الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام القبض على الدكتاتور 11 المثققف المختلف، سعدي يوسف نموذجا

حمزة الحسن

2004 / 1 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


 لم يعرف تاريخ هذه المنطقة نموذج المثقف المختلف إلا في حالات لا يحتفل بها وتعد في العرف العام ظاهرة نادرة في أحسن الأحوال، أو ظاهرة شاذة في أسوأ وصف، لأن النموذج هو المثقف المنسجم، الشبيه، المتفق مع الكتلة والجماعة في مجتمع قبلي يحترم التطابق ولا يسمح بالاختلاف: وكل تطابق هو فقدان للهوية والفردية. إنه نزع طوعي للإرادة.

طبيعة المجتمعات الشرقية لا تسمح ببناء مساحات خاصة للاختلاف والتمايز، بل وحتى المجتمعات الأوروبية تعاملت  منذ قرون مع هذه الظاهرة ظاهرة المثقف الأعزل والمختلف وغير الشبيه على أنها ظاهرة ملعونة أو منحوسة أو علامة تمرد على المؤسسة، لكن الحداثة الغربية تجاوزت هذه الإشكالية ـ بعد صراع طويل ومرير ـ حتى أسست للاختلاف  الثقافي والفردي والسياسي وشرعت له كحق قانوني وإنساني.

واليوم وفي إطار مؤسسة برلمانية يجلس السياسي المتطرف مع المحافظ ورجل الدين الكاهن مع المنادي بالإباحية، واليساري مع اليمني، والعدمي مع الملتزم ...الخ ... التمايزات والألوان والأطياف.

وهذه الثورة الفكرية لم تحدث من فراغ بل بعد معاناة ومكابدات وصراعات قتل على إثرها مفكرون وشعراء وروائيون وفلاسفة وشرد كثيرون في بقاع العالم. ليست، بمعنى أدق، ظاهرة اليوم، شرقا وغربا، بل هي جزء من تاريخ البشرية في سعيها المتواصل نحو الحرية والتحضر وشرعية الاختلاف.

وعرف فقهاء المسلمون هذه الظاهرة قديما وشرعوا للاختلافات الفكرية والمذهبية والدينية والفردية والعقائدية في إطار نخبوي فقط بل كان الفقهاء في مراحل من التاريخ قد حاوروا حتى أصحاب ( الملل) والأديان غير السماوية. وللبروفسور المغربي علي أومليل دراسة قيمة في هذا المجال بعنوان( شرعية الاختلاف) تستحق القراءة والتأمل، كما أن الدكتور عبد الله إبراهيم تعرض لمفهوم "المطابقة والاختلاف" في كتابه الكبير عن (المركزية الغربية وإشكالية التكون والتمركز حول الذات). و فلاسفة الاختلاف في عصر ما  بعد الحداثة أمثال جيل دولوز وجاك دريدا قد أسسوا فلسفتهم على (تاريخ المختلف) وهو تاريخ يقوم على الضد من فلسفات التماسك والكلي والشبيه والموحد و بحثوا بتعبير دولوز في "السطوح" أي طبقات الخطاب وليست  وحدته الخارجية: فالخطاب ليس سطحا بل طبقات. ليس في تماسكه بل في تنوعه. التاريخ هو تاريخ التنوع أو الوحدة في التنوع. إنه ليس صراع الأضداد، بل  وحدة الاختلاف.

وفي كتابه( نقد العقل الغربي) وفي فصول مطولة يشرح مطاع صفدي فكر المختلف بالاستعانة بقراءة معمقة لتاريخ الفلسفة، ويتوصل إلى هذا الاستنتاج في كون المختلف  قد أحدث قطيعة مع الأم، الرحم، وولد  يتيما في الأصل( كما لو أنه مولود من لا ـ أم، كالمسيح مزروع في رحم العذراء من لا ـ أب).

فالمختلف ليس المتناقض، بل غير الشبيه( فرادته أو يتمه كونه بلا تكوين مسبق.إنه يرضى بالهامشية ولا يقبل بالسلالة. لذلك يصح عليه اتهام المنشق الذي لم يشقه أحد عن اصل ما، ولكنه هو سبب انشقاقه. المختلف ليس مفاجأة الشبه ولا يقوم أمامه كاستثناء مهاجم فقط.إنه قوة تهديد له. المختلف يعلم حتى الأشباه كيف يختلفون في تشابههم. إنه بذلك لا يقيم القطيعة فقط بينه وبين الأشياء،  ولكنه يدخل سوسة التباين فيما بينهم كذلك) .

إنه استثناء ـ وليس فائضا عن الحاجة ـ في المؤسسة ودخيل وطارئ وغريب غربتين: غربة النوع وغربة الشكل لكنه الاستثناء الذي ينتصب (في منتصف طريق الشبه، فجأة، قاطعا الاستمرار، وتوالي الأشياء في مسرح السكون والاستقرار).

إنه مهيار الدمشقي الذي تحدث عنه أدونيس( يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يرد، وأمس حمل قارة ونقل البحر من مكانه/إنه الريح لا ترجع القهقري والماء لا يعود إلى منبعه. يخلق نوعه بدءا من نفسه ـ لا أسلاف له وفي خطواته جذوره/ يمشي في الهاوية وله قامة الريح).

هذا الأعزل، الذي خانته المؤسسة( بل خانها بالتمايز والخطاب والرؤيا وعزلة المبهر لا عزلة المنبوذ ـ عزلة قمر أو كوكب بعيد!) وترك وحده في العراء، وفي الريح، لا يشبه القمر، وليس نبيا، لكنه الريح المخبوءة في الجذور: إنه وعد وبشارة أمل!

لا يطرح المختلف سؤال الاختلاف، لكنه يمارس القطيعة مع كل الأشياء بدءا من ذاته: لذلك فهو غريب ومدهش( متناقض يقول الأشباه؟!) وردة ونار، هادئ وجمر، جارح وفراشة، لا يعيش الهوية ولا الايديولوجيا كمعطى، بل كسؤال. إنه الباحث في زمن السكون والنهايات. قد يصل الأشباه إلى أهدافهم لأنها بسيطة وقصيرة وسهلة لكنه في تيه متواصل: إنه قلق في القطيع، وصرخة في البوار.  لن يصل أبدا إلى طريق لأنه أفق وليس طريقا.

هذا المختلف، الوحيد،تخافه المؤسسة، ويخافه الأشباه، وتخافه الكتلة، ويخافه  المتماسك: هو ليس نظرية،إنما مناخ، وليس سكة بل رؤيا. هذا الكائن المتروك في البرية، المنسي اليوم في حفل الأقنعة، هو ( المغنى الوحيد غدا في حفل العشق والاختلاف)كما يقول جاك دريدا.

ليست مشكلته المزمنة في توالد الأقنعة، بل في رسوخها، وليس في رسوخها أيضا بل في التشابه. والتشابه لا يعني التماثل لأن هذا اختلاف كذلك بل يعني المطابقة.

إنه، وحسب دريدا أيضا"المنفصم": هذا المنفصم ليس شاذا،  لكنه النادر والمدهش والفائق الجمال، كناري في حقل الغربان. يدخل ويخرج من السجون  والحروب والمدن والقارات والأفكار والمجازر لحسابه الخاص: يخرج  الجميع من المعارك أبطالا بنياشين وبطولات أما هو فلا مراسيم ولا احتفالات: يختار العزلة، شقة مدهشة وجميلة ورائعة تليق بملك طفل منذور لزمن في نار الصاعقة،  أو في مغارة يحولها إلى عش للفرح المخبوء في  السحاب:إذن دعوه لأحلامه!

خذوا الطرق والمحطات كي توصلكم إلى الغايات، أما هو فلن يصل اليوم ولا غدا لأن شرف معاركه في غايتها وليست في نتائجها وهو لا ينتظر الحفل بل يعيش ويرى: هو منذور للغيب ولأمطار لا تزال في البحر، ولأيام ترقد في لحاء الشجر: إنه دليل الرياح إلى السحاب.

هو نبي تركه أهله في صحراء وتركوا له موقدا. إنه أيوب العصر ينوح في ضواحي مدن الحجر والثلج، منتظرا الثلج الأول، والأمطار الأولى، نحو رحلة أخرى صوب مدن الملح: إنه سعدي يوسف!  








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي