الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب القاص زكي العيلة

مازن حمدونه

2008 / 4 / 30
الادب والفن


في ربوع الأدب السياسي

عزيزي أديبنا الحبيب زكي العيلة ، وصلني خبر مرضك متأخراً ، فاني ابتهل إلى الله وأتضرع له ، لان ينقذك من آلام المرض ، وتعود إلينا شامخا كجبال نابلس، والخليل تثرينا بإنتاجك الأدبي ، وتثرى مكتبتنا العربية ، وتثلج صدورنا ، وتهدهد آلامنا ..
أقلب صفحات الأدب ، تلمع الكلمات .. وفي كل مرة أجد صورة تجسد آلامنا وأحلامنا .. أرى فيها لوحات لا تنضب من مشاهد لامست بعض منها طفولتنا المبكرة .
كثر كل أولئك الذين يقرؤون السطور وتغيب عنهم الصورة ، ولكن كل قصص الأجداد والآباء متزاحمة بمشاهد لو رسمتها ريشة فنان ما غطت كل المشاهد ولنفذت كل علب الألوان .. فكل قصة تحمل في ثنايا السطور والعبارات والكلمات لوحات ولوحات .. ما بين الحنين .. والأنين .. والفراق .. والجوع .. والموت والحياة تنفجر السطور التي تليها بحلقة جديدة موصولة من أدب المقاومة ، والشعر الغاضب والثائر من أعماق أدبائنا كالبركان ..
العطش ...
ما بعد النكبة .. وفي عصر الجليد العربي ...
امتدت قصة تلك السيدة التي سميتها "أم إبراهيم" ..حين تصلبت نظراتها صوب الجدار ، الذي يردت صورة الزوج عليها ، وأحاطت من حولها خيوط العنكبوت ، تحميها من عثاث البيت وتطفل بعض الحشرات . ذاك الزوج إلي غادر وطال من بعده الانتظار .. هو قرر ان يعود إلى مسقط رأسه ولأن يشرب من بئر بلدته ، فقطع الأسلاك الشائكة التي مددتها سواعد الغرباء على بطون سوافي سهولنا الرملية .وكانوا للتو يمرون عبر الديار .. أرادوا ان يقولوا لنا أنهم باتوا مالكي الديار ، ونحن أصبحنا مجرد كومه من أرقام ، ستحصيها وكالة الأمم المتحدة كسالف عهد عصبة الأمم التي كرست الاستعمار .
هو فارس "أبو إبراهيم" .. قرر ان ينتقم من وحشة الصمت ، ان يثأر للدار ، تمرد على هاجس الجبن فقرر الموت على فراش الوطن الذي ما برح ان تركه للتو فقرر العودة من حيث وصلت خطاه .
طمأن الزوجة بعد ان غاصت يداه في عمق صرة قماش تحملها الزوجة من على رأسها وقال :"سأحضر الماء وسأعود " !! ما شدته الزوجة وقالت .. سيقتلونك .. سيغتالون شبابك بقذيفة "موتور" ، أو دانة ، ولن يتركوك تتخطى خط السياج .. ولكن هل حقا كان يريد ان يحضر كوزا من الماء ؟!
تلاشى .. توارى عن الانتظار .. تنهدت الزوجة بعد ان بح صوتها ، وتلاشت العبارات خلف ظله .. وانتهت ملامحه كالسراب ..وغاب عنها وبقيت أم على حالها تنظر إلى صاحب الصورة سنوات تلو السنوات .. وهو مازال لم يعود ولم يرجع .. قرر الثائر ككل ثوار أهل النكبة ، لأن يرتشفوا ويروا ظمأهم من بئر قراهم ، فلن تثنى الثائرين كل مياه الآبار والأمطار دون بئر قريتهم .
غاب فارس الغضب وغابت طلته ، ولم تعد ترى الزوجة منه سوى أطلال رائحة ثوبه .. وصورته التي على الجدار ..هو كغيره كثر من طوت رمال السوافي محياهم ، وبقت صورهم على الجدار ..
هذه الزوجة التي تنهدت على التاريخ .. وسطر العطش حلقها .. وتربع في جوفها ، ولم يبقى لها إلا ان تقلب صور الماضي القريب .. ما تبقى لها للتو سوى طفلها إبراهيم الذي تربت على ظهره وهو ممدا على حظيرة حجرها ، وتراقب في مطلع كل فجر عوده .. وفي عتمة الليالي ووحشتها لا يشق عليها سوى سراج من صفيح يلهث ضوءه في وجه الرياح كأفعى يتلوى .
كان صوت أم إبراهيم قد غلبه النعاس والسهاد ، تربت على ظهره وتغنى له أغنية غنتها كل الأمهات والجدات والعمات ..كقصيدة شعرية من التراث ترددها كل الأجيال "نام يما واذبح لك جوز الحمام" . يرددنها بعذوبة صوت ممزوج بأمل وخنان ، يدغدغن مشاعر الأطفال بكلماتهم العذبة التي مزجها رمق من حنان ..
عجبا .. لو كل نساء فلسطين ذبحن أزواج الحمام لأطفالهن في كل ليلة .. لوجدت السماء قد خلت من الحمام وما بقى إلا ما لم يذبحنه !!
دخل إبراهيم المدرسة ، وراقبته أمه في الذهاب والإياب ، فكانت كمن تودع أسدا في الصباح ، وتستقبل فارسا في المساء.. راقبت في صلابته جمل المحامل الذي لا ينحني .. فحدثتها نفسها انه هو من سيخفف شقاء وحشتها بعد غياب الزوج الذي طالت غربته ..
خرجت ذات يومٍ وحزمت في سريرتها امرا لا تريد ان تكاشف طفلها به حتى لا تخدش كبرياءه ، فقررت ان تكد وتعمل في غيابه في المدرسة ، فرافقت جارتها " أم منير " ، ممن جمع بينهما شقاء الحال وضيق حال اليد .قررت هذه المرة ان تعمل في حمل سلال البرتقال المعطر بعد جمعه في بيارة قريبة من على المسكن . يشد من عزمها في أمرها ضيق حالها ، وترى كثر من نساء يمسهن السوء واهانات .. واهانات ... في نهاية يوم دام الشقاء .. وقفت في طابور ينتظرن .. بركات صاحب المال ، فحضر رجلاً مكتنز الوجه غابت ملامحه من شدة الطبقات ، وحين اقتربت منه بعد وصل من دورها ، جاء دور المواجهة بين الفقير والسيد صاحب الثروة والمال، أخذ يتفحص وجهها .. قلبه وبوقاحة وبتمختر وبين فجاجة وتزلف ، تطفلت عنده الشهوات فغابت قيم الحياء ، وتبرج ، نظر إليها بطرف العين يختلس النظر .. يقلب طولها وعرضها علها تستجيب له ، رواها بكلمات تبجيل جمالها .. فارتعشت ..انتفضت ، كادت ان ترشقه في وجهه "ببصاق الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها " ، كل أصحاب الشهوات بالمال متيمون ، لا يضروهم انتهاك المحرمات والمقدسات ، لا تفصلهم حدود وهوامش ، فكل شيء لديهم مستباح ، هم يبكتون ضمائرهم وأخلاقهم .. وينسون دوما ان تلك النسوة أرامل الشهداء الذين بالأمس وقفوا في وجه الطغاة ببنادقهم على أطراف بياراتهم يحمون ما تبقى من أشجار البرتقال والليمون . أخذت أجرة شقاء يومها وغادرت .. وقررت ان لا تعود إلى مكان تلطخه نظرات وكلمات من لا يستحق حضرة الشرف من أصحاب النزوة كالذئاب . قررت ان تعود إلى سنارتها تغزل حلة لجارة هنا وجارة هناك .
وقفت عند بائع النمورة " .. قدمت له بعض القروش .. لف لها بعض منها .. داهم خيالها ضحكات وفرحة ابنها إبراهيم العائد من مدرسته .. وزار خيالها ذاك الرجل الذي غابت غربته بشاربه الكبير ، وبقامته المنصوبة والذي لو شاهده ذاك السفيه لاحتارت وارتعشت فرائضه ، وقفز في علبة الصفيح في مجمع النفايات .!!
ٍلامت الزوج الذي تركها في هذه المعمورة معلقة كأرجوحة لا تتوقف عن الحراك . وفي نفس اللحظة راودها السؤال : ترى هل أبو إبراهيم شرب من ماء البئر الذي عاد من أجله؟
شب الطفل الرضيع وشابت أم إبراهيم ، ربت على ظهر امه وهو في حضنها ، هدهد من روعها ، وقال : لها سأسافر إلى "الكويت " وسأعود في اجازة الصيف القادم ..
سافر إبراهيم وطالت غربته ، ومضى الصيف وأصبح الصيف بعشرة .. وأصبحت أم إبراهيم رهينة الدهر في الانتظار ، لم تعتاد من ابنها كثر الوعود التي يقطعها على نفسه ، ولم تعتاد منه عدم الوفاء لها في وعوده ..
تراكم المرار في حلقها .. تراكمت أكوام المعاناة على صدرها ، نحلت قامتها ، هدها الإعياء وطول الانتظار ..
سمعت ان موظفا من أهل الحي قد عاد من سفر .. طارت إليه سألته عن حال ولدها .. ولكن تبين انه في قطر أخر شقيق .. وجدت في جارها الحاج "إسماعيل " من يختزل عناءها ، طلبت منه ان يستصدر لابنها إبراهيم تصريح زيارة من مجمع الإدارة المدنية ، ومنذ ان غاب الحاج إسماعيل وهي تحوم في فناء منزلها في ساحة الحوش ، تحدثها نفسها عن إبراهيم وستزغرد له ستجلجل الكون يزغاريدها بعودته وفي يوم عرسه الذي انتظرته طويلا ..لا تتذكر أخر مرة زغردت فيها وغنت وقالت : لا يهم سأعود أغنى وأزغرد من جديد لمن تربع وتجلى على عرش أحشائها .. وفي لحظات حين هامت بنات أفكارها وهيام وجدها.. تجسد في زاوية المشهد "أبو إبراهيم" ، بقمبازه المخطط وبطلته البهية الصلبة ، فإذ به يجلس القرفصاء وبجواره صبية جميلة وفي يدها كوز من الماء يلمع !!!
رفعت بكفها صوب صدرها .. بينما مازالت كلمات الزوج في أذنيها تتردد همت لتسأله عن ماء البئر قطعت سؤالها طرقات الباب فطيرت السؤال الذي كان يراودها وتبدد ..
كان الحاج إسماعيل يقف من خلف الباب .. فتحت الباب مسرعة .. عجز هو عن الكلام .. ناولها بطاقة مطوية وقد غطى صدر صفحتها ختم مستطيل احمر .. رفضوا تصريح الزيارة هذا الصيف يا أم إبراهيم ، ولم تكتمل فرحة أم إبراهيم بعرس من غاب عنها ، واحتبست زغاريدها في صدرها .. وتجمدت في المكان .. شعرت بالدوار .. عادت من جديد تطل عليها الأفكار فشاهدت صورة صبية تقبع بجوار البئر وفي يدها كوز فارغ من الماء ... ترى هل سيأتي الصيف القادم ويمتلئ كوز الماء ؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: آراء متباينة حول فيلم كوبولا الجديد وم


.. أون سيت - من نجوم شهر مايو الزعيم عادل إمام.. ومن أبرز أفلام




.. عمر عبدالحليم: نجاح «السرب» فاق توقعاتي ورأيت الجمهور يبكي ف


.. عمر عبدالحليم: كتبت لفيلم «السرب» 23 نسخة




.. أون سيت - 7 مليون جنيه إيرادات فيلم السرب في أول 3 أيام فقط