الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لنغفر ليوسف إدريس قسوته علينا

ناهد بدوي

2004 / 1 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


منذ أن قرأت قصة "العسكري الأسود" ليوسف إدريس وأنا أخاف  من النظر في المرآة كي لا أكتشف أن ما قاله في هذه القصة صحيح. ولكن هذا لم يساعدني ولم ينقذني، إذ أني اكتشفت أن العالم كله كأنه قد تحول إلى مرايا تهاجمني في كل لحظة.
عندما أحتاج إلى البطاقة الشخصية في إحدى المعاملات الإدارية وأقدمها للموظف، أقرأ عليها رغما عني "شوقي الذي دخل السجن لم يخرج منه، وإنما الذي خرج شخص آخر له مزايا ومضار أخرى، وأقول شخص كنوع من التبسيط لا أكثر".
إذا ذهبت إلى احتفال في مناسبة اجتماعية  لبعض الأقارب أو الأصدقاء سواء كانت زواج أو ولادة ..الخ أقرأ على باقة الورود التي أقدمها لهم "خرج شوقي ليحيا بدافع جديد تماماً على الجنس البشري.. فهو لا يحيا ليتكاثر ويبقى أو يتطور وإنما دافعه للحياة كان أن يهرب ويفر.. ما أغربه من كائن فقد أمنه البشري".
عندما أضع أوراقاً على الطاولة وأهم بالعمل أقرأ على الورق " يبني شوقي حياته لا عن طريق أعمال يضعها فوق بعضها ليكون هرما شخصياً، ولكنه يبنيها إلى أسفل.. يحفرها تحت الأرض كجحور متشعبة ملتوية معقدة كلما أحس في جحر منها بالخطر فر وانطلق يكون جحرا آخر".
   لقد أضحت هذه القصة عفريتا يلاحقني في كل مكان. وفي كل مرة يرتسم أمامي مقطع منها مختلف عن الآخر وأكثر قسوة من سابقه. وقد أبدع يوسف ادريس فيها وفي تفاصيلها لدرجة مزعجة. إلا أن الجملة الأكثر تسلطاً علي والأكثر حضورا أمامي "ماأغربه من كائن فقد أمنه البشري".
    وبالمقابل عندما أصادف عسكريا أو ضابطاً من الأجهزة التي تخصصت في مصادرة الأمن البشري. لا أستطيع الهروب من طغيان القصة علي وأسرق النظر إلى وجهه كي أعرف هل يستطيع الابتسام والعبوس والدهشة كالبشر؟ وأقرأ "حين كان العسكري الأسود يضرب كان من يراه لا يظن أبداً أنه يمت إلى الإنسان أو الحيوان بصلة، ولا حتى للآلة فالآلة لا تبدو على وجهها المتعة المتوحشة وهي تضرب، ويا لخسة ضربه لأن المضروب لا يملك حرية الرد".
عندما أسير بجانب أنقاض منزل ما أو بناء ما ويصادف أن يمر أمامي في نفس اللحظة عنصراً من نفس هذه الأجهزة  تنعقد فوراً مقارنه لاإرادية بيني أنا السجينة السابقة وبين هذا العسكري وبين تلك الأنقاض. وأبحث عن التشابه بيننا نحن الثلاثة ذلك التشابه الذي يدعيه ذاك المزعج يوسف ادريس وأقرأ على الحائط المتهدم "الضرب ذلك النوع من الضرب، حين يتحول المضروب إلى أنقاض إنسان مذعورة، أنقاض تتألم. وبوعي تحس نفسها وهي تتقوض إلى أسفل، وبإرادتها الخائفة تمنع نفسها من أن ترد. ويتحول الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر، وكأنه إنسان يتهدم إلى أعلى، ويسعده الألم الذي يحدثه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة، وبإرادة أيضاً يقتل استجابة البشرية للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم والتقوض وبلوغه هو أخس مراحل النشوة المجرمة التي لا يستطيعها  من المخلوقات جميعها ولا يستمتع بها غير الإنسان المنحط في الإنسان".
وكم عددت أصابع بعض العسكريين أمامي وبحثت عن آثار جرح أو ندبة لأعرف هل فعل هؤلاء ما فعله العسكري الأسود الذي، وفي آخر عملية تهدمه وتقوضه كإنسان،  "بدأ يأكل يده".
هل يمكن أن يكون التعبير عن التجربة أقسى من التجربة نفسها؟ إن هذا المبدع المزعج مؤلف هذه القصة لم يكن يهتم بأهداف نضالاتنا في هذه القصة بالذات، ولم يكن يهتم إن كان هناك أفكار أو إيديولوجيات أو مصالح متصارع عليها والتي أدت إلى وجود حالة الاعتقال السياسي وحالة الانتهاك المزمنة للإنسان في بلادنا. الموضوع في هذه القصة ليس هنا. لذلك فهو لا يقول لنا لماذا اعتقل شوقي ولماذا عذّب، ولا يشرح لنا الدوافع الكامنة وراء الأوامر التي أعطيت لجلاده كي يعذبه بهذه الخسة وبهذه القسوة. وهو موضوع كان يمكن أن نستمتع به أكثر إذ طالما تعودنا عليه وكنا نطلبه دائما كي نجد لنا مكانا مع طرف في الصراع ضد الطرف الآخر. أما هنا، وفي هذه القصة، ويا للقسوة!! يقع السجين والسجان، المنتهَك والمنتهِك، في جهة واحدة وينتميان إلى صنف واحد. وفي بؤرة القصة يتربع الإنسان، الكائن البشري، بما هو قيمة بحد ذاتها بمعزل عن توجهاته وأفكاره. هذه القيمة الثمينة التي نرتعب عندما نراها تنتهك بهذه الطريقة. ويدفعنا الكاتب دفعا إلى حقيقة مفادها أن رعاية الإنسان في الإنسان وحماية صفاته البشرية الثمينة هي أهم من كل الأفكار والأيديولوجيات والمصالح التي وجدت أصلا من أجل الإنسان واغترب كثير منها عن أساسها الجوهري هذا.
وإذا كان قد كثر الحديث في هذه الأيام عن حقوق الإنسان كأنه اختراع جديد إلا أني لم أرى أحدا الآن يكشف الحاجة العميقة لها ويدافع عنها دفاعا مراً وشرسا كالذي وجدته في هذه القصة القديمة. وحين يتم التأكيد الآن وفي كل مكان على أن الإنسان يجب أن يكون حرأ وكريماً ورحيما كي يكون قادرا على العمل والإنتاج والبناء وتربية الأجيال الجديدة، نكتشف في هذه القصة أن الصفات (حراً وكريماً ورحيما) هي صفات نافلة على الإنسان إذ هي متضمنة بالنوع " الإنسان". هي جزأ لا يتجزأ منه وليست إضافة عليه وإن إي محاولة لحرمان الكائن البشري من حريته وكرامته ورحمته هي حرمان من انتمائه لهذه الصفة الكلية الجامعة: الإنسان.
وأخيراً لنغفر ليوسف إدريس قسوته علينا، وكشفه لذواتنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات


.. مظاهرة واعتصام بجامعة مانشستر للمطالبة بوقف الحرب على غزة وو




.. ما أهمية الصور التي حصلت عليها الجزيرة لمسيرة إسرائيلية أسقط


.. فيضانات وانهيارات أرضية في البرازيل تودي بحياة 36 شخصا




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تمتد إلى جامعة لوزان بسويسرا