الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكذبة الحقيقية

عاصم بدرالدين

2008 / 5 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


علمنة.. لطائفية
تسير في الشارع، وتسمع الناس جميعاً يتحدثون بثقة، يقولون لبعضهم البعض "أنا ضد الطائفية" ثم يستدرك أحدهم بحزم "أنا مع علمنة النظام لأنه الحل الوحيد" ومن ثم يبتسم جميع الحاضرين تأييداً وإرتياحاً لهذا التوافق.
أراهن أن كل الشعب اللبناني ضد الطائفية، وأخاطر بمنطقي لأضيف أنه كله -أي الشعب اللبناني- مع علمنة الدولة. لكنني في المقابل أؤكد أنه على إستعداد تام لدفن كلامه هذا ونفيه بسرعة البرق في جيوب النسيان والتمترس تلقائياً خلف العصبية المذهبية والعشائرية عندما تستدعي الحاجة. إننا نعيش وسط نفاق مثير للسخط حقاً، كلنا نؤمن بالحق، لكننا نلتف عليه لنحقق حقاً أخر هو بمثابة اللاحق. لو أجرينا الآن إستفتاءً جدياً لرأينا بأم العين والأرقام أننا علمانيون منذ الولادة. نحن شعب إحترف الكذب حتى النهاية.
النفاق لدينا صار وظيفة أو هواية وغواية. كيف تكون علمانياً وتتمترس خلف رأيك؟ كلنا علمانيون، هذا صحيح، لكن ما هي هذه العلمانية المتفق عليها؟ كيف تكون لا طائفي ولا تطيق الأخر؟ كلنا ضد الطائفية، هذا صحيح، لكن ما هي هذه الطائفية البغيضة المتفق على كرهها؟
ما يثيرني حقاً أننا ندعي. نحتل المراكز الأولى في الإدعاء، نكذب أولاً على أنفسنا ومن ثم على العالم كله ولاحقاً نصدق كل شيء. لا نعترف أبداً بعصبيتنا الطائفية، لكننا نمارسها بفجور ووقاحة ومن ثم ننهرها لأنها عيب ومخالفة للقيم والأخلاق التي ندعيها. لم أرَ إنساناً بعد يعترف بأنه طائفي، رغم أننا نعيش في أشد وأحنق الحالات طائفيةً وتطرف. نختبئ -بمهارة- خلف إصبعنا... دليلاً على الشطارة اللبنانية.
هذا التأييد للعلمانية والرفض للطائفية، كالإكسسوارات التي يرتدينها النساء في الحفلات واللقاءات الإجتماعية، بمعنى أخر هي زينة خارجية، تخفي الداخل وتغش الناظر، وحين نخلعها تبان الحقيقة أمامنا جلية واضحة... لكنها سيئة ومقرفة ووضيعة.

جبران خليل جبران
أدب جبران خليل جبران، أدب عالمي بإعتراف العالم أجمع، تناولته دراسات عديدة من مختلف الجوانب والأصعدة، أثبتت جميعها نبوغ كاتبه وتألقه فوق الجميع. لكن لهذا الأدب صفة أو وجه أخر، لم ينتبه له الدارسون والفاحصون. فالأدب الجبراني أيضاً دخل في صميم الزينة اللبنانية والكليشيهات المتكررة، مثله مثل تأييد العلمانية ونبذ الطائفية.
هذه السنة، هي السنة الـ125 على ولادة أديبنا العملاق جبران خليل جبران، لبنان كله يحتفل بهذا الحدث الهام.
ولا شك أن جبران حاز على تقدير جميع اللبنانيين، ولربما يكون هو الوحيد من بين الكتبة والأدباء اللبنانيين، الذي نال حيزاً واسعاً من مادة الأدب العربي المدرسية في كافة الحلقات الدراسية (والجامعية)، فلا يخلو كتاب مدرسي من نص أو نصوص لهذا الأديب الكبير.
ما أريده الآن، هو أن نسير مرة أخرى في الشارع اللبناني، في كل الشوارع والأزقة والدساكر، وأن نسأل المواطن "فلان" عن أديبه المفضل، طبعاً هذا المواطن لن يتردد ثانية في أن يقول "جبران خليل جبران بكل تأكيد" ومن ثم يمضي في مسلكه معجب بإجابته. هي ظاهرة لافتة أن كل اللبنانيين يعتبرون جبران خليل جبران أديبهم المفضل. الكلام هنا ليس بهدف "إهانة" الأدب الجبراني، فأنا لست في أي موقع أو مستوى يجيزان لي القيام بذلك، لكن الغاية الأساس من هذا العرض، التأكيد المستمر أننا نمتهن الكذب والنفاق. فهذا المار الذي طرحنا عليه السؤال، هو غالباً لم يقرأ يوماً كتب جبران، لكنه سمع به لشهرته الواسعة.
هاتين الظاهرتين "تأييد العلمنة ونبذ الطائفية" و"حب أدب جبران خليل جبران" تنتشران بشكلٍ واسع وكبير في صفوف الشعب الموتور هذه الأيام، كما في صفوف الفنانين اللبنانيين المحترمين(ليس تهجماً على الفن)، فلا تخلو مقابلة سخيفة أو مركبة وملفقة، من ذكر هذين العاملين. ويا للصدفة أنهم جميعاً متفقون... ولو فعلاً نحن هكذا، فكيف لم نستثمر هذا الإتفاق لصرع الحروب وقمعها، وخاصة أن هذين العاملين يحملان من القيم الإنسانية ما يكفي حقاً للنهوض والمقاومة!؟
هذا الكذب الجلي، لا ينمي في نفوسنا سوى الضمور والفشل، فالعلمانية إذذاك يُنتهك عرضها وتشوه وتصبح أداةً للترفع أو نوعاً من الوجاهة الإجتماعية، رغم أنها أصلاً من صلب الناس المجردين من أي إضافة غير إنسانيتهم، ومن دونهم لا تقوم ولا يقوم بلد ولا ديمقراطية ولا تستمر الحرية ولا تنمو الثقافة. ويصبح رائداً كجبران خليل جبران، مطية إدعاء ليبرز هذا أو ذاك أنه "مثقف"، فتتلاشى حينها قيمة أدبه القائمة في صلبها على الحب والنبوة الإنسانية المفقودين في هذا المجتمع الإنعزالي الإنغلاقي والحجري المتخلف. إلا إذا كنا –والله أعلم- نقرأ دون إستفادة أو فهم، وهنا مشكلة أخرى أكثر وطأة وقسوة وكارثية من عدم القراءة وإنعدام القراء!
أخيراً نبني وطناً: أرضه من كذب، جدرانه من كذب، بيوته من كذب، عائلاته من كذب، شوارعه وأزقته من كذب، ناسه من كذب، عقوله وأرواحه وأجساده من كذب، ملحه الكذب والدجل والنفاق... فنقطع الشك باليقين عندها أن بلدنا محض كذب. وهي قطعاً الكذبة الحقيقية المؤكدة!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه


.. حماس تعلن عودة وفدها إلى القاهرة لاستكمال مباحثات التهدئة بـ




.. مكتب نتنياهو يصيغ خطة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب


.. رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي: الجيش يخوض حربا طويلة وهو عازم




.. مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين