الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة كمال سبتي في شبابه

عبد العظيم فنجان

2008 / 5 / 4
الادب والفن


من الشوارع الخلفية لمدينة الناصرية
1

في ذلك المقطع الزمني من حياة الناصرية ، كمدينة فتية ، حبلى أبدا بالرائعين . كان نهرها الخالد : الفرات ، يجري نحو جنوب الجنوب ، كما لو أنه يؤكد حضوره الملحمي ، يوم كان فيضانه َكافيا لتدمير حضارة ، ومحفزا - ياللمفارقة - لنمو حضارة اخرى .

لحسن الحظ فقد كان هناك مَن يدوّن ، في القديم ، ولذلك وصلنا ما وصلنا من تاريخ هذه البقعة المنسية من العالم ، ولسوء الحظ أيضا أن فعل التدوين هذا تراجع مع تصاعد فعل الابتكار . فنحن ازاء مدينة تنتج مبدعين على كافة الاصعدة ، لكنها لا تنتج مؤرخين ، ولو ملفقين ، كما تفعل بعض المدن . نحن في مدينة تاريخها هو ذاكرة الاحياء ، أما امواتها فيتساقطون من تلك الذاكرة مع كل ولادة جديدة لجيل جديد . قد يبدو ذلك فعلا قدريا من الخارج ، لكنه في الحقيقة ليس الا نتيجة لتفاقم سوء الحال ، مع دخول البرارة الجدد ، الذين ليس في صالحهم أن يكون هناك تاريخ معاصر وزاه لمدينة علّمت الناس القراءة والكتابة في اول الخليقة . هناك صراع غير مرئي : ناصرية السومريين أم ناصرية ناصر باشا ؟ موسكو الصغيرة ؟ ناصرية اور ، ام ذي قار الاسلاميين ؟
هناك حرب غير مرئية ، لكنها ستتجلى يوما : حرب من اجل ابادة الوردة ، وحديقة غازي ، وسينما البطحاء ، وبهو البلدية ، وزامل سعيد فتاح .. وصولا الى كمال سبتي ، آخر الراحلين لحد كتابة هذه المجتزأ من سيرته ، غير المذكورة في الاستذكارت والمراثي التي تناولته .



2

لست مؤرخا ، ليس لأن الشاعر اشرف من المؤرخ كما يرى افلاطون ، وانما لأن الشعر هو هاجسي الاول ، واذ اكتب الان فبهاجس الشاعر ليس الا ، مع اني اشعر بحاجة ماسة الى فعل المؤرخ النزيه في هذه اللحظة الملتبسة من عمر الزمن ، حيث احتلت حيطان المدينة شعارات السواد ، وأكلت رطوبة المراثي العبارات المجنحة التي كنا نكتبها على الحيطان والمصاطب .
لا زلت اذكر تلك العبارة الشعرية : " حن وآنه أحن " المكتوبة على جدار قاعدة جسر الناصرية قبل ان يطاله قصف الحلفاء عام 1991. لازال مشهد الجنود العائدين من الثكنة عام 1972 حيا في ذاكرتي ، ونحن طلاب نتهيأ للامتحانات النهائية ، بانتظار صمون الثكنات الذي يجود به علينا هؤلاء الجنود ، وكان كمال سبتي وقتذاك فتى وسيما ، يمر بدراجته الهوائية ،حاملا معه شيئا من الاكل لنا ، لأننا كنا لا نعود الى بيوتنا الا مساءا ، فيما كان اهل الشاعر الراحل قريبين جدا من الجسر حيث كنا نقيم . كانت اغنية عبد الحليم حافظ : " رسالة من تحت الماء " فضاءا واجنحة ، وكان ثمة مَن يملك مسجل - ريكوردر - سقط اسمه من الذاكرة ، يتحفنا ببعض الفواصل الكلثومية التي ظل كمال سبتي يحبها للاخير .

3

لم يكن كمال زميل دراسة ، كان متأخرا عني بسنة ، ولا اتذكر الاسباب التي جعلت منه لابثا مكانه في ثانوية الناصرية ، فيما انتقلت انا الى اعدادية الجمهورية ، لكننا كنا نلتقي كثيرا ، وكثيرا جدا ، فكان اخر لقاء بيننا في بغداد ، في بار اطلس الشهير ، عام 1979 ، حيث كنت مطاردا من قبل البعثيين ، لكننا شربنا البيرة هناك ، رغم الرعب ، وشرعنا في نقاش حماسي عن قصيدة النثر ، انتهى مع نفاد آخر فلس في جيوبنا ، فخرجنا نتسكع معا الى الباب الشرقي ، حتى توقفنا اخيرا عند باب سينما الحمراء ، التي كانت تعرض فلما رخيصا . قال لي كمال : " الليل قد هبط ، ويجب ان نفترق . اعتنِ بنفسك " . ففارقته ذاهبا الى الليل ، على لاهدى . وفي خيالي لبثت جملته الاخيرة ، الى ان التقينا ثانية عام 1987في الناصرية ، لكننا وقتها - للاسف الشديد - كنا قد حزمنا امرنا على ان نفترق ، ولا نلتقي الا على تناقضاتنا الخاصة ، فكل على حدة كان قد اختار انحيازه الاخير نحو مصيره الخاص ، وكل على حدة ظل يحمل في قلبه ذلك الحب الكبير للناصرية ، ولكن .. ظل كل واحد منا يعبر عنه بطريقته . هكذا كنت اتلصلص على مايكتبه كمال سبتي في عموده الجميل : " في المهب " فأستعيد رائحة ذلك الحوار الصاخب البدائي في بار اطلس ، واتطلع الى الاكثر ، حتى اخر عمود كتبه ، وفيه اعتذار مهذب وخجول عن عدم القدرة على المواصلة ، تبعه بعد يوم او يومين تعليق سيء في مكان العمود بالضبط ، في نفس المساحة على الصفحة ، كتبه أحدهم ساخرا من الراحل ومن اهميته . وقتذاك ، لأول مرة في حياتي شعرت بأن من حق كمال سبتي علي أن اثأر له على هذه السخرية ، إلا أني لحد الان لم افعل ذلك .. ذلك ان كمالا لم يعطني فرصة ابدا ، لكن تلك مسألة اخرى ..

4

كان والدي رجلا طموحا ، وقد هجر الريف الى المدينة بعد ان شاهد شرطيا على بدلته الرسمية ازرار نحاسية ، فظنها ذهبا . كان الشرطي في مهمة تبليغ ، وعندما لاحظ والدي اهتمام شيخ العشيرة - الذي كان شقيق والده - بهذا الفارس الذي وصل على حصان ، تحركت فيه رغبات المجد ، وهكذا خلسة عن جدي ، تبع الشرطي عند مغادرته " ناحية الغراف " راكضا وراء حصانه ، حتى وصل معه الى قضاء الشطرة ، الامر الذي لفت انتباه الشرطي ، فتوقف في احد المفازات وسأله عن غايته ، فقال له الوالد : " اريد ان اكون مثلك " .
هكذا صار والدي شرطيا ، وهكذا ايضا غادر عالم القرية الى الابد ، ودخل المدينة - الناصرية بزي مرصع بأزرار من نحاس ، مع لمعانها كان بريق طموحه يتجلى شيئا فشيئا ، حتى اصبح من ابرز تجار المدينة ، بعد ان عمل بتهريب المواد التموينية ، والتجارة بالاسلحة والاقمشة ، في الحرب العالمية الثانية . كان قريبا من عائلة ناجي طالب رئيس الوزراء الشهير ، كما كان معدودا من اعيان المدينة ، وكان قد امتلك عددا من قطع الاراضي ، إذ كنت الناصرية وقتها قرية صغيرة جدا ، لم تاخذ سمات المدينة ، لكن والدي كان قد ارتكب اثناء ذلك الحب ، ووقع في غرام والدتي " تسواهن " التي كانت من اجمل الجميلات وقتذاك ، وظل يطاردها ويلاحقها حتى وقعت هي الاخرى في حبه ، سوى ان مشكلة كبيرة نشأت بينهما لانه كان قد تزوج من امراة اخرى قبل اكتشافه لمعشوقته الجديدة تسواهن ، فكان لابد من تطليق الاولى كشرط اول للزواج اما الشرط الثاني فكان فادحا : مهرا قدره 12 روبية ، وهو مبلغ فاحش في تلك الايام .

اسوق هذا الكلام تمهيدا للقول بأن الفقر الذي طال عائلتنا فيما بعد كان نتيجة مغامرات ابي في الحب والتجارة ، حتى افلس ذات يوم ، فقرر فتح مقهى في محلة باب الشطرة ، صار ملتقى - فيما بعد - لصيادي المغامرة وممتهني التهريب ، وبالتالي للساسة والمعارضين والمثقفين ، وهناك - في تلك الحاضنة - نشأت ، ويبدو ان لعنة ابي الجميلة هذه ظلت سارية في دمي لحد الان ، وهو يغذيها بطموحه الذي لم يتوقف عند حد ما ، خاصة عندما نجحت من المرحلة الابتدائية ، فلم يرسلني للتسجيل في المدرسة المتوسطة القريبة من بيتنا ، بل ارسلني الى ثانوية الناصرية التي تبعد كثيرا عن محلة سكناي ، معلّقا على ذلك بأنه يريدني ان ادرس مع اولاد الاكابر ووجهاء المدينة . وفعلا في تلك الثانوية التقيت بكمال سبتي ، وبعبد الحميد الناصري ، وبعلي الحمداني ، وبهشام حبش .. و .. كل هؤلاء ابناء ذوات المدينة واعيانها الكبار .

5

في تلك الثانوية شاءت الصدفة ان يكون زميلي الذي يقاسمني المقعد الدراسي هو الشاعر عبد الحميد الناصري ، شقيق الشاعر العراقي الصعلوك الشهير عبد القادر رشيد الناصري ، ومن عبد الحميد سأتعلم الاوزان الشعرية على نفس المقعد ، ومنه ايضا اتعلم فنون التمرد والعصيان ، يغذي ذلك كله استاذ العربية الشاعر الوجودي الكبير نوري عبد الرحيم ابن خالة الشاعر كمال سبتي .

اعتبر نفسي محظوظا ، رغم خيباتي في الحب والسياسة ، لأنني عشت زمنا صافيا ومحتدما ومليئا بالمفارقات ، فمن بين تلك المفارقات ان تكون عائلة عبد الرحيم - اي بيت خالة كمال سبتي - مشطورة بين الفكر القومي والفكر الماركسي : أن يهتم نوري عبد الرحيم بي ، وأن يهتم معاذ عبد الرحيم - شقيق نوري - وهو القومي المعروف ، بكمال سبتي ، ولكن بالرغم من هذه التناقضات كان هناك ثمة ماهو مشترك ، لكنه متناقض ايضا في جوهره : شقيق كمال سبتي الاكبر : المرحوم نضال سبتي ، الذي كان صديقا حميما لي تعرفت عليه من خلال صداقتي لعبد الحميد ، ومن خلال نضال تعرفت على اهم كتابين قرأتهما في تلك المرحلة : " زوربا اليوناني " وكتاب ستيفان زفايج : " بـُناة العالم " . ثم توالت عليَّ الاسماء التي لم اسمع بها في مقهى ابي : شفيق مقار ، مطاع صفدي ، غالي شكري ، هيكل .. ومعظم رموز الفكر القومي اليساري ، ولاعجب في ذلك فنضال وعبد الحميد كانا مؤمنين بأهمية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، فيما كنت الدروس التي كنت اتلقاها من مثقفي مقهى ابي وساسته متماهية مع انتفاضة الشيوعيين في الاهوار ،جيفارا ، ماركس،غارودي ، سارتر ، محمد جلال العظم ، وصولا الى ... كولن ولسن . وفي كل هذا كان الراحل كمال سبتي غائبا وبصورة مشوشة في ذاكرتي الان ، لكنه يطل فيها ، ومن خلالها في مقاطع غير مترابطة ، لعل اهمها تلك المرات التي امر بها على شقيقه نضال الى البيت بصحبة عبد الحميد الناصري ، فينط من الباب ليكون رابعنا ، فيصحبنا الى الفرات ، حيث المقاهي الصيفية المزروعة على ضفته ، التي كنا نتخذ من احدها مقرا كما سيأتي .

6

كان عبد الحميد الناصري أكبرنا عقلا ووعيا ، بالرغم من ان عمره آنذاك لم يتجاوز الخامسة عشرة ، وهو نفس عمر نضال سبتي ، فيما كان عمري وقتها 14عاما ، وقد تجلى وعي الناصري المبكر هذا في اقتراح عرضه علينا انا ونضال يتلخص في تأسيس رابطة ادبية للشباب ، مستقلة وبعيدة عن السياسة ، نفكر فيها ومن خلالها بطرائق حرة ومبتكرة ، بعيدا عن الصراع السياسي - الثقافي بين الاتحاد الوطني التابع للبعثيين ، وبين اتحاد الطلبة التابع للشيوعيين ، فوافقنا من غير دراسة للعواقب المترتبة على ذلك ، فقد كنا ابرياء اكثر مما ينبغي ، وكانت نوايانا هشة امام صلابة المكر الذي جاء به البعثيون . هكذا جمعنا حولنا كل من نعرفه محبا للادب ، بعد ان كتبنا النظام الداخلي ، وانتخبنا – تخيلوا انتخبنا !! - الناصري رئيسا ، فيما فزتُ انا بمنصب نائب الرئيس ، والمرحوم نضال سبتي بمنصب مسؤول المالية . كان معنا في تلك الكومونة الادبية كل من : سكر جلب ، خليل القصاب ، هشام حبش ، علي الحمداني ، وعوني حامد / شقيق امين مكتبة الناصرية انذاك المرحوم صبري حامد .

كان مقر الرابطة واحدا من تلك المقاهي الصيفية التي كان يديرها احد زملائنا في المدرسة : " جواد عيطه " المشهور بحبه للتمثيل ، بالتهريج وخلق النكات والقفشات . وكان مقرنا هذا مقدسا ، ومجلسنا يكاد يكون سريا ، كحلقة ماسونية تدير امورها بصمت وسرية ، فيما غير بعيد عن مقرنا هذا ، كانت هناك " جمعية رعاية الفنون والاداب " ، برئاسة الراحل كاظم الركابي ، تدير اعمالها بشكل علني ، ويحق لي ان اقول انها كانت اول نواة لمنظمات المجتمع المدني في الناصرية ، التي يجب على الديمقراطيين احيائها واحياء تراثها ، لأنها كانت غاية في الاستقلال والليبرالية ، وقد ضمت بين اعضائها مختلف شرائح المثقفين ، بغض النظر عن ولاءاتهم السياسية .

اقول : غير بعيد عن كازينو جواد عيطة - مقرنا- كانت الجمعية تمارس عملها الثقافي علنا ، وغير بعيد عنا كان مقر الاتحاد الوطني يمارس عمله علنا ، مستغلا بهو البلدية حقلا لنشاطه .

كانت شروط الانتماء الى رابطتنا لا تتضمن الا فقرة هامة هي ان يتقدم راغب الانتماء اليها بنماذج من ادبه ، بغض النظر عن انتمائه السياسي .هكذا كان في الرابطة بعثيون ومستقلون وشيوعيون ، وهكذا ايضا كان فينا من هو الحريص على ترويجها بين اهل الثقة ، فكان نضال سبتي ، بالاضافة الى مسؤوليته المالية خير مروج لها في منطقته ، حتى ذات يوم حلت تلك الامسية التي انهينا فيها قراءاتنا الشعرية ، فاقبل ، من غير موعد ، الشاعر الراحل كمال سبتي وجلس بيننا ، فبادره عبد الحميد الناصري بالاستفسار عن مغزى وجوده بيننا ، فاجابه كمال بثقة كبيرة : " أنا شاعر وجودي .. " : كان عمر كمال انذاك لم يبلغ الثالثة عشر عاما . وكان ماقاله صاعقا بالنسبة لنا ، فلسنا نفهم ما هي الوجودية الا بشكل سطحي ، وان كنا مبهورين بهذا الشكل ، لكن الناصري استوعب كمالا ، فطرح عليه بعض مايعرف عن الوجودية ، إذ كان اكبرنا فهما لها ، ودار بينهما نقاش شائك لكنه جميل .

آه ياكمال .. لم تترك متسعا في يوم من الايام كي اقول كلمتي هذه ، لأنكَ كنتَ محتدما ومندفعا في كل شيء ، دون ان تبالي بالخسائر ، لكن على اية حال من اجل ذكراك ، ومن اجل اختلافنا ايضا ، ومن اجل نضال سبتي ، اكتبُ الليلة ، محاولا ان اكنس شظايا معارك لامعنى لها قامت بيننا ، وهدرنا فيها ارواحنا ، همومنا ، ودموعنا .

7

لست على ثقة من أن ماقرأه كمال من شعره كان وجوديا ، لكنه كان شعرا على اي حال : شعر مكـّنه من الدخول في حلقة " ماسونية " سرية ، محتدمة بالنقاش العفوي حول مفاهيم ليس بينها رابط ، لكنها مهمة بالنسبة لنا ، فقد كنا نريد ان نفتح العالم المغلق ، كأي فتيان مستهم نار الشعر المقدسة في عام 1970 تحديدا ، وبمفارقة غريبة - ربما تعكس جوهر الشعر ايضا - فرّقتهم نار الشعر ، بعد ان جعلت كل واحد منهم شعلة لوحده ، ففيهم من انطفأ وفيهم من واصل المشوار ،
وكان كمال الراحل واحدا من اولئك الذين واصلوا مسك الشعلة ، وتغذيتها بتجارب متنوعة ، مر بها أو تعلمها من حقول اخرى ، كالسينما والمسرح .

لم يُعرف عني الا خصما لكمال ، وكذا لم يُعرف عن كمال الا كونه خصما لي ، رغم ان ما بيننا من وشائج كان اقوى مما بين اخرين ، ولست اريد ان اخوض باسباب هذا الخصام في غيابه ، فليس من المروءة أن ابدو نزيها أو على حق في لحظة فقد خاصة بي ، إذ فقدت بكمال خصما مثقفا وشاعرا مميزا ، ومواطنا من مدينتي ، والاكثر رفيق فتوة وصديق شباب ، يكفيني حزنا بهذا ، فقد اثبتَ لي فقده انه كان ضروري جدا في حياتي ، للحد الذي شعرت فيه باحتقار شديد لنفسي ، وهو يوارى التراب ، وانا امشي فوقه .

جملة كمال سبتي التي قدم بها نفسه الينا : " أنا شاعر وجودي .. " لطالما اعتبرتها مفتاحا هاما لفهم عمل كمال الشعري ، ولاتكمن اهميتها في التدوين الذي مارسه نثرا وشعرا فقط ، بل في مغامرته الاولى في السفر ، فقد نجح في الخروج من العراق لأول مرة عام 1975 من اجل غاية لا تخطر في بال شاب في التاسعة عشرة من عمره . قال : " ساسافر الى اسبانيا .. بحثا عن قتلة لوركا " وهذا القول المجنح هو من جنس قوله : " أنا شاعر وجودي .. " في الثالثة عشرة من عمره كما اسلفت ، ولعلها تحيل ، بطريقة ما ، الى مازعمه رامبو من انه ذاهب الى باريس من اجل ان ينتف لحية هيجو .

ليس مهما الان ذكر تعليقي الساخر وقتها ، إذ كنت اناكده كثيرا ، من جملته الاخيرة حول اسبانيا ، لكن المهم هو أن كمالا عاد الى العراق بعد ذلك ، ليمم شطره ثانية صوب اسبانيا في خروجه الثاني والاخير من العراق عام 1989، ليس من اجل البحث عن قتلة لوركا هذه المرة ، وانما من اجل نيل حريته ، والى الابد .



8

لدى عودته من رحلة البحث عن قتلة لوركا التقيته في بغداد ، وسكرنا في بار صفوان ، وعندما لعبت في رأسه الخمرة شرع بالبكاء من شدة الوجد ، فقد كان واقعا في غرام اسبانية صادقها هناك ، هي بنت احد البحارة ، ولم تنتهي السهرة الملحمية تلك الا بسقوطه بالضربة القاضية ، إذ كان قد افرط في الحنين بشكل لا يصدق ، مما جعلني في قلق عليه ، فاصطحبته معي الى القسم الداخلي في ابي غريب ، حيث كانت دراستي الجامعية .

بنتُ البحار هذه كانت احدى نساء كمال سبتي في الشعر الذي يكتبه ، ولطالما رأيتُ ملامحها في قصائده . طالما تتبعتُ نموها من قصيدة الى اخرى ، وطالما فسّر لي كمال بامتناعه عن الخوض في اي مغامرة عاطفية - على الاقل بالنسبة لي - اخلاصا عجيبا لتلك : " بنت الملاحين " الفاتنة التي عشقها في رحلة البحث عن قتلة لوركا . هو الاخلاص النادر الذي مارسه كمال كأي متبتل ، حين حاول الحصول على اللجوء السياسي في اسبانيا ، لكن عبثا ، فقد انتهى به الطواف اخيرا وجوديا وروحيا وكينونيا : قلبا مترعا بالغربة والنفي في هولندا .

لم يخبرني كمال عن قتلة لوركا ، وربما كان في الامر تورية ما ، لأنني اعتقد انه قد عرفهم ، على الاقل حين واجه الموت لوحده في غرفته ، عاريا ومجردا من أي قوة ، سوى قوة روحه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?


.. لعبة الافلام الأليفة مع أبطال فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد




.. إيه الدرس المستفاد من فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو ب