الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تنفسوا قبل أن يصبح الهواء مَكرُمة

هوازن خداج
صحفية وباحثة

(Hawazen Khadaj)

2008 / 4 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


مضى زمن طويل ابتلع فيه لأسباب عديدة مواطن ما في بلدنا صوته رغم انه غص فيه إلا انه شعر بالرضا بعد أن صارت الأمور سيان حسب رأيه الهام على الأكثر بالنسبة له.. فهو منذ ولد في هذا البلد لم ينتبه احد، حتى الأقرباء المحيطين، لرأيه الذي غاب بعد أن أصيب بمرض أو بنعمة القناعة التي لم تزل عنه قلقه الليلي.. لكنها تماما كما قيل عنها كنز لا يفنى. لقد اقتنع بأن الموت واحد إن كان من مشيئة الله أم مشيئة البشر والفرق بسيط بينهما.
الموت إن أراده الله لشخص وافاه فيه دفعة واحدة وإن طالت المدة لن تكون سوى أعوام معدودة، أما إن أراده البشر فإنهم يستلذون بأن يقدموه بالتقسيط، وهذا ما حل بهذا المواطن "الما" فهو يشعر انه يموت منذ ولادته وكل يوم يبقى فيه خارج القبر هو فرصة إبداع لهم بقتله الذي يبدؤونه بسحب أساسيات العيش واحدةً واحدة، وأحيانا دون أن يدري يقدمها هو لأنه تمرن على طريقة التنازل عن أساسيات الحياة فهو بغنى عن وجع الرأس و... ،ولأنه جرب الموت أو وقف على حدوده آلاف المرات، ورغم أن قلقه الليلي لم يفارقه، مات تقريبا هذا المواطن "الما"، فهو سيفنى قريبا دون أن يشعر بنعمة الموت لأن هذا الموت سيأتي تتمة عادية لحياة عادية لمواطن عادي ما.. يحاول السير على قدميه دون أن ينظر لا للخلف ولا للأمام، لم تعد تستفزه الكلمات الطنانة والجمل الرنانة لم تعد تعنيه ردود الأفعال أو الأفعال، حتى انه لا يريد أن يعرف هل هناك حرب قادمة أم لا كله سيان.. لم يعد يتذمر أو يبادر بقول رأي أو ما شابه... لم يفعل ذلك منذ سنين طويلة..
لهذا عندما بدأ الدعم لألف ليتر من المازوت سيأخذه من يعيش في طرطوس ومن يعيش في السويداء.. لم يستفز.. لكنه شعر كمجرد تلميح عابر في حالة قلق عادية، إن هناك سوء توزيع مناطقي فالعالم لا يمكن أن يستهلكوا مازوت بنفس الكمية لأسباب جغرافية بحته.. وازداد قلقه لأنه لم يعرف بعد كيف سيتم التعامل معه فهو ممن يشترون المازوت بالكالون العشرين ليتر.. هل يستطيع شراء مازوته هكذا على البطاقة العائلية... أم هو ملزم بشراء الألف كاملة حتى يحسب حساباته ويضرب أخماسه بأسداسه ويقسمها على ثمانية أفواه تنتظر الخبز الذي من المحتمل أن يطاله الدعم فيصبح رغيف لكل شخص وابنه السمين يأكل ثلاث أرغفة إذا كان طعامهم يحتوي الرز وإذا كان من قريبه "نواشف" فإنه يأكل سبعة، وهذا ما يقتاتونه في هذه الأيام بعد غلاء الرز والخضار وكل ما يمكن أن يؤكل حتى لو كان من خيرات الأرض..
ثم هل يسمح ببيع المازوت المدعوم.. وهو تشجيع على الفساد الاجتماعي كأنه لا يكفي هذا البلد ما يلم به من فساد ... على كلٍ إن سمح فهو مشروع جيد بالنسبة له يستطيع بيع نصف الكمية لأنه لا يستهلكها، غدا سيجد، من لا يستطيع امتلاك دفتر عائلة أو من لا تكفيه كمية المازوت المدعومة، البطاقات على البسطات أو بالسوق السوداء ليشتريها.. ولكثرة الأسئلة التي لم يتمكن من معرفة أجوبتها صار مواطننا المذكور يتابع كل ما يقال حتى يستنير ويعرف ما له وما عليه.
زادت الأمور سوءا أثناء متابعته المحمومة ليعرف التفاصيل وتهالك عندما اطل احدهم في استقبال تلفزيوني نير ليقدم النصح ويخبر المنتظرين إنهم قاموا مشكورين بدارسة أدق التفاصيل ويطمئن البشرية جمعاء انه لا توجد أية أزمة على توزيع البطاقات، فهم حددوا أماكن توزيعها، وشرح للمشاهدين إن من توفي أهله يقدم دفتر العائلة.. يتأكدون.. ويعطونه ألف ليتر.. ثم أخبرهم إن الألف ليتر كافية تماما لكل المواطنين، وأكد بثقة كبيرة أن لا أحد يصرف أكثر من ألف ليتر مازوت في سوريا فهي ليس سيبريا.... دون أن يوضح لماذا!! هل سيلغون صلاة الاستسقاء وما شابهها؟!! أم سيتجاوزنا الشتاء وتصبح فصولنا صيف وبلادنا صحراء بعد أن تقطع الأشجار وتتحول إلى حطب ويباد كل ما يلهم المطر على الهطول !! وبدا واثقا فهو على الأغلب يعرف إن طقس هذا البلد يتصحر يوما بعد يوم وأغنية خضرا يا بلادي خضرا صارت موضة قديمة.
ثم تابع الضيف الواثق، مداخلة من مطلّقة وأخبرنا بناء على وضعها الذي سألت عنه، إن المطلّقة التي يعيش أولادها عندها لن تأخذ مازوت فهي بعيدة عن الدعم..لأنه لا يجوز أن يعيش الأولاد عند أمهم القانون يعطي الأولاد للأب.. وبعد الكثير والقليل من الجدل الذي لم يعط نتيجة مع مذيع هذا البرنامج الصبور، توصلت تلك المطلّقة إلى أنها غير مدعومة مازوتيا بسبب أولادها.. وإن المتزوجه من غير السوري حتى لو كانت تعيش في سوريا غير مدعومة، وفاض على المشاهدين بالحديث مؤكدا، إن من لا يمتلك بطاقة عائلية هو غير مدعوم مازوتيا.. وإن مواطننا عليه أن يبدأ بالضرب والطرح والقسمة لأنه لن يستطيع شراء مازوته بالعشرين ليتر فقط... وقال كذلك إن المواطن أي مواطن يستطيع بيع مازوته أو أن يهديه أو يفعل به ما يشاء لأن هذا الدعم المازوتي هو مَكرُمة..
لقد قبل مواطننا كل شيء في حالة من القناعة وصار كالحائط يتحمل كل شيء يفعل عليه أو به دون أي بادرة للتذمر.. لكن كلمة مَكرُمة أتت كالصاعقة شعر مواطننا "الما" بأن العرق البارد بدأ يسيل وقلبه يزيد من خفقانه شيء من أعراض الجلطة القلبية، لكنها للأسف لم تكن كذلك لقد كانت مجرد مقدمة للنباح هذا ما فعله مواطننا المذكور الميت تقريبا مط عنقه ومد لسانه مسح شفتيه الجافتين به ابتلع ريقه، ونبح... ثم نظر إلى أولاده الذين يحاصرونه وهم يبتسمون ابتسامة بلهاء... وقال عيشة كلاب.. خيرات بلدانا صارت علينا مكرمة... افتحوا النوافذ بسرعة تنفسوا قدر المستطاع قبل أن يصير هواءنا الملوث هو الآخر علينا مَكرُمة .
14/4/2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا