الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل إبداع جديد لسياسة الحركة النقابية

التوجه النقابي الديمقراطي الكفاحي

2008 / 4 / 28
ملف الاول من آيار 2008 - أفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة


غيرت مجمل الظواهر التي يشملها مفهوم العولمة مشهدنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الى حد و بسرعة يستعصي معهما استيعاب تفكيرنا لهذه التغيرات.
صحيح أن الرأسمالية كانت على الدوام ذات طابع عالمي، وأنها كانت في بعض مراحلها أكثر انفتاحا مما هي اليوم .لكن اقتصادا عالميا يظل مجموعة اقتصاديات وطنية، تربطها أواصر التجارة والاستثمار والقرض. أما ما يتشكل اليوم فمغاير تماما : إنه اقتصاد مندمج على نحو إجمالي.
ان العولمة ، بما هي عملية تحويل للحياة الاقتصادية من جراء اعتماد التكنولوجيا الحديثة ،واقع لا مناص منه ولا رجعة عنه. لكن الأمر خلاف ذلك فيما يتعلق بعواقبها الاجتماعية والسياسية. ففي هذا الميدان ليس ثمة ما لا مناص منه او لا رجعة عنه. وبالتالي فالمسألة الرئيسية تكمن في معرفة كيف ينبني ميزان القوى بين المصالح المتمثلة في هذا المجتمع المعولم.
تمثل الشركات المتعدد الجنسية (ش م ج) رأس رمح التحولات التكنولوجية للعقد الأخير ،وفي نفس الوقت المستفيد الرئيسي منها. إذ يوجد منها 40 ألف وهي الى جانب 200 ألف فرع تتحكم في 75% من التجارة العالمية بالمواد الأولية وبالمنتجات الصناعية و بالخدمات، - و الواقع ان النسبة اكبر إذا اعتبرنا المنشآت من باطن - ويتم ثلث هذه المبادلات داخل نفس الشركة، بين مختلف وحداتها، مما يجعلها تفلت الى حد كبير من رقابة الحكومات وهيئاتها فوق الوطنية. وحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED " أصبح الإنتاج الدولي ميزة هيكلية مركزية للاقتصاد العالمي".

تطاول على السيادة الوطنية

كما جاء في نفس التقرير أن "التقسيم التقليدي بين الاندماج في مستوى المنشأة وفي مستوى الأمة يميل نحو الزوال. فالشركات متعددة الجنسية(ش.م.ج) تتطاول على مجالات كانت فيها السيادة والمسؤوليات تقليديا ميدانا خاصا بالحكومات الوطنية" .ومنذ انهيار الكتلة السوفيتية أصبحت سلطة ش م ج شاملة ، عبر الاستعمار الاقتصادي والسياسي لدول الكتلة السوفيتية السابقة وللدول الناتجة عن تفكك الاتحاد السوفيتي.
ليس تحطيم مناصب الشغل المرافق لازدهار ش.م.ج ناتجا فقط، ولا حتى بوجه خاص، عن ترحيل الصناعات بل ترتب خاصةً على إعادة تنظيم المنشآت بضغط من السباق نحو المردودية أي نحو أقصى ربح في إطار العولمة. تتقوى الش.م.ج بـ"التخلص من الشحم" ( تسريح "فائض"العمال ) وكلما أعلنت إحداها عن تسريحات جديدة ، إلا وارتفع سعر أسهمها بالبورصة . والمعترضون على ذلك قلة . لقد أفلحت النيوليبرالية في الأخير في فرض الإقرار بـ"التخلص من الشحم" والسباق نحو الربح بصفتهما ناموسا طبيعيا.
وفي نفس الوقت، نلاحظ كيف أن عجز الدولة عن مراقبة الرساميل في إطار حدودها بالوسائل القانونية أو بغيرها من الوسائل السياسية لا يؤدي فحسب إلى إضعاف الدولة نفسها بل إلى إضعاف كل البنيات الفاعلة في الإطار الوطني: البرلمانات والأحزاب السياسية والاتحادات النقابية. أي بعبارة أخرى كل وسائل مراقبة ديموقراطية ممكنة أو فعلية .
مع ذلك لا يصح استنتاج أن النضال السياسي في إطار الدولة الوطنية لم يعد له معنى ، بذريعة أن سلطة هذه المؤسسات محدودة. وبالمقابل لن تهب الدولة بعد لنجدة الحركة العمالية، ولو كان حلفاؤها التقليديون بالحكومة. تلك على كل حال تجربة النقابات بدرجات متفاوتة في إسبانيا والسويد وفرنسا وبريطانيا مع حزب العمال الجديد، وهي بلا شك مصير النقابات الألمانية بعد أن أمسكت الاشتراكية الديموقراطية " لايت"light ، تحت سطوة جرهارد شرودر، بزمام الأمور .
تمثلت العاقبة الاجتماعية الرئيسية للعولمة في ظهور سوق شاملة للعمل. ويعني هذا أن عمال كافة البلدان أصبحوا من الآن فصاعدا ، بفعل سلاسة الاتصالات وحركية الرأسمال ، ومهما بلغت درجة تطورهم الصناعي أو نظامهم الاجتماعي ، في تنافس في جميع ميادين الاقتصاد، مع تفاوت في الأجر نسبته 1 الى 50 أو أكثر.
أدى هذا التنافس نحو الأسفل الى دوامة انزلاق شرس يتمثل في تدهور الأجور وظروف العمل وتزايد البطالة والتهشيشprecarisation وتحطيم المكاسب الاجتماعية ونمو القطاع غير المهيكل informel . ولا قعر لهذا الانزلاق ان لم يكن عمل العبيد .

سوق وقمع

والحال أن سوق العمل الشاملة هذه ليست بأي وجه "سوقا" بالمعنى المألوف، سوقا تحكمها قوانين اقتصادية. إنها منظمة بقوانين سياسية ، وبتدخل كثيف للدولة، في شكل قمع عسكري وبوليسي، و هذا القمع هو ما يسمح في آخر المطاف لهذه السوق بالبقاء متماسكة.
ان البلدان التي تقوم بدور هام في سوق العمل العالمية، والتي تحدد الشروط في أسفل السلم، هي التي تعاني شعوبها من قمع شرس (كالصين والفيتنام وإندونيسيا) أو تكابد عواقب قمع شرس في ماضيها القريب (روسيا والبرازيل وأمريكا الوسطى). أو بلدان "ديمقراتورية" ( [1]) حيث احترام شكليات الديموقراطية ، لكن موازين القوى الاجتماعية مبنية على قواعد لا صلة لها بالديمقراطية مثل الهند والمكسيك وتركيا.
هذا ما يجعل النضال لأجل الحقوق الإنسانية والديموقراطية عنصرا أساسيا في بناء سلطة مضادة و فتح الطريق لبدائل ممكنة.و ليست الحقوق الديمقراطية عند الحركة العمالية مسألة امتياز ثقافي بل مصلحة طبقية أساسية، لأن ضمان هذه الحقوق وحده كفيل بتنظيم العمال لأنفسهم للدفاع عن مصالحهم وتقديم مشروع مجتمع بديل.
أضف إلى ذلك أن هذا النضال من أجل الحقوق الديموقراطية يمثل إحدى نقاط الالتقاء الموحِدة للمصالح المشتركة بين عمال الجنوب ورفاقهم في الشمال ، أي بين الذين يسعون للتحرر من ظروف على قاب قوسين من العبودية والذين يناضلون كي لا يغرقوا في تلك الظروف. كما أنها نقطة التقاء بين النقابات ومنظمات أخرى من المجتمع المدني.

حكومة عالمية افتراضية

ليست العولمة التي نعيش إلا عولمة جزئية: فالمعولم هو الرأسمال والشبكة السياسية التي تخدمه.لا بل يمكن القول بوجود نوع من حكومة عالمية افتراضية تتكون عناصرها من جملة اتفاقيات متعددة الأطراف ومؤسسات فوق وطنية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة وغيرها. وجلي أن "حكومة العالم" هذه لا تخضع بأي شكل لأي رقابة ديموقراطية. إذ يضع سياستها وقراراتها جماعات ضغط الرأسمال العالمي ، أي نفس الجماعات التي تضع سياسة الحكومات الرئيسية التي تتحكم بهذه المؤسسات الدولية.
بالمقابل، لم تُعولم دولة الحق ،ولا الحقوق الديموقراطية ولا حقوق الفرد، ولا الحقوق النقابية. يمكننا إذن القول: لنعولم ، لكن لنعولم كل شيء !
لا يستعصي تخيل بناء نظام عالمي جديد، مغاير للنموذج النيوليبرالي السائد اليوم، ومستجيب لحاجات المجتمع برمته. فغياب حكومة عالمية و"دولة عالمية" –زد على أنها غير محبذة بأي وجه في الظروف الحالية، لا يحول دون اتفاقيات بين الدول مع مساطر تطبيق ، تقوم مثلا بفرض قواعد عمل على ش.م.ج مطابقة لمصالح السكان والمجتمع المدني العالمي، بما في ذلك قانون شغل دولي إجباري، أو الضريبة على التدفقات المالية.
هكذا، ليست العقبة بوجه الحركة العمالية نقصا في الأفكار، بل مشكلا تنظيميا. إننا في حرب يجري فيها الدفاع عن مصالح الأقوياء بكل الوسائل، وتتوقف فيها قوة الأفكار على قدرة أنصارها على فرضها. و يستمد أعداؤنا قوتهم من المال، من كميات هائلة من المال . بينما تنبع قوتنا من تنظيم الحركة العمالية على المستوى العالمي . ويكمن سبب ضعف أو سوء نجاحنا حاليا في هذا التنظيم في بقاء عقولنا حبيسة الحواجز التي فرضتها حدود الدول، بينما مراكز القرار والسلطة تخطت تلك الحدود منذ أمد طويل.
لدينا اليوم، بوسائل الاتصال الحديثة ، القدرة على عولمة الحركة الاجتماعية. لكن العقول للأسف لم تواكب. فالحركة النقابية العالمية ظلت في الواقع في طور شبكات متراخية من منظمات وطنية تواصل رد الفعل انطلاقا من ارتكاسات وطنية. ويستدعي فهم هذا الوضع المحجوز عودة الى الماضي. فللعولمة تاريخها مثلما للحركة النقابية تاريخها الذي يتعين تذكره لفهم تأخرها الفادح عن الأحداث.

نموذج الثلاثين سنة المجيدة

خرجت الحركة النقابية الأوربية من الحرب العالمية الثانية مستنزفة: فقد هلكت آلاف من أفضل أطرها في المعسكرات أو في الحرب أو في المنفى. لكن طبقة أرباب العمل لم تكن بدورها في موقع قوة. فقد كانت اقترفت الكثير مما يلزمها بطلب الصفح . وترتب عن هذا ان إعادة البناء ، التي مولتها الى حد بعيد الولايات المتحدة الأمريكية ، تمت في أوربا واليابان على قاعدة إيديولوجية الشراكة المرتكزة إجمالا على الوعد بالسلم الاجتماعي مقابل الاعتراف بالحقوق النقابية ودولة الرعاية Etat-providence. وأدى الازدهار الاقتصادي لما بعد الحرب – ثلاثين سنة المجيدة- والذي لم يتوقف إلا مع أزمات 70 و80 ، إلى تدعيم هذا النموذج.
كما جرت إعادة البناء في سياق الحرب الباردة. وإذا كان من الخطأ اعتبار انشقاق الحركة النقابية العالمية المتجسد بالفدرالية النقابية العالمية (FSM) سنة 1947 من تدبير الاستخبارات الأمريكية CIA ( إذ أن التعارض الجذري بين المشروعين الاشتراكي والشيوعي ابتداء من 1921، وكذا قمع الاشتراكيين في الدول التي احتلها الاتحاد السوفيتي ، كان من شأنه أن يكفي) فمن الأكيد مع ذلك أن الحياة السياسية للحركة العمالية ظلت طوال خمسين سنة تحت هيمنة نقاش زائف حول معرفة ما ان كانت الرأسمالية (وقد رتبتها الاشتراكية-الديموقراطية) أو الشيوعية (في شكلها الستاليني) مطابقة على نحو أفضل لمصالح العمال .
كان وضع الحركة النقابية في الدول المصنعة الرئيسية، عند نهاية الثلاثين سنة المجيدة كالتالي: ارث إيديولوجي وسياسي أضعفه كثيرا اختفاء الأطر الأكثر ثقافة وخبرة،ونقاش وأولويات سياسية زيفتها الحرب الباردة؛ ومنظمات نقابية قوية لكن روتينية وقيادة قصيرة النظر وجاهلة سياسيا (ثمة طبعا استثناءات)، قدرتها على إدارة المكاسب أكبر من جدارتها للتنظيم أو النضال، وهي بوجه عام مؤيدة لإيديولوجية الشراكة الاجتماعية وعاجزة عن مواجهة الطوارئ التاريخية؛ وقاعدة تربت على السهولة وبالتالي على السلبية.ولم يكن الوضع في ما يسمى العالم الثالث في حال احسن .
كان اذن على الحركة النقابية ان تأتي معجزة لتتمكن من السمو على مجموع نقاط ضعف مكوناتها. كان يجب محو أربعين سنة من التاريخ.
عمليا ، يوجد اليوم ثلاث أنواع من المنظمات النقابية ذات وزن: الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة (CISL)، السكرتاريات المهنية الدولية س.م.د (SPI)، الكونفدرالية الأوروبية للنقابات (CES) بفيدرالياتها القطاعية ( مرتبطة جزئيا، لكن ليس في جميع الحالات، ب SPI لقطاعاتها). اما الفدرالية النقابية العالمية FSM فلم يبق منها كنواة الا تحالف لدكتاتوريات الشرق الأوسط وبيروقراطية الكولخوزات الروسية .والكونفدرالية العالمية للعمل (CMT) (المسيحية سابقا) هي منظمة صغيرة حيث CSC البلجيكية وحدها لها تمثيلية في بلدها. وثمة منظمات جهوية مثل Ousa (افريقيا) أو Cisa (الدول العربية) تسيطر عليها دول، غالبها استبدادية ومنخورة بالفساد ، وبالتالي فهي غير مفيدة نقابيا.

كونفدراليات سائرة على غير هدى

تواجه(CISL) مشكلا مزدوجا. فهي من جانب تتكون من منظمات وطنية، ويديرها ممثلو هذه الأخيرة. وهؤلاء تعودوا التفكير والعمل في إطار الدولة الوطنية ولهم مصلحة مؤسسية في الاعتقاد ، وجعل الآخرين يعتقدون ، أن مشاكل الأعضاء قابلة للحل في إطار الدولة الوطنية. ومن جانب آخر فإن غالبية جيل القادة هذا (ومرافقيه من الخبراء) تكونت بإيديولوجية الشراكة الاجتماعية والحرب الباردة، أي أنها عاجزةعن فهم ما يحصل .
تعيش(CISL) اليوم مفارقة:فقد انضمت إليها ، بعد انهيار الكتلة السوفيتية ، معظم الاتحادات النقابية غير المنحازة وأغلبية كبيرة من النقابات التي تأسست على أنقاض نقابات الدولة الشيوعية. وهي بما لا يقاس المنظمة العالمية الأكثر تمثيلية اذ تضم 206 منظمة منضوية تمثل 125 مليون عضو. وبالمقابل فان الفراغ على المستوى السياسي قاتل. فمعاداة الشيوعية التي كانت إيديولوجيتها (دون أن تقدم أبدا مشروعا بديلا غير الرأسمالية المُرَتبة) لم تعد تجدي.
ان CISL ، دون إيديولوجيا، ودون سياسة ودون برنامج، وبلا قوة على التجدد ، تسير على غير هدى. يجب أن تتمكن من تذكر أنها منظمة الطبقة العاملة العالمية ، وأن ذلك يستتبع مسؤولية النضال من أجل مشروع مجتمعي. لحد الساعة لا وجود لأي علامة تسمح بالاعتقاد أنها سائرة في هذا الاتجاه.
وبما أنه لابد ، مع ذلك ، من التظاهر بالحركة، فان (CISL) تتقدم في ميادين يصعب أن تثير خلافا (مثل الدفاع عن الحقوق النقابية والديموقراطية، أو مسألة المساواة) لكنها تبقى جامدة على المستوى الاقتصادي والسياسي (جوهر أنشطتها السعي الى إقناع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية بتطبيق الكينزية على المستوى الاقتصادي والحرفوية corporatismeعلى المستوى الاجتماعي).
وتعاني(CES)(كونفدرالية النقابات الأوربية) نفس المشكل فيما يخص تركيب قيادتها، رغم أنها، بخلاف(CISL) تضم المنظمات القطاعية ، أي فدراليات الصناعة. ومع ذلك يبقى دور هذه الأخيرة الفعلي ضئيلا قياسا على الكونفدراليات بفعل المركزية الشديدة لـCES. ويشوبها نقص آخر يمثل قوتها وضعفها في آن واحد: تبعيتها للجنة الاتحاد الأوروبي التي تمدها بوسائل عملها وبشرعيتها، لكنها في نفس الوقت ترسم لها حدودها. وتجعلها ثوابت عملها جماعةَ ضغط تشريعية في إطار الاتحاد الأوروبي و "الحوار الاجتماعي" مع منظمات أرباب العمل الأوروبية ،ميدان أمكن فيه عقد اتفاقيات-إطار عامة ( [2]).
لا شك أن السكرتاريات المهنية الدولية SPI هي حاليا أكثر المنظمات النقابية الدولية فعالية. لكن أعضائها هم أيضا فدراليات أو اتحادات وطنية ،ورغم ان غالبيتها تواجه مباشرة الشركات متعددة الجنسية وتتعرض في ممارستها اليومية لعواقب العولمة ،فإنها غالبا ما تظل حبيسة الترسيمات الوطنية .
ويمثل ضعف بنية التنسيق المركزية للسكرتاريات المهنية الدولية (15 الى 50 شخص في المقر المركزي )، بارتباط مع الحدود المالية ( القسم الأعظم من دخلها عبارة على اشتراكات ) ،عقبة أخرى نجح البعض في تخطيها باللامركزية أو بالاندماج. ومع ذلك كانت السكرتاريات المهنية الدولية زهاء 20 سنة هي من قام بأنشطة التضامن الدولي الأكثر فعالية، وأبرم الاتفاقيات الأكثر تقدما مع الشركات متعددة الجنسية .

استراتيجية التحالف

يجب أولا خلق الظروف التي تتيح لأوسع جماهير العمال في العالم التنظيم في النقابات: لا تتعدى النسبة العالمية للمنظمين نقابيا 13% (163 مليون منظم من 1300 مليون عامل أجير-وإذا أضفنا عمال القطاع غير المهيكل، ستسقط النسبة إلى النصف). يستوجب هذا استراتيجية نضال لا هوادة فيها من أجل الحقوق الديموقراطية على الصعيد العالمي. ويمثل التحالف مع منظمات الدفاع عن حقوق الفرد الأكثر صدقية (HUMAN RIGHTS ومنظمة العفو الدولية والرابطة الدولية لحقوق الإنسان) عنصرا لا غنى لاستراتيجية كهذه عنه.
كما يستوجب مجهودا منهجيا ومستمرا لتنظيم عمال الشركات متعددة الجنسية، كما بدأت تفعل بعض السكرتاريات المهنية الدولية SPI . رغم أن الثلاثة وسبعين مليون عامل المشتغلين مباشرة لدى ش.م.ج لا يمثلون سوى أقلية(رغم أن الرقم يمكن مضاعفته أو تثليثه حسب مختلف التقديرات إن أضيف إليه العاملون في المنشآت من باطنsous-traitance) فإنها القسم ذي الطابع الدولي اكثر من غيره والتي لها استراتيجيا افضل موقع في الاقتصاد العالمي للتأثير على ميزان القوى. و في إطار هذا المجهود يتعين تدويل مجالس المنشآت الأوروبية ، سواء بضم نقابات نفس الشركة متعددة الجنسية في القارات الأخرى إليها ، أو دمجها في شبكة تنسيقات نقابية جهوية على مستوى نفس الشركة متعددة الجنسية.
يتوجب على الحركة النقابية العالمية أن تحدد لنفسها أولويات سياسية جديدة سواء تعلق الأمر بالنضال ضد الديكتاتوريات أو بتنظيم عمال الشركات متعددة الجنسية. وعلى سبيل المثال تم إلغاء حق الإضراب التضامني في جل الدول المصنعة في الثلاثين سنة الأخيرة بقوانين ذات طابع تقليصي متزايد.و كانت مقاومة المنظمات النقابية ضعيفة لدرجة مذهلة ، مكتفية بصفة عامة باستنكارات شكلية. والحال ان الأمر يتعلق هنا بتعدٍ أساسي على حق الإضراب ، وهو تعد خطير بوجه خاص في سياق العولمة، حيث مصالح عمال مختلف الدول متداخلة اكثر فأكثر ومترابطة شأنها شأن عملية الإنتاج نفسها. بعد قبول مبدأ الحق في الإضراب بأي حق تقرر أغلبيات برلمانية ظرفية ( يسارية او يمينية على حد سواء) بشأن المناسبة المسموح فيها للعمال باستعماله للدفاع عن مصالحهم ؟
يمثل النجاح في تجريم الإضراب التضامني في معظم بلدان أوربا الغربية وأمريكا الشمالية نصرا كبير لحملات الدعاية اليمينية ضد "النقابات كلية القوة" ، وإن كان ثمة حاجة الى نضال عالمي فهو النضال من أجل استعادة هذا الحق الأساسي.

تأنيث لا بد منه

كما أن استراتيجية تنظيمية عالمية تستدعي أيضا تأنيث الحركة النقابية. فالعاملات هن أغلبية كبرى من اليد العاملة في القطاعات الضعيفة تنظيميا: في مناطق التصدير الحر، وفي القطاع غير المهيكل الحضري والقروي، وبين العمال المهاجرين في بعض المناطق والمهن (الخليج العربي-الفارسي، وخادمات المنازل، الخدمات والملابس) والعمل في البيت (6.9 مليون عامل بأوروبا وحدها). ويترافق تهشيش precarisationالعمل في البلدان الصناعية مع تأنيثه. وقد قفزت نسبة اليد العاملة النسوية من زهاء 33% سنة 1960 إلى 42% سنة 1993، وتناهز الآن في الدول الأكثر تصنيعا 60%، بينما تمثل النساء مابين66 الى90 % من العاملين وقتا جزئيا .
يمثل هذا ملايين العمال الذين يستحيل تنظيمهم دون تغيير جذري للأولويات، ومناهج التنظيم وطاقم تسيير الحركة النقابية. يتعلق الأمر في نفس الوقت بدمج أفضل لمطالب النساء الخاصة في الأهداف النقابية، وجعل اشتغال المنظمات أكثر ملائمة لظروف حياة النساء وعملهن، وتشجيع تكون أطر نسائية.ويتصل هذا أيضا بمسألة الديموقراطية النقابية بالنظر الى استحالة تحقيق أي من الأمور المذكورة دون توسيع نطاق مبادرة النساء المنظمات نقابيا، ودون قبول إمكان ( وحتى ضرورة ) أن يؤدي ذلك إحداث تغييرات في قمة القيادات النقابية.
تسير الأمور في اتجاه خلق اتحادات نقابية كبيرة متعددة المهن، وقد تؤدي هذه الإندماجات في بعض البلدان إلى انقلابات جذرية في الحركة برمتها. ففي هولندا نجد الفدرالية الجديدة Bondgenoten الناتجة عن اندماج أربع فيدراليات تمثل لوحدها نصف أعضاء الاتحاد الوطني FNV .وهدف Bondgenoten المعلن هو تحويل FNV الى فدرالية وحيدة في أفق سنة 2006. ويمكن حدوث تطور شبيه في الدانمارك. وعندما تفقد الفروع والقطاعات أهميتها بسبب رفض أرباب العمل التفاوض في هذا المستوى و تتحول الشركات نفسها بفعل اللامركزة والمقاولة من باطن ، يمكن لتكوين بنيات متعددة المهن ان يكون جوابا على فقد السلطة في المستوى القطاعي. وبالتالي فان موازين القوى بين النقابات من جهة وأرباب العمل والدولة من جهة أخرى ستتأسس أكثر فأكثر في الميدان السياسي ، وبذلك يتأكد حلم النقابيين الثوريين الأمريكيين في IWW بداية القرن "اتحاد كبير واحد ".
وفي هذا السياق ، تعود مسألة الديموقراطية النقابية بقوة: ما العمل لمنع تحول المنظمات الكبيرة الى غول بيروقراطي يبتعد تدريجيا عن القاعدة ليصبح في آخر المطاف عديم الجدوى ؟
لا يقتضي إنشاء حركة نقابية عالمية جديرة بهذا الاسم توحيد المنظمات القائمة وحسب ، بل أقصى مركزة للموارد والقدرات، مع لا مركزة مواضع تبلور سياسة المنظمة. لم يعد الأمر يتعلق فقط بـ "التعاون المتجاوز للحدود" بل ببناء منظمات مندمجة لا تعير أي اهتمام للحدود. فعلى سبيل المثال يتعين على الفدراليات الأوروبية للصناعة أن تتطور نحو اتحادات واحدة ذات سلطة وقدرة لإبرام اتفاقيات جماعية أو إعلان إضرابات على المستوى الأوروبي. وتحتاج السكرتاريات المهنية الدولية SPI على المستوى العالمي لنفس مركزة العمل، ولامركزة رسم أسسه السياسة .

ضرورة إعادة التسييس

ليست مسألة خلق ثقافة تنظيمية تتيح للأعضاء تملك نقابتهم وإحساسهم بكونهم مواطنين لا رعايا مجرد مشكل بنيات.انه يستوجب سياسة تمد جذورها في أصول الحركة النقابية وتتخذ القدرة على الكفاح معيارا لقيمة المنظمة النقابية. لقد كان تجريد الحركة النقابية من طابعها السياسي خلال حقبة 1950-1980 شؤما عليها: إذ أدى إلى نقص استعداد الأطر وسلبية الأعضاء. لذا يتوجب إعادة تسييس الحركة النقابية.
لكن لا يمكن أن تعني إعادة التسييس في المرحلة الراهنة العودة إلى ولاءات ولا حتى تبعية لأحزاب سياسية ولا الى تحكم حزب سياسي في النقابات. لقد ابتعدت الأحزاب عن النقابات، ولم يعد للعلاقات الموروثة من الماضي أي فعل سواء في شكل أداة تحريك (في هذا الاتجاه أو ذاك) ، أو زبائن انتخابات أو اتفاقات من طراز حرفوي في القمة . لكن هذا لا يعني استغناء الحركة النقابية عن بعد سياسي بل العكس: فأي عمل نقابي هو سياسي بطبعه. يتعلق الأمر إذن بإعادة ابتكار سياسة الحركة النقابية بالانطلاق من الدفاع عن مصالح أعضائها بدءاً من المنشأة .

برنامج نضالي مبني على قيم

يمكن القول إن المقصود إعادةُ ابتكار الاشتراكية الديموقراطية انطلاقا من الحركة النقابية، كحامل لبديل عن المشروع النيوليبرالي الشامل، لا القيام في أحسن الأحوال بدور إسعاف لضحاياه. فلنبدأ بتحديد الأهداف المشروعة لأي منظمة اجتماعية، في المستوى المحلي أو العالمي ؛ بالتأكيد إذن على أن لا شرعية لأي منشأة أو نظام اقتصادي إلا بمقدار ما يستهدفان الرفاهية الإنسانية بأوسع معانيها: إشباع الحاجات الأساسية، التي يجب أن تشمل العدالة والمساواة والحرية –الفردية وليس حرية الشعوب وحدها- ، والثقافة ، ودولة الحق. يجب أن تصبح هذه القيم والمبادئ الأساسية، المناقضة كليا لقيم النيوليبرالية المسيطرة ، برنامج كفاح الحركة النقابية الذي يتعين الدفاع عنه على كل المستويات وفي جميع الميادين بالتزود بما يلزم من وسائل.
كان لازدهار" الحركة النقابية الجديدة" مضاعفات مثيرة على معدل التنظيم وعلى موازين القوى الاجتماعية في البلدان التي شهدته : كوريا (KCTU [الكونفدرالية الكورية العمالية الموحدة]) والبرازيل CUT [اتحاد العمال الواحد] وMST (حركة العمال عديمي الأرض)، وجنوب إفريقيا ( كونفدرالية النقابات بجنوب أفريقيا Cosatu). ويتعلق الأمر في الحالات الثلاث بمنظمات نقابية اضطلعت بمشاكل مجمل المجتمع التي ينتمي إليها أعضاؤها، في ارتباط قوي لاسيما مع جماعات السكان المحلية ومع مشاريع إصلاح سياسية.
ليست الحركة النقابية العالمية وحدها التي تستدعي تقويما بغية التزود بمنظمات نضالية فعالة على المستوى العالمي.بل المطلوب توحيد نضال الحركة الاجتماعية ، بأوسع معانيها ، وتنظيمها لتشكل قوة موازنة ذات صدقية. والمقصود منظمات المجتمع المدني بكل تعقيده: حركة الدفاع عن الحقوق الإنسانية ومنظمات التضامن وحركات النساء ، وحركات الدفاع عن البيئة، والأقليات، والقطاع غير المهيكل وكذا الأحزاب السياسية القريبة منا، بقدر ما تبقى قريبة وتواصل مرافقتنا .

الفاكس والكومبيوتر

تلتقي مصالح كل هذه الحركات الاجتماعية ولها معركة مشتركة رهانها هو نفس رهان الحركة النقابية: في أي عالم سنعيش غدا بعد عشر سنوات و عشرين سنة. يجب أن يكون هدف الحركة النقابية هو إعادة بناء الحركة الاجتماعية على المستوى العالمي بالنضال بالوسائل التي توفرها العولمة وسندها التكنولوجي . و ستصبح حركة اجتماعية عالمية من هذا القبيل حركة جديدة لتحرر الإنسانية سلاحها الأساسي الفاكس والكومبيوتر.
وحدها الحركة النقابية قادرة على القيام بهذا الدور. ونحن نعرف نقاط ضعفها على المستوى العالمي. ومع ذلك فإنها الحركة الوحيدة الكونية والمنظمة على نحو ديمقراطي وذات قدرة مقاومة لافتة للنظر: لم تصمد أي حركة او مؤسسة ،باستثناء الكنائس، أمام حربين عالميتين و نظامين شموليين لم يشهد التاريخ الحديث نظيرا لقدرتهما على التدمير الاجتماعي. و ما هذا بمعجزة: فهي وحدها تمنح سلطة، بواسطة التنظيم، لملايين العمال الذين يخوضون يوميا آلاف النضالات، صغيرة وكبيرة ، في العالم برمته .ولا خيار لهم غير المقاومة أو الاستسلام، وهم بوجه عام لا يستسلمون وحتى ان فعلوا فليس لأمد طويل ، لأن النضال النقابي هو في المقام الأول نضال لاجل الكرامة الإنسانية ، أي نضال تستحيل فيها أي مساومة حول الجوهر. انه نضال من أجل شيء أغلى من الحياة نفسها لأن
الناس يموتون دفاعا عنه .
مصدر : كتاب "ضد ديكتاتورية الاسواق " من منشورات أطاك - 1999

-------------------
[1] تركيب لكلمتي الديمقراطية والديكتاتورية (م)

[2] كان اكثر الأحداث دلالة من زاوية نظر نقابية هو المصادقة سنة 1994 على توجيه حول مجالس المنشآت الأوربية .و له رغم بعده الكبير عن المشروع الأصلي( توجيهVredeling الذي اسند دورا رسميا للنقابات على نحو أشبه بالتسيير المشترك في ألمانيا ) فضل التنصيص على إجبارية عقد اجتماعات سنوية على الأقل لعمال كافة فروع الشركات متعددة الجنسية بأوربا .

الاثنين 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2007 بقلم دان غالين

عن موقع «كفاح نقابي»
www.kifah-nakabi.org/spip.php?article12








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسؤول إسرائيلي: حماس -تعرقل- التوصل لاتفاق تهدئة في غزة


.. كيف يمكن تفسير إمكانية تخلي الدوحة عن قيادات حركة حماس في ال




.. حماس: الاحتلال يعرقل التوصل إلى اتفاق بإصراره على استمرار ال


.. النيجر تقترب عسكريا من روسيا وتطلب من القوات الأمريكية مغادر




.. الجزيرة ترصد آثار الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال لمسجد نوح في