوق رؤوسهم متر ونصف المتر, مد الجنود نظرهم الى داخل البئر.. انسحبا, بعد لحظات سمعوا صفقة الباب , تنفسوا داخل مخبأهم . كانت في احد جوانب البئر مغارة اشبه باللحد , وموه مدخلها بالجنفاص المصبوغ بلون جدران البئر بشكل جيد . مقدم الاستخبارات كان خائفاً من اية حركة اكثر من مختطفيه , فقد ادرك انه اول من يموت في المواجهة لو حدثت . هذا ما افاد به بعد ان سحب الى المقرات في الاراضي المحررة .

عندما وصلتني الرسالة كنا في زيوة نعالج وضعنا سوية مع بيشمركة الديمقراطي الكردستاني والعوائل الكردية , والكثير منا يحتاج الى علاج اثر هجوم الانفال الدموي . وزيوة قرية ايرانية كبيرة تحاذي الحدود العراقية , تقع جنوب ارومية ( الرضائية ) وشمال نغدة , وهي تكاد ان تكون عراقية لولا الاجهزة الحكومية الايرانية . استقر فيها اكراد عراقيون منذ عام 1975 على اثر الاتفاقية المشؤومة بين صدام والشاه , والتي حصلت فيها ايران على نصف شط العرب مقابل الغدر بالثورة الكردية . وجنوب زيوة على الجانب العراقي , وبالتحديد في ( ناوزنك ) مقرات البيشمركة الشيوعيين , ومنها بعث ابو رشا برسالته التي لاازال اتذكرها بعد عشرين عاماً .

كان يتألم بشدة من عمق الجراح التي تركتها الانفال في جسد هذا الشعب المنكوب , لقد فرغت كردستان من قراها , وبات الوصول الى من سلم في المجمعات السكنية , والى القصبات والمدن صعباً , ويستغرق اياماً . بعثوا مفارز صغيرة من شخصين او ثلاثة لتحديد مناطق تواجد الجيش والجحوش . لم تكن هناك مشكلة في تموين المقرات بالمواد الغذائية وباقي الاحتياجات , كانت المشكلة الوحيدة هو في الوصول الى المدن , وكيفية تنظيم المقاومة داخلها . كانوا مجموعة من الشباب ارعبوا السلطة في كل محافظات كردستان , وبالذات في اربيل . حاولت السلطة واذنابها الحصول على صورهم لتعميمها ولم تفلح , ووضعت جوائز كبيرة لمن يوقع فيهم , ولم تتمكن من أي واحد منهم , كانوا ينقلون المقاومة الى عمق المدن , وعمليات جريئة داخل السجون والثكنات والمجمعات الحكومية والكليات والاقسام الداخلية . كانت رسالته تحتشد بالرغبة الجارفة وامل العودة السريعة الى احضان المدن . بعد رسالته الاولى بيومين فقط , اخبرونا بوفاته المفاجئة . كان يجلس بين رفاقه,
وشخر ولم يفق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. داعمو غزة يغيرون ا?سماء شوارع في فرنسا برموز فلسطينية


.. رويترز: قطر قد تغلق مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب




.. مراسل الجزيرة هشام زقوت يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع


.. القسام تستهدف ثكنة للاحتلال في محور نتساريم




.. واشنطن تطالب قطر بطرد قيادة حماس حال رفضها وقف إطلاق النار