الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة (و) العمال.. حركة المفاهيم والتحديات

وديع العبيدي

2008 / 5 / 2
ملف الاول من آيار 2008 - أفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة



العولمة (و) العمال
حركة المفاهيم والتحديات

"اننا جميعا.. بمعنى معين، ماركسيون الآن. " – جاك دريدا

أين هو مفهوم العامل اليوم، منه قبل قرن أو نصفه أو قرن ونصف؟. هل توجد حركة عمالية اليوم؟.. وما هي طبيعة وآفاق هذه الحركة؟..
اتساع مساحة القطاع الخاص في الاقتصادات الوطنية في الشرق والغرب، معناه اتساع رقعة قطاع العمال في العالم، مقابل انحسار واضح في قطاع البيرقراطيا الادارية. بيد ان القطاعات العمالية المتسعة تفتقد الوعي الطبقي أو الهاجس الثوري النضالي الساعي الى تحقيق مستوى أفضل في ظروف العمل ومعدلات الاجور. مقابل اتساع ظاهرة الاستغلال وسوء المعاملة، سيما في قطاعات الاعمال الخدمية غير التقنية والمنشآت الصغيرة. ان منظومة المفاهيم العامة في السياسة والاقتصاد والعمل والثقافة، شهدت تغيرا راديكاليا عنيفا، من اليسار بمستوياته المتعددة الى أقصى اليمين. ومع استفراد الامبريالية الأميركية بقياد العالم وفرض فلسفتها السياسية الخاصة، ممثلة بالعولمة عبر شبكات الاتصالات الالكترونية الدولية والشركات المعولمة (العابرة للقارات)، تحول الصراع من المستوى القومي والطبقي الى الغزو الاقتصادي والثقافي للدول والثقافات المحلية وتحدي موازين القوى الاقليمية. ان اللاعب الحاسم في برنامج العولمة هو رأس المال، الذي تتراجع أمامه كل العوامل الأخرى. اما موقع الانسان بين ذلك، فهو لا يتعدى الطابع الاعلامي للتراث الخلقي الغربي الممثل بميثاق حقوق الانسان وجانب من المواد المتعلقة بقوانين الضمان الصحي والرعاية الاجتماعية. بعبارة أخرى، ان استفراد الامبريالية العالمية عنى غلبة المفهوم الرأسمالي في الاقتصاد والعمل والثقافة، على حساب مفاهيم اليسار والاشتراكية.
لقد اتسعت قاعدة الطبقة العاملة في العقود الأخيرة، وبشكل غطى مختلف مجالات الحياة والاقتصاد، وذلك ضمن عمليات اختزال دور الدولة وتراجع مؤسسات القطاع العام لصالح نمو القطاع الخاص واشتداد دوره. بالمقابل، تراجع المضمون السياسي لبرامج الحركات العمالية، وبشكل قاد إلى دفعها إلى هامش حركة الاقتصاد والمجتمع. هذا التراجع حدث في وقت سابق، ومنقطع عن ظهور بوادر العولمة لاحقا.
*
العمال والنظام الاشتراكي
ان قوام أي حركة اجتماعية هو الكفاح من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، محور فلسفة الصراع الطبقي في تصورها الماركسي لجدلية التاريخ. بيد ان اقتران نضالات الحركات العمالية بعمل حركات التحرر والاستقلال الوطني في كفاحها ضد الاستعمار والرجعية، جرّدها من قوة الدفع الذاتي والتعبير عن هويتها النقابية. المضاهاة زادت من مستوى التداخل بين الحركتين، الصراع السياسي والصراع الطبقي، فالتأما تحت خيمة الاستقلال السياسي وبرامج استكمال مهمات بناء الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكما شكل تبني قيصر روما (Konstantin) للمسيحية في القرن الثالث الميلادي، مفتتح الصراعات التي أسفرت عن انحطاط الكنيسة في القرون الوسطى، كان لتبني الدولة للحركة العمالية أثر سلبي على هويتها النقابية، واختزال دور الحركة العمالية في إطار العمل الوطني في شقيه السياسي والاقتصادي. وكان ذلك بداية تذويب البرامج والمصالح العمالية الطبقية في نسيج الحركة الاجتماعية والسياسية التي استأثر بها نظام الحزب الواحد أو الائتلاف الحاكم.
ان الامراض التي أصابت الحركة العمالية في إطار النظام الاشتراكي أو المختلط لحقت الحركات النقابية عامة ومنها..
- افتقاد التمييز بين الهوية السياسية للحركة والخطاب السياسي للدولة.
- التفريط بالحقوق النقابية على مائدة ما يدعى بالتنازلات الوطنية.
- التحول من الهوية النقابية إلى الصراع حول المراكز البيرقراطية.

ان الانسجام والتعاون بين الحركة النقابية والحركة الوطنية مسألة ستراتيجية، ولكن دون مسخ احداهما واختزالها في الثانية كما حصل في الغالب. لقد تحول بعض قادة العمال إلى قادة سياسيين في الحركة الوطنية والاحزاب المتنفذة. نقابيون صاروا وزراء دولة ورؤساء دول ، ولكن ذلك كان مفترق الطريق، وبداية منعطف (النهاية). ان الحركة النقابية تختلف في برامجها عن الأحزاب السياسية، كما تختلف أدواتها النقابية وأهدافها عن ألفباء التكتيك الحزبي الطامح إلى السلطة. المفارقة في ذلك، تمثلت في السلبيات التي أحاقت بالطبقة العاملة، وأوضاع العمل النقابي في الغرب الرأسمالي.
*
الانفتاح والبرجوازية الطفيلية
الانفتاح كان بداية تحلل مؤسسات القطاع العام في الدولة، دون التمهيد لذلك، على مستوى البنى الاقتصادية والقانونية، مما أسفر عن حالة من فوضى الطبقات، تمثل باختزال الطبقة المتوسطة بين طبقة غنية انتهازية وصولية، وطبقة فقيرة معدمة جراء انعدام العدالة الاجتماعية واسشراء النصب والفساد الاداري والسياسي. ان الطبقة البرجوازية حسب التطور السوسياقتصادي في اوربا تنتمي إلى جذور عريقة في الوطنية والانتماء وقيم الفروسية، ناهيك عن امتدادها التاريخي والاجتماعي عبر القرون، مما انعكس على أدائها الاقتصادي، في القارة الأوربية والعالم. وهو أمر مفقود في البرجوازيات الشرقية أو العالمثالثية التي تنتجها الحكومات لمآرب خاصة وتصادرها حكومات لاحقة لنفس الغرض. فهي تستمد قوتها وإدامها من تملق المؤسسة الرسمية والحزب الحاكم، مما يمنحها حصانة خاصة، يحصر اهتمامها وولاءها بالفوق، دون مراعاة حقوق ومصالح المادون. ناهيك عن استمرار هيمنة العوامل التقليدية الممثلة بالعائلة والعشيرة والطائفة في أنماط السلوك والتفكير الفردي.
ان تخلف البيئة الاجتماعية لا ينعكس على الطبقات البرجوازية الاصطناعية وتقاليدها الانتهازية الهشة، وانما في مستوى أداء العامل وانتاجيته، ووعيه لعناصر الادارة والتنظيم والعمل. فالتخلف البيئي ينعكس في الجانبين، ويسهل تمرير أساليب مريضة في الادارة والانتاج وعلاقات العمل.
هذه المقدمة يمكن أن تكون مدخلا لتقييم الاداء الاقتصادي لمؤسسات القطاع الخاص في بلدان الشرق الأوسط تحديدا. حيث التخلف يتجاوز المنحى العلمي والاكادمي إلى ميكانزم العقل الباطن، والذي يصطدم بمكونات تاريخية وتراثية غير عملية. وهذه تنعكس في ثلاثة محاور رئيسة:
- معنى الانسان والمعاملة.
- مفهوم العمل والقيمة.
- مفهوم التجارة والربح.

هذه المفاهيم المتعاشقة بدرجة من السلبية (negative) إلى حدّ رسم صورة سلبية لرجل المال والاعمال الشرقي، وعدم تقديره للانسان والعمل والحقوق. ملامح الصورة العامة للمستثمر الشرقي هي: النزعة المادية المفرطة، المبالغة في الربح، انخفاض مستوى الاجور، التهرب من أداء الضرائب ونفقات الانتاج وحقوق العاملين. عندما تكون الغاية الاولى والوحيدة هي جني الاموال بدون وازع أو حدود، فأن الغاية تبرر الوسيلة على نحو لا أخلاقي، ويتساوى الاتجار والنصب، والاستثمار والنهب، في معادلة حضارية مقذعة. بتعبير آخر، لا يوجد استثمار زراعي أو صناعي في قطاع المال الشرقي، لا يوجد تخصص، فالعقلية الوحيدة النافذة هنا هي العقلية التجارية القديمة، حيث تقوم الحيلة محل النوعية، والربح المطلق مقابل الانتاجية. ويتطرق كتاب (المال والهلال)* لمفهوم الربح في الاقتصاد الاسلامي عبر شواهد ثرة من التراث، إلى جواز تضاعف معدل الربح لمستوى السعر الأولي أضعافا مضاعفة، مما يدخل في باب الحلال. ان تقنين القرصنة بهذا الشكل في إطار ديني، لا يتسق مع المعايير الاقتصادية التي تولي اهتماما بالغاً للمنطق والصدق والفلسفة الاخلاقية المنحدرة عنها. هذا السلوك التجاري المتخلف والمتجذر يكشف سبب انخفاض النوعية والانتاجية في الاقتصادات المحلية، وبالتالي ضعفها في مواجهة المنافسة الاقتصادية في سوق العولمة، أو غيابها التام في السوق العالمية.
الصورة السلبية فيما يتعلق بالمنتج، ينعكس ضمنا على ظروف العمل وحقوق العامل المستخدم في المنشأة. فالنزعة الربحية وغريزة الاستغلال تنعكس على أوضاع العامل وحقوقه القانونية. بيد ان الالتواء على القانون والتملص من الرقابة والمحاسبة ليس عسيرا في ضوء انتشار المحسوبيات والفساد الاداري في أجهزة الدولة المعنية. وقد تعرض الانتاج الروائي والقصصي العربي إلى حالات مميزة من الغبن والاستغلال، جديرة بالملاحظة والدراسة والرصد في مراجعة الاداء الاقتصادي لبلدان الشرق الأوسط العربية.
الهجرة.. هي العنوان والسمة البارزة لسياسة الانتاج وقوانين العمل العربية. وكما اضطرت مواكب الفلاحين إلى ترك الأرض متجهة إلى المدن في النصف الأول للقرن الماضي، للخلاص من جور الاقطاع ومهانة العمل الزراعي، تشكل هجرة الأيدي العاملة العربية الملمح الرئيس للنصف الثاني من القرن العشرين، وجراء فشل برامج التعاون الاقليمي وسياسات التكامل الاقتصادي العربي، أصبحت الهجرة عبر المتوسط نحو أوربا، مما ينقل مشكلة العمالة وحقوق العمال من الاطار العربي إلى مستوى آخر.
*
العمال المهاجرون وحقوق العمل والظروف الانسانية
تعتبر هجرة التسعينيات، أكبر موجات الهجرة الوافدة إلى أوربا من حوض اليحر المتوسط. وعلى رغم اختلاف دوافعها وأساليبها، فأن الصورة التي انتهت إليها في بلاد المهجر، هي الهجرة الاقتصادية. مفهوم الهجرة الاقتصادية يشمل معظم الوافدين من الشمال الأفريقي وجنوب العرابيا، بينما يشكل نظام اللجوء إطار الوافدين من (شرق المتوسط)- لبنان وفلسطين والعراق وايران وأفغانستان-. ولكن.. ما أن يتم قبول اللاجئ، ومنحه الاقامة، حتى يتم ارساله الى مكتب العمل للتسجيل والتأهيل ومن ثم الانخراط في سوق العمل.
ان الحالة العامة هي عدم تقدير المؤهلات الاكادمية للوافدين الى أوربا، إن لم يكونوا حصلوا عليها من جامعات أوربية، أو قاموا بمعادلة شهاداتهم من جامعات غربية. الاهتمام النسبي في الجانب الاكادمي قد يشمل التخصصات التقنية والفنية، وفي غير ذلك، يسجل الجميع تحت بند (عامل مساعد) أو (عامل غير ماهر).
تختلف ظروف العمل وأوضاع العمال باختلاف البلدان الغربية. ففي بلدان جنوب أوربا حيث الحاجة للأيدي العاملة في قطاع الزراعة في ايطاليا واسبانيا وجنوبي فرنسا واليونان، تنتشر ظاهرة المهاجرين غير الشرعيين (قوارب الموت) من الساحل الافريقي نحو الشمال، وهؤلاء يعملون بدون ترخيص حكومي لجمع المال والانتقال لمرحلة ثانية من الهجرة شمالا نحو المدن الكبيرة او بلاد أخرى. وفي حال هجرة غير شرعية وعمالة غير قانونية، فالحديث عن الظروف والحقوق يبقى من قبيل الترف، وتحت وازع الضمير الانساني لرب العمل، وتعاون العمال فيما بينهم. وهناك قطاع مقارب للعمل الزراعي يمتص جانبا من العمالة الوافدة الى اوربا هو قطاع الموانئ، حيث تحميل وتفريغ السفن والبواخر، وثمة أحياء فقيرة من الصرائف على جوانب بعض الموانئ حيث يبيت العمال المهاجرون عند عودتهم من العمل. وقد اشتهر من بين أبناء تلك الصرائف أسماء رياضية وفنية وأدبية، لكن ظروف حياة العمال وعملهم بالكاد تغيرت.
في المدن الرئيسية حيث يبرز قطاع الصناعة والتجارة والخدمات، تختلف ظروف العمل، ويصعب الحصول على عمل بدون ترخيص رسمي، فالحقوق تكون مكفولة بقوانين العمل والمؤسسات الرسمية والنقابية المعنية بالأمر. في هذه الحال يمثل النموذج الأوربي القاسم المشترك لظروف العمل وحقوق العمال ومستويات أجورهم، وفي الغالب توجد أطر نقابية للنظر في المظالم وحوادث العمل والمشاكل مع المنشأة. ان حقوق العمل بما فيها معدلات الأجور ترتبط بنوعية الاقامة (vise) المؤشرة في جواز سفر العامل. وينعكس أثر الاختلاف على معدل الأجور نسبة لأبناء البلد، ونسبة ونوعية الضرائب المستقطعة. كما تتفاوت أجور النساء عن اجور الرجال في العمل الواحد.
ان الكثير من بلاد أوربا الغربية تلتزم بقوانين الضمان الصحي والرعاية الاجتماعية وحقوق الانسان، ما عدا جانب من البلاد الأميركية. وفيما عدا ذلك، فأن الحصول على الحقوق والحماية النقابية يكون رهنا بالانتماء لنقابة العمل المعنية، والالتزام بتسديد الاشتراكات والالتزامات المترتبة عليها. وفي بعض البلدان تتعدد النقابات أسوة بتعدد الأحزاب ما يعني استعداد العامل أو المهاجر بالانضمام الى أحد أحزاب البلاد والعمل تحت لوائها، مقابل الحقوق والحماية المتصلة منها.
من مميزات هذه البلدان الاهتمام بتأهيل المهاجر للعمل، وحصوله على خبرة فنية متراكمة جراء العمل، مما يضيف إلى شخصيته ملامح نوعية ترفع من مستوى وعيه الحضاري ومعدل انتاجيته، أي تحرره من تبعات الكسل الشرقي ونمط الاسترخاء.
*
العمال المهاجرون في انجلترا.. حالة استثنائية..
تشترك بريتانيا مع بلدان الغرب الأوربي في تطبيق أنظمة الرعاية والضمان الاجتماعي والصحي للمقيمين الشرعيين. لكنها تختلف عنها في ضعف أنظمة الرقابة والمتابعة القانونية، ودرجة الحرية الممنوحة للوافدين إليها، سيما في قطاع المال والأعمال.
ان اتساع قطاع الأعمال العربي في البلاد البريطانية، سيما في مجال الخدمات السياحية وأعمال الوساطة التجارية والمالية، استقطب الجزء الأغلب من العمالة العربية الوافدة. ان القطاعات الرئيسة للاستثمار العربي في انجلترا هي كالتالي..
- المطاعم والمقاهي والفنادق.
- مكاتب العقارات والوساطات التجارية والبنوك العربية.
- محلات المواد الغذائية والتحفيات الشرقية.
- مؤسسات التعليم والتربية العربية والاسلامية.
- مكتبات ومراكز دينية اسلامية (مساجد).

تختلف ظروف العمل ومعدلات الأجور حسب فئة العمل وتسجيل العامل. وتلعب شخصية صاحب العمل الدور الأساس في كل ما يتعلق بعلاقات العمل وظروفه. وعامة يتعرض العمال غير المسجلين لنسبة استغلال أكثر من سواهم، بيد أن المعضلة الرئيسة لمعاناة العمال هي ضعف الأطر الرقابية والنقابية، ناهيك عن هشاشة القانون التي يحسن أرباب الأعمال التسلل من ثغراتها لدعم مواقعهم. ان قصص الاستغلال والغبن التي تطال العمال والعاملات سيما في المطاعم ومؤسسات الخدمة العربية من الكثرة، بحيث يندر أن تخلو منها حياة مهاجر.
من قصص المعاناة عدم الالتزام بتخصيص العمل، فيطلب من العامل أو العاملة القيام بالعمل حسب رغبة مدير العمل، عدم الالتزام بثبات مواعيد العمل، ورغم نظام الاجور الاسبوعي، فليس ثمة التزام ثابت بمواعيد دفع الأجور. كما ان الاسلوب المتبع في الغالب هو الدفع المباشر باليد (cash)، لقاء التوقيع في قائمة عادية، وهو اسلوب تقليدي غير متعارف في أوربا الغربية حيث اعتماد أنظمة الكمبيوتر في الحسابات والتحويلات البنكية.
ان الايام الأولى للعامل في المشروع تحتسب لغرض التجربة، والغالب أن هذه الأيام التي قد تتجاوز إلى اسبوع أو اسبوعين لا يتم دفع أجورها، وهو أبسط نماذج الاستغلال والقرصنة التي على الراغب في العمل القبول بها، وتأمل صحوة ضمير. القانون الأساس للبزنس العربي هو الأخذ ، أما الدفع فمسالة تخضع لعوامل وأمزجة شتى.
*
استنساخ فوكو بريتانيا..
العمالة.. هي الاسلوب الأكثر شيوعا اليوم لتأمين المعيشة، لكن صفة العامل لم تعد شائعة في العرف الاجتماعي. العامل داخل العمل، أو بعده، يعيش حالة انفصام بين ذهنه وسلوكه. انه يعيش شخصيتين متداخلتين، تتولى احداهما تسخير الثانية لمصلحتها. وفي الغالب، يهيمن الحلم البرجوازي في السلوك والمعيشة والعلاقات، والطموح للانتقال من صفة الأجير إلى صفة المالك ومن مرتبة العامل إلى صاحب العمل. ولأجل ذلك يحتمل سيل المعاناة والغبن على أمل حرق المراحل وتحقيق التراكم المادي للتحول البرجوازي أو الرأسمالي، ليبدأ بدوره الانتقام لذاته من سنوات الغبن والاستغلال، بتمرير الغبن والاستغلال إلى ضحايا جدد.
ان حلم العولمة ومشروعية طموح البرجزة والثراء، القائمة على النزعة الفردية وتطبيع العبودية (التمسكن لغرض التمكن)، يتقاطع مع الانتماء الطبقي الذي يوحد مشاعر العاملين ومطامحهم، في إطار أفق انساني يسعى لتحقيق الرفاه الاجتماعي للمجتمع ووضع نهاية لممارسات الاستغلال والتمايز الطبقي. ان انعدام الوعي الطبقي في ظل العولمة يعني شرعنة الاستغلال وتطبيق القرصنة والنصب والحيلة، كجسر لا مفر عنه وقبول التمايز الطبقي والثقافي قانون طبيعي للحياة.
ان السياسة الانجليزية منذ عهد تاتشر المحافظة وسياسة بلير العمالي تشكل لغزا يحتاج الكثير لفك طلاسمه، أو ترسّم ملامح الحلم الانجليزي الجديد عقب انهيار حلمها الكولونيالي في سيادة العالم. بريتانيا النائية بنفسها عن أطراف الحلم الأوربي، والمتمردة في ذاتها على تبعيتها للبيت الأبيض، لا يستبعد أن تعيد إنتاج البديل الرأسمالي للحلم الاشتراكي السوفيتي، حسب معالجات جاك دريدا في رحلته التفكيكية للماركسية (موسكو ذهابا وإيابا)، مجتمع هجرة كوزموبوليتاني يقوم على الاختلاف والتعددية، وصراع الهويات ورؤوس الأموال. بيد أن السؤال الأساس يبقى.. هو موقع الانسان، في مجتمع تعجنه المصالح الرأسمالية وتلوكه دوامة الفساد الاداري والسياسي. بريتانيا التي خسرت مجدها، في الطريق إلى خسران هويتها الانجليزية، تستمرّ في استدرار البقرة السوداء أو السمراء والمرقطة داخل حدودها، بعد أن فعلت ذلك على مدى قرون عبر البحار.
*
لندن
الثلاثين من ابريل 2008

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 المال والهلال- تأليف: شاكر النابلسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت