الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وَهْمُ الْخَيَاْلِ فِيْ شِعْرِ مِفْتَاْحِ الْعَمَّاْرِي

محمد عبد الرضا شياع

2008 / 5 / 7
الادب والفن


لقد ظلّ الخيال بعيداً عن قبضة اليد الباحثة عن إضاءة محجّات الوصول إليه، ووضع العلامات البانية لماهيّته، وظلّت – كذلك - زحزحة الحدود بين الخيال والتّخييل والتّخيّل تعيش لذّة العتمة الّتي تنشر بهاءها بين المبدع والمتلقّي اللذين يمارسان لعبة الاتّصال والانفصال في بناء النّصّ الإبداعيّ وفي إنتاج دلالته. ولعلّ الانتقال من وضعيّة الحديث عن المعطيات النّظريّة إلى قراءة النّصوص الإبداعيّة يضع المتلقّي في مشهد القراءة منقاداً بوهم الخيال حيث تنكتب نصوص الشّعراء، كون النّصوص الإبداعيّة لا تقول ما يجب أن ينقال، وبذلك تجعل مهمّة القارئ ماثلة في قراءة مالم يُقرأ، على اعتبار أنّ الكتابة والقراءة صنوان لعنوان واحد هو الكتابة المنجزة بفعل القراءة، والقراءة المنجزة بفعل الكتابة، فقد يجري هذا كلّه في منطقة الفراغ الّتي تغيب فيها الدّلالة ما لم يقد إليها الوهم المتّشح بثوب الخيال.
هكذا نجد الشّاعر مفتاح العمّاري مبحراً عبر الخيال، وهو يحاول الإفلات من سلطة العقل؛ ليشاطر الذّات رغبتها في البوح عن فعل ولادة الكتابة الشّعريّة من خلال القصيدة الموسومة بـ (( مسامير ))(1) والّتي تتقاسمها أربعة مقاطع شعريّة تتّسم بالاستقلاليّة والتّفاعل في آن، معربة عن قدرتها الفرديّة في تحقيق التّطلّع الشّعريّ، وفي تفاعلها الكلّيّ تجسيداً لكيان إبداعيّ يعلن عن صيرورة انبناء القصيدة وإنجاز فعلها الدّلاليّ الّذي يأخذ عمقه وامتداده من سلطة العنوان المحمّل بإرث معرفيّ قد يمتدّ في معناه إلى أوّل إنجاز حقّقه الإنسان بملامسة وعي الكتابة يوم اكتشف حرفها الأوّل.
تنمّ هاته القصيدة في مقاطعها الأربعة بأنّ هناك برزخاً شفيفاً بين الواقع والمتخيّل، بينهما فقط تولد هاته القصيدة الّتي تترقّب نموَّها الذّاتُ الكاتبةُ، متطلّعة إلى الإخبار عن هذا النّموّ بلغة الشّعر لا بسواها. وهذا لا يعني أنّ العمّاري يطمح لأن يقدّم بياناً لوظيفة الشّعر، إنّما هو منغرس في وعي القصيدة ومنابتها البعيدة الّتي لا يمكن ملامسة أهدابها الحالمة بعيداً عن التّخيّل الّذي يبقى فيه تكثيف حضور الذّات الكاتبة سرّاً من أسرار حركة النّصّ الشّعريّ وتعاقب دلالاته الملتفّة حول شجرة نسبها: القصيدة.
هنا والآن يمكن الاقتراب من مشهد الفتنة الجماليّة الّتي بذرها العمّاري ببذور اللذّة النّصّيّة المتطلّعة إلى بناء سحر المشهد الشّعريّ في الومضات البانية لهيكل القصيدة وروحها، منتظرة إعادة إنتاج ممّا هو آت لمصاحبة سيمفونيّة فتنة الخيال الّتي خطّ العمّاري حدودها بالكلمات:

1

هُنَا علّمني الشِّعر
السّفرَ داخل الغرفة
فصار وطني في لُغتي
كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ
وأعالجُ مساميرَه الصّدئة.(2)
إنّ انكشاف الصّورة في هذا المشهد لا يقدّم قراءة ناقصة وإن كانت هاته الصّورة عبوراً نافذاً للصّور الأخرى الّتي انبنت القصيدة بها. إذ إنّ التّصوّر الشّعريّ هنا يفضي بلذّة المشاركة بين الذّات الكاتبة وكتابتها المشيَّدة بالكلمات البانية لشكل النّصّ الخارجيّ، وبدلالاتها المنبثقة من داخل النّصّ، معلنة عن أسرار الارتباط بين الواقع والمتخيّل، ومن ثَمَّ بين النّصّيّ والخارج النّصّيّ، وأخيراً بين الوعي واللاوعي الممتدّين بين القصيدة وكاتبها.
هكذا تعرب هاته الومضة عن زمن الكتابة الّذي يقدّم دعوة الرّحيل للذّات الكاتبة إلى الكهوف السّرّيّة للقصيدة، حيث الكلّ ينبني بالكلّ، وإنّ النّظرة الجزئيّة لهاته الومضة لا تعني الانفصال، وإنّما هي تجسير لأفق الانتظار وامتداد له، فينبثق المعنى من بين أحضان الكتابة؛ لتنوجد الدّلالة في عناق قراءة النّصّ، إذ إنّ هاته الومضة تنتج معناها الخاصّ في بنائها، فتولد الدّلالة في أحداق الآخر الّذي يعيش شغب الانتظار المُنْتَجِ بفعل الكتابة ليتعلّم درس الكتابة الشّعريّة، وكيف عبّر عنه العمّاري بألفة المعاشرة وصخبها حين أفصح عن وظيفة الشّعر المجازيّة في هذا الانبناء وكيف أنّ ( السّفرَ داخل الغرفة ) يعني الرّحيل داخل الذّات الكاتبة، ليكون وطن الشّاعر مصوغاً بشغف التّحوّل حين تغدو اللغة وطناً، ويصير الوطن لغة:( فصار وطني في لُغتي ) فيعود الشّاعر إلى ذاته ليتأمّل بعينين مغمضتين باطنه الشّعريّ؛ ليتمكّن من الإمساك بأهداب الخيال المهاجر بعيداً في لغة الشّعر:( كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ ) حيث المنبع الأوّل للغة الكتابة:( وأعالجُ مساميرَه الصّدئة ) معلناً أنّ هناك وعياً في الخارج الذّاتيّ قادراً على الاستجابة لإضفاء بهجة المشاركة بين الدّاخل والخارج؛ ليكشف الشّعر من الدّاخل عن سرّ وجوده، وكأنّه يرصد المشهد من الخارج بعين لها قدرة النّفاذ، مبرهناً على أنّ الحديث عن الكتابة الشّعريّة هو انبناء باللغة، وحضور لها عبر شرائط فعاليّة التّخيّل الّتي لا تغيب عنها تشوّفات الذّات الكاتبة.

2
خائباً وحزيناً
أقفُ على رصيفٍ صاخب
أنظرُ إلى النّساءِ الجميلات
وهنّ يعبرْنَ من دوني.(3)
يفصح هذا النّصّ بأنّ العمّاري لا يشعر بعقدة النّقص وهو يمارس فعل البوح بمعاناة الذّات الكاتبة ومكابدتها في القبض على أضواء القصيدة الفارّة من قبضة الرّوح، تاركة إيّاها تعيش حالة صراع هائل كأنّه الهذيان، على الرّغم من أنّ الشّاعر قد اعتمد نظاماً لغويّاً خضوعاً لمنطق النّحو في توصيف الأشياء، (( لأنّ منطق النّحو في حديث اللغة عن الأشياء، لا يحوّل اللغة إلى أشياء، ولكنّه يحوّل الأشياء إلى لغة. وبذلك يحافظ نظامها على ذاته، ويكتسب صحّة من أدائه وإنجازه.))(4) هاته هي العتبة الأولى للانبناء اللغويّ الّذي مارس تنفيذه الشّاعر، بيد أنّ القراءة المعمّقة تعانق العتبة الثّانية للانبناء اللغويّ، فتجد الشّاعر قد استخدم لغة المجاز لبناء الصّورة الشّعريّة المفصحة عن هذا البوح، لأنّ الشّاعر لم يُقدِم على الوصف المباشر للأشياء، وإنّما جنح إلى الرّمز الّذي يُعدّ (( أداة لتوصيل تجربة المؤلّف الثّريّة للحياة.))(5) حيث يكشف عن أعماق الإنسان وأنّاته الدّفينة الّتي تعانق الكون وامتداداته داخل الزّمان وخارجه، (( وتمتدّ المعرفة الرّمزيّة إلى كلّ ما يمكن أن يعرفه الإنسان.))(6) مادامت الذّات الإنسانيّة قادرة على ارتياد المجهول.
من الملاحظ أنّ الشّاعر يبدأ هاته الومضة الشّعريّة معبّراً عن حالة الذّات الكاتبة الّتي تنتظر حالة التّداعي بشغف وألم، وكأنّها تقف على جمر التّرقّب الّذي تحلّ فيه الكلمات ضيفاً حميماً على مباهجها المفتقدة، بيد أنّ هاته الكلمات الّتي يطارد الشّاعر أطياف زمنها تمرّ دون التّلفّت إليه:( أنظرُ إلى النّساءِ الجميلات/وهنّ يعبرْنَ من دوني ). هكذا جنح الشّاعر إلى لغة المجاز ليحمّل نصّه بعداً رمزيّاً ينحاز فيه الواقع إلى الخيال؛ ليكتسب سمة الشّعريّة الّتي هي تجسيد لحواسّ الشّاعر ووجود أوّليّ لفعل الكتابة، فتكون – حينئذ – هاته الومضة الشّعريّة انكشافاً لحالة الذّات الكاتبة وسفرها في أمواج الخيال الّتي يلتقي فيه الخاصّ بالعامّ، والفرديّ بالجماعيّ؛ ليتجذّر الجميع في تربة الكتابة الشّعريّة الّتي لا تبادلهم فيها لغة الشّعر أنخاب السّمر، لأنّها لا تتخصّب بعيداً عن فعل المعاناة.



3
أُحبّكِ وأنتِ حارّة
وأنت غاضبة
تتقدّمكِ العواصفُ
وأنتِ مشغولة بصخبِ المهرّجين
غافلةً أَلَم الشَّاعِر
الّذي يمْلأُ فراغكِ بالموسيقا
ويحيكُ غيابَكِ
بإبرةِ الخيال.(7)
لم يركن الشّاعر إلى ظلّه البارد، ويتأمّل رحيل قافلة الكلمات بتذمّر وإعياء، وإنّما يلتذّ باحتضان حبّات غبار رحلتها المتطاير متلمّساً فيه حرارة القصيدة واتّقادها، وربّما توحي الأبيات الخمسة الأولى من هاته الومضة بسمة سايكولوجيّة وشمت الشّخصيّة العربيّة الّتي تحبّ الفرس الجموح، هذا ما كان يقوله العربيّ وهو يبحث عن ظلّ حبيبة قد لا يرى لها طيفاً في الخيال، بيد أنّ هذا لا يعني بالمفهوم السّايكولوجيّ أنّ أصحاب هاته الرّؤية هم ماسوشيّون(8) يلتذّون بالألم، وربّما هي لذّة المعاناة الّتي يعيشها العاشق – الشّاعر لحظة المكابدة للوصول إلى الحبيبة – القصيدة وإن كانت ترفل بالتّمنّع واللامبالاة حالمة بنرجسيّتها الحميمة. من هنا نجد الشّاعر يعبّر تعبيراً دقيقاً عن حالة الذّات الكاتبة في الأبيات الثّلاثة الأخيرة لهاته الومضة، والّتي تُعدّ امتداداً واستجابة للأبيات السّابقة، فيكون المعطى الشّعريّ مركّباً من السّلب والإيجاب، وربّما ينصهر هذان العنصران في بوتقة الممارسة الشّعريّة؛ ليكونا عنواناً لكتابة القصيدة الّتي تمتصّ ماء وجودها من سحر شهدهما الحافل بالملمح النّفسيّ للكتابة وللكاتب معاً.
4
في هذه القصيدة
ثَمّة قَتلى يمرحون
ترتدي رُفَاتُهم
أحذيةً جديدة.(9)
تنطوي هاته الومضة على ثلاث مفارقات هي: التّقريريّة، والخيال، والوهم، إذ تشكّل مجتمعة البناء الفنّيّ لهذا النّصّ بمستويات تأخذ شكلاً متبايناً بحسب القراءة الّتي تستدعي الملاحظ إلى فضائها. فالتّقريريّة جاءت خضوعة لسلطة الوعي، وللتّدفّق الشّعوريّ الّذي انقاد له الشّاعر، حيث لم يتمكّن من مسايرة حركة القصيدة الدّاخليّة، والحفاظ على أسرارها، فصرّح باسم الكائن الّذي يشاركه لذّة التّدفّق:( في هذه القصيدة ) ويكون بهذا قد ألغى تذاكر دعوة المتلقّي الباحث عن أسرار النّصّ والكشف عن أعماقه، فانزلق المشهد من الغموض إلى الوضوح، وهاته مؤاخذة تُسجّل على الشّاعر، لأنّه لم يتمكّن من حبس أنفاسه داخل حركة النّصّ الّتي تضاهي حركة النّفس الدّاخليّة، لكن هاته الملاحظة لا تسلب كلّ شيء من يد الشّاعر، لأنّ المفارقة الثّانية ( الخيال ) مفعمة بالشّعريّة حيث ترتقي بالنّصّ إلى قمّة الهرم الشّعريّ، إذ في الخيال لا في سواه ينصهر كلّ شيء، هذا ما تجلّى في البيت الثّاني:( ثَمّة قَتلى يمرحون ) حتّى إنّه يقود القصيدة والقارئ معاً إلى المفارقة الثّالثة ( الوهم ) الماثلة في البيتين الأخيرين:( ترتدي رُفَاتُهم/أحذيةً جديدة ). وهنا يكتمل البناء الكلّيّ للنّصّ الّذي كان فيه مفتاح العمّاري دليلاً للقراءة الباحثة عن دلالة النّصّ، لأنّ العمّاري عرض وعياً شعريّاً قائماً على ثنائيّة البوح والتّأمّل الّتي تعانق فيها القصيدة حدود الوجود، فتولد محمّلة بالومض الشّعريّ الّذي لا يُنجز إلاّ بالخيال.
إذا كان الشّاعر دليلاً للقصيدة وللقارئ؛ القصيدة نحو انبنائها، والقارئ باتّجاه القبض على دلالات هاته القصيدة، فهذا لا يعني أنّ الشّاعر يعيش خارج أسوار النّصّ، فهو بعد أن تخطّى العتبة الأولى ( التّقريريّة ) يكون قد عاش في أتون اتّقاد القصيدة وتوهّجها الدّاخليّ، فتتحقّق – وقتئذ - كينونة النّصّ الشّعريّة المتّجهة نحو الخفاء: الغموض. وبين هذين العنصرين يتجلّى اللقاء الشّعريّ المتمثّل بالشّاعر والنّصّ والقارئ، فيسهمون معاً في بناء لذّة المشاركة المعبّأة بالتّجربة الشّعريّة المكوكبة بالإشارات والرّموز والإيحاءات، الأمر الّذي يجعل هاته القصيدة - بنصوصها الأربعة - متقدّمة نحو برزخها الشّفيف المتناوس بين الواقع والخيال. فإذا كان الواقع يجود بالمعطيات المادّيّة، فإنّ الخيال يوحي ويومئ ويثير الدّهشة والانفعال، فتأنس القراءة بمتابعة هالة الومض الّتي جادت وتجود بها قصيدة (مسامير) دون أن تبوح بكلّ أسرارها على الرّغم من حركتها التّصاعديّة الّتي تجعل الخيال فتنة للألق.


الهوامش:
1_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر ( شعر )، منشورات مجلس تنمية الإبداع الثّقافيّ_ الجماهيريّة، الطّبعة الأولى، 2004م، ص: 35. انظر ترجمة الشّاعر في عبدالله سالم مليطان_ معجم الأدباء والكتّاب الليبيّين المعاصرين، الجزء الأوّل، دار مداد للطّباعة والنّشر والتّوزيع والإنتاج الفنّيّ، طرابلس، الجماهيريّة العربيّة الليبيّة الشّعبيّة الاشتراكيّة العظمى، الطّبعة الأولى، 2001م، ص ص: 285_286.
2_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر، مصدر سابق، ص: 35.
3_ المصدر السّابق، ص: 36.
4_ منذر عيّاشي_ الكتابة الثّانية وفاتحة المتعة، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت_الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1998م، ص: 53.
5_ ج. روبرث بارت، اليسوعي_ الخيال الرّمزيّ: كولريدج والتّقليد الرّومانسيّ، ترجمة: عيسى علي العاكوب، مراجعة: خليفة عيسى العزّابي، الهيئة القوميّة للبحث العلميّ، معهد الإنماء العربيّ، طرابلس_ليبيا، الطّبعة الأولى، 1992م، ص: 19.
6_ المرجع السّابق، الصّفحة ذاتها.
7_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر، مصدر سابق، ص ص: 36_37.
8_ الماسوشي masochist: المرء الّذي يتلذّذ بتعذيب يُنزله به رفيقه. تلذّذ المرء باضطهاد... إلخ يُنزل به، انظر: منير البعلبكي_ المورد: قاموس إنكليزي-عربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1998م، ص: 562.
9_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر، مصدر سابق، ص ص: 37_38.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هام لأولياء الأمور .. لأول مرة تدريس اللغة الثانية بالإعدادي


.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه




.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان


.. الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت في مهرجان -كان- بفستان بـ-ألو




.. مهرجان كان 2024 : لقاء مع تالين أبو حنّا، الشخصية الرئيسية ف