الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام القبض على الدكتاتور 12 عفريت الفتنة

حمزة الحسن

2004 / 1 / 5
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في التقليد السياسي  السائد في منطقتنا ـ صرنا نهرب من قول في عالمنا العربي لكي لا نتهم بالعنصرية الثقافية ! ـ لا تسمى الأشياء كما يجب أن تسمى بالأسماء الحقيقية، بل نلجأ إلى تقنية ساخرة صارت أشبه ما تكون ببضاعة خاصة بنا وحدنا في هذا العصر وهي تقنية "برقعة" الحوادث والوقائع وتغليفها بعناوين مغايرة لعناوينها الأصلية: فمثلا  يصبح الانهيار الاقتصادي  بعد البرقع( فشل خطة تنمية) حتى لو قاد إلى هلاك ملايين الناس، ويسمى إرعاب الناس وانتهاك حرياتهم وأعراضهم بمقتضيات "الأمن الوطني"، ويتحول بطح الناس في الشوارع ووضع الأحذية على الرؤوس أو الرؤوس فوق الأحذية إلى عمل من أجل "الاستقرار"، وتسمى السرقة المنظمة والعلنية والسرية برامج تنمية، حتى القتل المفضوح نسميه في منطقتنا " سهوا!" أو تقاطع نيران وقع مصادفة الخ وهلم جرا.

ويبدو أن حس الضحك عندنا وطابع النبوءة الغالب على كتابات ( كتائب الفكر!) من أجل دخول التاريخ، ونزعة الخلود الطاغية عند شريحة  من أهل القلم( لا من أهل الثقافة ونحن لا نفرق!) مع مخلفات عقل مشرقي يهرب ولا يواجه، وسيطرة ثقافة سياسية تتسم بالحجب والقمع  والإخفاء وتحاشى مواجهة المشكلات بقوة ووعي وحسم، كل هذه العوامل ومثيلاتها هي التي تتحكم في النظر السياسي اليوم هنا أو هناك.

حتى يمكن القول بطمأنينة مخيفة حقا أننا نتجه نحو مقدمات الحرب الأهلية إن لم نكن دخلناها أو على العتبة ومع ذلك نسمى كل هذه المطحنة المستعرة والتي سقط بسببها أكثر من عشرين ألف ضحية مدنية منذ نهاية الحرب حتى اليوم، كل هذا الاحتقان، كل هذه الاصطفافات، كل هذه" المشاكل المؤجلة" التي كنا ومازلنا نهرب ونتحاشى مواجهتها ونرجم حتى من يفكر فيها مجرد  تفكير، نسمي كل هذا الخراب المعتق والمكدس والعريق والمتراكم بأنه عفريت الفتنة أو مرحلة "عبور"، والطريف أن الدكتاتور كان قد استعمل هذا المفهوم الأخير بل صار عنوانا لحقبة الحصار!

 وكجزء من تقنية الهرب من الذات ومن مواجهة المشكلة ومن مواجهة الآخر والموقف برمته، نهرب حتى من مواجهة السؤال الذي لا شك أن الصغار سيطرحونه لو جاء في حكاية مسلية قبل النوم: لكن من أين جاء عفريت الفتنة؟!

وحسب تقنية الهرب من المشكلة أن هذا العفريت مصدره مقالة هنا أو خطاب هناك أو قصيدة لشاعر في هذا المكان أو بيان لذاك الكاتب أو الشيخ أو الفقيه. هكذا يجري الضحك على نفس لم تعد تستسيغ هذا الهراء المخجل خاصة ونحن نغرق بالدم.

ننسى الاحتقان وانسداد الآفاق والأزمة الاقتصادية والانهيار الاجتماعي والقوى الدولية ومشاريع لا مصلحة لنا فيها، وعناصر التفجير الداخلية، والفكر العنصري على كل الساحات، والأطماع الخاصة والأجنبية، والطموحات الإقليمية، وخراب سنوات الحريق والرماد، ومسؤوليتنا جميعا في ظهور عفريت الفتنة.

وهذا العفريت لا يأتي لوحده أبدا، بل يأتي بعد أن نمهد له الطريق بالهرب والخوف من مواجهة الذات والتاريخ وفتح سجلات السياسة ونخاف من طرح الأسئلة: لماذا مثلا يصبح زعيم حزب سياسي "مناضلا" في مؤسسة الحكم الجديدة ويده ناقعة بالدم من كل الأطراف التي دخل معها في صراع؟ ما هو معيار الوطنية بحيث يصبح هذا "مناضلا" ويصبح مثلا أيضا ملايين الناس الذين أجبروا على الموت والانتماء والسكوت والحرب والكلام تحت العري والتهديد بالقتل أو قطع الأرزاق أو حتى فوهات المسدسات يصبح هؤلاء من بقايا النظام الفاشي؟ ما هو معيار العدالة؟!

لا أريد الوقوف طويلا عند هذا المثال لأنه مطروح هنا كمثال على طريقة تفكير، أما الجانب الآخر فيه فله الوقت المناسب. كيف يمكن اختصار الناس في موقف أو صورة دون وضع الظروف كلها، تماشيا مع حس العدالة الفطري، ومع منطق القانون، بنظر الاعتبار؟

أتحدث هنا وفي الحلقات السابقة عن الدكتاتورية كنسق من القيم الوحشية بما في ذلك  غياب حس ومنطق القانون. إن الذي يجعل الإنسان جميلا ويميزه عن الوحش البشري أو الأسطوري والدولة صديقة  ليس الشكل بل وضوح حس العدالة كوردة تلمع في الليل عند حافة ثلج مضاء بنور قمري شفاف. وفي غياب هذا الحس لا يعود الإنسان، صاحب ثقافة الوصم، الكلبي النزعة، والشرس، سوى صورة منحلة باهتة ممزقة عن إنسان مهجور: فالشجاعة هي في حس العدالة، لا في قبضة رمح!

أجدني مضطرا لضرب هذا المثال الحزين: لعل من قرأ الحلقة الأولى من هذه المقالات يتذكر أنني تحدثت عن صاحب  الكلب الرمادي الذي اندفع نحوي في عاصفة ثلجية وكيف أن صاحبه كان يصيح بي( لا تخف. إنه لطيف وسيعانقك!) وهو من نقل لي خبر القبض على الدكتاتور؟!

إن صاحبه يسكن في الطابق الذي تحتي مباشرة وأنا في الطابق الثالث والأخير. في ليلة رأس السنة وجدوا ( تورا) وهو اسم صاحب الكلب ميتا  في سريره وهو لا يزال شابا!.

ومن المحتمل أن "تورا" مات قبل أيام تحتي دون أن يعلم به أحد نتيجة أزمة مرضية مباغتة أو مات قبل ساعات. وحين كنا ننتظر لحظات رأس السنة الأخيرة لكي نشارك في الفرح العام كان هو ميتا أو يحتضر وربما سمع أصوات المفرقعات النارية في الهواء وربما سمع موسيقى عربية من ساكن الطابق الثالث تودعه نحو مثواه الأخير دون أن يقف إلى جانبه سوى كلب رمادي سيظل مشهده مثيرا لحزني حتى آخر لحظة.

ولكن، والمثال عن حس العدالة ومنطق القانون، طرقت شرطية برتبة نقيب الباب بأدب جم( لم نكن نعرف شيئا) وطلبت أن توجه لنا سؤالا محددا وهو: متى رأيتم "تورا" آخر مرة؟ والحقيقة أنا رأيته آخر مرة في العاصفة حين قال لي عن خبر اعتقال الدكتاتور لأن أحدا هنا لا علاقة له بأحد ولو كان تحته أو فوقه ولو مات وحتى تخرج الرائحة:الكل وحيد  في منفى!

وحين سألتها هل هو بخير؟ لم ترد. كما لم تجب عن أي من الأسئلة حول ماذا حدث؟ ويبدو أنها أرادت  قول حقيقة الأمر بعد نهاية عيد رأس السنة لأنها وجدتنا في حالة حفل عائلي خاص  مع بعض الأصدقاء. ولم أعرف بالأمر إلا نهار البارحة: "تورا" وجد ميتا في سريره تحتك مباشرة!.

 شعرت بخوف حقيقي كما لو أن الموت خدعني تلك الساعات وعاش تحتي دون أن أعرف: يا للموت! .كم هو على هذه الدرجة من القرب ومن الصفاقة!

 ليس المجال هنا للحديث عن تداعيات الموضوع النفسية وكيف يدور نقاش في صحافة المنطقة والتلفاز المحلي هذه الأيام عن الموت العاجل لهذا الشاب الذي ظهر أنه يعاني من أزمة نفسية قاسية، وهل كان هناك تقصير في علاجه أم لا، بل سأشير بعجالة فقط إلى موقف العدالة من قضية موت عاجل ومربك وهو موقف يلخص قضية الحرية على نحو مشرق وتلقائي وعفوي في غاية الدهشة والجمال والرقي والنظافة والشجاعة أيضا. كل شيء تم في هدوء ( وبأناقة!) حقيقية حتى بدا الموت الكريه أمرا طبيعيا. ماذا كان سيحدث لو أن أمرا أقل من هذا وقع عندنا؟! ومقارنة بين هذا الحدث والطريقة التي عولج بها وبين ما يكتب من مقالات وردود على مواقف وآراء عندنا تبدو هذه المقالات وكأنها أوامر قبض مستعجلة على جرائم!

على خلفية من الأمان الأبله نصوغ مشاكلنا على نحو ساخر ونهرب من المشكلة قبل أن تصير "معضلة" ثم تصير "ورطة" وحتى تتحول إلى" مأزق" والمأزق متاهة لا حل لها ودائرة وحلقة مفرغة. فكيف يمكن كسر هذه الحلقة؟

إن عفريت "الفتنة" ينهض  على عوامل ملموسة قد تظهر في صور ملتبسة مرة لكنها من الوضوح بحيث تعشي البصر لشدتها: هذا ما يسميه علماء الاجتماع بالعمى الاجتماعي. أي العمى الناتج من سطوع الضوء أو تكرار الظاهرة أو شدة وضوح الصورة.

كمثال على ذلك: إن عادة غسل العار( الجنسي وليس السياسي!) لا ينظر إليها عندنا على أنها ظاهرة إجرامية لتكرارها حتى اكتسبت بحكم العرف قوة القانون. والأسباني وكذلك أبناء البحر الأبيض المتوسط لا ينظرون إلى الشمس كظاهرة نادرة مثل شمال أوربا لسطوعها وتكرار ظهورها.

لذلك صرنا نرى في اشد الظواهر خطورة على أنها ظاهرة طبيعية عادية لأن جهاز الرؤية عاطل والذات مصابة بعطب بنيوي خطير حتى لا يهزنا الموت اليومي( لأنه في صالح الشعب!) ولا يكون قصف الأحياء السكنية بالقنابل، لهذا السبب أو ذاك، سوى من اجل الجماهير والرخاء، ولا يكون تفكيك دولة برمتها وبيعها في سوق الخردة على أنه حدث استثنائي!

أبدا لن يهزنا شيء في العالم لأننا خرجنا من تاريخ الوعي ودخلنا تاريخ الإغماء: أي خارج التاريخ. حتى لو وصلت الحرب الأهلية على عتبات المنازل سوف لن تقطع نخب أهل القلم سياق الرتابة والهموم اليومية من أجل التفكير( ولو لمحة!) بمخاطر الغد الجدية والتفكير على نحو مغاير مرة واحدة.

من مفارقات الحالة العراقية وهي كثيرة أن نخب الثقافة أو التي تعرف نفسها وصورتها على هذا الأساس تحتج كل يوم على نخب السياسة بحجة أن السياسي يصادر الثقافي.. الخ.. الكلام المعروف ولكن إمعان النظر الدقيق في الصورة سيُظهر أن السياسي العراقي، رغم كل الصورة القاتمة، لا يزال يحتفظ ببقايا تقاليد سياسية وثقافية وشخصية وعائلية أفضل بكثير من نخب الثقافة مع حفظ الفارق طبعا لشريحة طيبة تستحق الحب والاحترام من أهل الثقافة تضيع صورتها في الضجة والزحام والتداخل والتشابه والغبار.

مثقف بهذا المعنى بلا تقاليد، ولا يعرف فكرة المراجعة، ويجهل ابسط قواعد التضامن بين الكتاب والمثقفين، ومعبأ أو محشو بفكرة مشوهة عن نفسه، وعن الآخر، ورقي وحساس ورقيق على ورقة وجلف في حياته الخاصة، ثوري على مائدة، حداثي  في غرفة دخان، متساهل مع الوسط القريب ـ أهل، اصدقاء، رفاق ـ ويغفر جرائمهم ويجد  مبررات لها، ومثالي ومتعصب ومتطرف في ملاحقة واصطياد( هفوات) الآخرين العادية وتحويلها إلى جرائم: وهذا العقل الاختزالي ـ وجه العقل الرغبوي ـ يرى في الجمال صور البشاعة، ويرى في البشاعة صورة الجمال: إنه يحبس الناس في خانات، في مواقف، في تواريخ، في كلام محدد، في زمن، في صورة، في لحظة، ويرجع لهم بناء على هذه الصورة( المحنطة) أو الموقف دون أن يسمح لهم في ممارسة حق بشري في أن يكونوا غير ما هم عليه في يوم، في سنة، في حقبة ، في ظرف: إنه عدوان بشع على الحرية.

 مثل عن أحد هؤلاء وهو صديق طفولة زرته في عاصمة اسكندنافية عاتبني مرة  على بقائي فترة طويلة في حرب الخليج الأولى مع أني هربت في أول فرصة منها، ولكنه يتحدث عن شقيقه "الفنان" باعتزاز وفخر لأنه صنع نصف تماثيل الدكتاتور في بغداد وحدها! 
 
هذه هي العقلية الاختزالية، الانتقائية، التي ترى ما تحب أو أن ترى، وترفض رؤية ما لا ترغب: فإذا كان عفريت الفتنة هو الذي يفعل اليوم ما يفعل من دمار ومخاوف في الطريق، فماذا سيحدث لو خرجت كل تلك العفاريت التي نهرب، كل يوم، من مناقشتها وتفكيكها؟ سؤال مازح غير جدي ليس إلا في زمن عراقي مليء بالمزاح السخيف!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا