الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وَهَجُ الْبَوْحِ فِيْ قَصَاْئِدِ عَاْئِشَة إِدْرِيِس الْمَغْرِبِي

محمد عبد الرضا شياع

2008 / 5 / 9
الادب والفن


تُعَدّ الشّاعرة الليبيّة عائشة إدريس المغربي(1) واحدة من الأصوات الشّعريّة المعاصرة الّتي تمنح نصوصها ألقاً وتوهّجاً لا ينطفئان على شطآن القراءة، بل يجدّدان الدّعوة إلى الإبحار نحو أعماق القصيدة، دون أن يتخلّى القارئ عن لذّة التّلفّت إلى ضفاف هاته القصيدة حيث كان أوّل لقاء، إذ إنّ فتنة القصيدة المكتوبة بروح الإبداع تأبى البوح عند المصافحة الأولى، حتّى لو تحوّلت هاته المصافحة إلى عناق دافئ لظلال الكلمات، لأنّ وهجاً ما يتّقد في حروفها الممهورة بالتّشوّف، وبالرّحيل إلى سؤال الذّات.
لعلّ هذا الوهج الشّعريّ مرتهن بإنصات الذّات الكاتبة، وبحالة الألق الّتي تتملّك الشّاعرة فتستدعيها لكتابة نصّها، لا سيّما ذاك النّصّ المفعم بالومض الشّعريّ، فيرتسم شفقاً تنكتب عليه تطلّعات الإنسان الباحث عن بسمة شاردة تلوح – أحياناً - في ارتسامات الأفق.
من هنا نجد الشّاعرة تكتب مشاكسات رومانسيّة متّشحة بأنّات الذّات المعانقة للوجود في مجموعة من النّصوص المعنونة بـ (( قصائد ))(2)، وكأنّها ترسم لوحات تومض عبر ألوانها الدّافئة أسئلة الشّعر المنسابة كنهر امتدّ طويلاً في ليل القصيدة، حتّى إنّ القارئ وهو يغادر النّصّ يغمض عينيه فيرى تلك الكلمات مناجاة لعين داعبتها توّاً أطياف الرّغبة، لكنّ العيون الملتذّة بغفوتها ترفض الاستسلام لهمسات الحلم المدّثر برغبة الجسد وارتعاشاته المحمّلة بغبطتها المتمرّدة على كلّ اعتبارٍ لا ينسجه وعي الذّات، ذاك ما نقرؤه بدءاً في النّصّ الآتي:
1_ هكذا يريدني
يمدّ جسدي
مقهى للعابرين
نوّاراً في فصول الجليد
ثمرة تختبئ في أوراقها
توقف نموّها
تتهيّأ لمواسم القطاف
يمدّ جسدي
موقداً يشتعل
أرضاً تمتنع عن الارتواء
أوان المطر
موائد سمينة
وجوعاً معلّباً للصّعاليك
حبيبات يتلمّسن أسرّة باردة
خفقة قلب مؤجّلة
هكذا

يودّني هذا الرّجل.(3)
يبوح هذا النّصّ بهالة من الوميض المتدفّق الّذي يتنامى بشكل يهيّئ لطقس احتفال الذّات برفضها، وكأنّه مسيل نهر تعترض سبيله صخور تأبى المطاوعة والانقياد، حيث تتقاطع الأهواء ناثرة رغباتها على أرصفة التّفاصيل الّتي تحتضن زمان القول ومكانه، حتّى تستحيل الصّورة الشّعريّة - وفق هذا النّسق - إلى جمع بين عالمين متباعدين، تنمّطهما حركة الأفعال المتنامية بلهيب الحدس الشّعريّ الّذي يعلن عن حالة التّقابل بين المتضادّات، فتبدو الصّورة الشّعريّة وكأنّها ضوء يخترق المعتم ويعانق المجهول، ناشداً التّغيّر والإجابة في فضاء احتجاج مفتوح لا يعثر على حدوده إلاّ في البيتين الأخيرين من هاته القصيدة.
إنّ الشّاعرة عائشة إدريس المغربي كتبت هاته القصيدة بحزمة من الوميض المدجّج باحتجاج الأنثى، ورفضها الرّغبات الذّكوريّة المفروضة في غير أوان الابتهاج، موحية بأنّ وميض الكتابة يمتلك سلطة الممانعة وإن كان يكتب ماء القصيدة الأنثى، إذ إنّ سلسلة للرّفض القائم على البناء اللغويّ يشكّل صرخة احتجاج تكون الحركة فيها عموديّة بالقدر الّذي تغطّي فيه الصّورة الشّعريّة مشهد الأفق، وإنّ ذروة الاحتجاج تتجلّى في قول الشّاعرة:( هكذا / يودّني هذا الرّجل ) الّذي يحمل في ثناياه مفاتيح الرّفض الّتي تحتفظ بها دواخل الذّات المفعمة بفاعليّة الشّعور المتساوق وإيقاع القلب، من هنا تأخذ هاته القصيدة شكلها الخاصّ الّذي يجعلها ومضة مبنيّة من حزمة أضواء كاشفة المكبوت والرّغبات الدّفينة الّتي يضيؤها عنفوان الذّات المعتدّة برؤياها للعالم، وبقراءتها للكلام المركّب المتجاوز حدود معناه المقيّد بسلسلة العُرف والتّاريخ والمجتمع، وبذلك يتمّ (( تكامل الخبرة الدّاخليّة مع الواقع الخارجيّ ومتطلّباته.))(4) فيغدو الصّراع بين الذّات والآخر منشأ العمليّة الإبداعيّة، ومحفّزاً قوى اللاشعور الّتي تسجّل موقفها من الآخر.
هكذا تسعى الشّاعرة عائشة إدريس المغربي لتفعّل بنية المغايرة على العناصر المفروضة من خارج تخوم القصيدة، لذلك تمنح نصّها الثّاني عنواناً يتمتّع بسلطة التّمرّد الباذخة الّتي خبرتها القبيلة الجاهليّة في سلوك الصّعاليك الّذين اتّخذوا من عروة بن الورد أميراً لهم، وهم ينشدون بناء عالم مغاير يقترح تقاليده الخاصّة الّتي لا يمكن أن يصادرها الآخرون:
2_ عروة
يا أبا الصّعاليك
أعرني حذاءك كي أعرف الطّريق
انشر رداءك كي تحجبني
لقد فضحني هذا النّهار
أمام موتي يبحثون عن قبورهم
مات العراق.. لكنّه
نبت بنفسجة في القلب
وعلى خرائطهم اشتعل الرّطب.(5)
تعمّق الشّاعرة رؤياها في هذا النّصّ باحثة عن حرّيّة الإنسان المفتقدة في آفاق الكون، لذلك استدعت عروة بن الورد من أقاصي الصّمت؛ ليكون عنواناً باذخاً بدلالته لنصّها، غير مستبعد حضور الذّات الكاتبة في الصّورة الشّعريّة، (( لكنّ الصّورة في جدّتها، وفي انبثاقها، تستعيد البدائيّ والأبديّ. ووراء الصّورة نموذج مثاليّ يعبّر عن ذاته. وإذا لم تكن صدى الماضي، فالماضي البعيد يرنّ أصداء بتألّق صوره.))(6) وعليه فإنّ هذا النّصّ سيكون منظومة لغويّة مزدوجة المدلول، لأنّه (( ما من جملة واحدة في الأثر الأدبيّ تستطيع أن تكون تعبيراً مباشراً عن عواطف الكاتب الشّخصيّة، ولكنّها دائماً بناء ولعب.))(7) من هنا تتوغّل الشّاعرة في الجرح عميقاً حين تطلب من رمزها التّاريخيّ أن يعيرها حذاءه الّذي قد لا يمتلكه؛ كي تسلك طريق التّمرّد ذاته الّذي سلكه الصّعاليك يوماً ما وهم يشيّدون عوالم الإبداع، حينئذ تكون الشّاعرة قد جمعت الماضي والحاضر والمستقبل في قبضة الذّات المتطلّعة إلى عناق الدّاخل والخارج رافضة الاستسلام لمشهد الغروب الملبّد بأوهام النّهار حين تَطْلُبُ من الرّمز ذاته ثانية أن يمنحها رداءه، وهي تشخّص أوجاعها مستبعدة إلغاء الذّات ومطوّحة بالاستسلام لليأس، لتهيّئ عبر الكتابة الشّعريّة الجسد والذّهن معاً لولادة تومض بها حروف القصيدة المتّقدة بنيران الأسئلة الشّعريّة، الّتي تمنح رأي كارل يونغ واقعيّته من أنّ المبدع (( شخص يشرق عليه كلّ شيء في ومضة، ذو قدرة مميّزة هي الحدس. وعن طريق الحدس يتمّ الإسقاط في رموز. والرّمز هو أفضل صيغة ممكنة للتّعبير عن حقيقة مجهولة نسبيّاً.))(8) بيد أنّه على الرّغم من أنّ الرّمز الّذي وظّفته الشّاعرة لم يكن رمزاً مستحدثاً إلاّ أنّه كان ذا إشعاعات تتلمّس أنّات الذّات الإنسانيّة الرّاجفة بتشوّفاتها المشتركة بين المبدع ومحيطه الخارجيّ.
بهذا تضيء الشّاعرة محجّاتها المتّجهة نحو الذّات؛ لتكتب على ضفافها إيقاع الجسد المتوضّئ بلغة الشّعر؛ لتنسج الكلماتِ الكلماتُ، فتعلن الشّاعرة الـ:
3_ عصيان
أيّها الولد الشّقي
امرأة أنا
تهزمك أنهار حنيني
تشرع ضدّي إلهاً
يحرس أسوار جليدك
وقلبي عصفور عاصٍ
تدميه فيخفق.(9)
هنا والآن تكتب الشّاعرة - بشفاه يندّيها طوفان الرّغبة - مداعبات امرأة تذيب بحرارة عاطفتها جليد الآخر المدّثر ببرد قسوته، فتبقى قوّة الذّات متجلّية في الصّورة الشّعريّة الّتي تشقّ طريقها عبر انفعالات اللاوعي حيث تستقرّ هناك دائماً الرّغبات، فتكتشف هاته الرّغبات طريقاً آخر يأخذها من اللامحسوس إلى المحسوس الّذي يكون فيه الآخر شريكاً في تشييد هذا الاكتشاف، حاملة - في الآن ذاته - هواجس الدّاخل إلى الخارج، معلنة التقاء الرّؤيا بالرّؤية عبر أطياف تجاوزت سرّ الاختفاء.
يظلّ هذا الاختفاء هو الآخر منذوراً بهاجس الرّغبة واتّقادها، لائذاً في ظلّ سؤال يحمل قلق الذّات وانشداهها في القبض دائماً على تفاصيل الرّغبة ولذّتها، والّتي تجد في بهاء الطبيعة روعة المثال، فتتساءل عائشة إدريس المغربي في قصيدة:
4_ الورد
حين يموت اشتهاء الورد
من يوقظ شهوتنا ؟(10)
فتضعنا أمام وقفة سايكولوجيّة تدعونا لقراءة اللاوعي، حيث مخاوف الذّات تهجع دائماً في الأعماق حتّى وإن بدت الرّغبة واعية، لأنّ علائق اللاوعي والوعي تجسّرها وشائج مصاهرة تبقى متّصلة بالخارج الّذي يتحكّم كثيراً بتفاعلات الدّاخل، فجاء السّؤال ملبّداً بغيوم الشّعريّة الملمّحة إلى تهشيم أسوار الكبت المكبِّل بجدرانه إشراقات الرّغبة فتموت على تخوم الاشتهاء.
يُعَدّ سؤال الشّاعرة سؤالاً مخاتلاً محمّلاً بلذّة البوح رغم خضوعه لشروط الشّعر المتّسمة بالغموض، هذا الغموض الّذي يجعل من الومضة شعاعاً لسراج تتسرّب من بين أنامله أنوار القول اللائذ بالصّمت؛ ليعلن أنّ هناك أمراً ما يتطلّع إليه النّاس، ألا وهو الحبّ الّذي قال فيه أندريه بروتون: (( فالتّطلّع الأقوى لدى النّاس، هو أن يعيشوا حبّاً وحيداً، حبّاً مجنوناً.))(11)، فإذا كان الحبّ مجنوناً فلابدّ أن يكون خضوعاً لاشتهاء الرّغبات، والّتي يرى بروتون أنّ (( تحرير الرّغبات يعطي الطّاقة الضّروريّة لتحقيق ما ليس غالباً سوى المثال.))(12) فهل تمكّنت عائشة إدريس المغربي من طرح السّؤال الشّعريّ لتعانق من خلاله حدود المثال، فتقوّض نظريّة أنّ الحبّ إذا بلغ غايته تلاشى ومات ؟ هذا سؤال يومض إلى حزمة من التّأمّلات المنوطة أبداً بالمتخطّين عتبات قهر الذّات، فهم وحدهم يكتبون حروف الإجابة، فيشاركون الشّاعرة كتابة قصيدتها.
إنّ المشاعر لا تنطفئ إذا ما عانقت خطاها دروب الانتظار، لأنّ الذّات تجدّد حضورها مرسوماً بدموع الاحتراق، وضربات القلب الرّاجف كالوتر المجروح بريشة الوداع المنصهر في بوتقة الرّوح وإن كان مكتوباً بتلويحات الأيدي المتوضّئة بنور القلب، هكذا تقول الشّاعرة:
5_ بكاء
حين شرع القلب في البكاء
تسرّب النّهار من يدي
وارتسم عشرين وداعاً.(13)
هذا هو بكاء الدّهشة القابضة على مباهج الأمل المنفلت من رعشة الخوف، هكذا ناموس الامتلاك، حيث تظلّ مباهج القلق صنواً لبقائه الجميل، فإذا ما تمكّن وجع الافتقاد من صاحبه، صار صيحة لتلويحات الوداع، فيهفت النّهار مرتسماً تلوينات أطياف في أضوائه الهاربة، لكنّ هذا الأمر لا يتحقّق إلاّ بنزول الذّات إلى ظلّ الدّاخل ومعايشة قواه النّفسيّة المضطربة، والّتي لابدّ لخبرات الماضي من الحضور في جوهرها المغيّب خلف تضاريس الزّمن، فيظلّ – وقتئذ - إدراك الأمل المفتقد طيفاً عالقاً بأهداب الحلم، لأنّ الحياة امتثال لجدليّة الواقع والمتوقّع، والحضور والغياب، من هنا تقول عائشة إدريس المغربي:
6_ حياتي
بذرت ملاذي
عشباً طريّاً برائحة الحنّاء
استعرت ضجيج النّهار لوسادة الليل
خبا مصباح الذّاكرة
فأضاء بنفسج القلب
ذاكرة التّواريخ المنسيّة
تلك هي حياتي الخاصّة.(14)
يُعدّ هذا البوح تلميحاً لما يجري هناك في أعماق الذّات، فالذّات - هاته المرّة - تقبض على خارجها عبر الدّاخل الّذي يطوّح بغربته الوجوديّة، لأنّه متصالح مع آخَرِه، وبذلك يسجّل الحضور أبجديّة الغياب على خارطة الرّوح المنثورة في دروب العمر طيباً وحنّاء، فيصبح الغياب حضوراً عبر تفاعل حميم بين الصّوت والصّمت الّذي يرفض الاختباء عن شعاع النّجوم، مصاحباً العتمة إلى خارطة الكشف المأخوذ بدهشة إضاءة الذّات وانشطارها القابع في بهاء الرّوح، راسماً لما يجب أن ينقال تقويماً للزّمن ومسكناً أليفاً للأمل..
لقد كثّفت الشّاعرة تعدّد الدّوال في نصّها عبر تطويع المدلولات اللغويّة، إذ إنّها تمارس غواية امتلاك مفردات الزّمن، فلم تجعل الذّات موضوعاً له بالمعنى الفسيولوجيّ، وإنّما يبدو الزّمن هو الأكثر تحوّلاً من سواه في منظومة العناصر البانية للنّصّ، حتّى إنّ (( كلّ شيء يتغيّر ويغدو الطّابع المظلم هو الطّابع المنير ))(15) مادامت الذّات الكاتبة هي الفعل والفاعل في الآن ذاته، لذلك يمكن القول: (( إنّ المحور الزّمنيّ العموديّ على الزّمن المتعدّي، زمن العالم والمادّة، هو محور يمكن للأنا أن يطوّر فيه نشاطاً شكليّاًً. ))(16) وهذا ما فعلته الشّاعرة حين بنت شعريّة النّصّ على ماهيّة التّحوّل الزّمنيّ الّذي ظلّت هي المهيمنة فيه بوصفها اللاعب الوجدانيّ في صيرورة الحدث، بيد أنّ حضور وهج الذّات لا يعني انطفاء الآخر، لأنّ البوح الحقيقيّ لا ينوجد خارج سلطة الحوار، هكذا تقول الشّاعرة في قصيدة:
7_ رشا
حدّثتني رشا فقالت:
همست سحابة لغيمة
النّهار مبتلّ حتّى ركبتيه
فلماذا المطر ؟(17)
توحي هاته الومضة بشعريّة الدّهشة الّتي ينمّطها هدوء الحوار، وأشدّد هنا على لفظة ( هدوء ) لأنّه حقّاً كذلك مادام الحوار يقوم على الهمس، لكنّ الفعل ( همست ) يحمل شغب الدّلالة، وكأنّه يخفي سرّاً تشي به أصوات الحروف البانية لفعل الحوار، وفي هذا يتجسّد صخب البوح النّاجز عبر سيرورة الانزياح الّذي هو من سمة الشّعر والدّليل عليه وإليه في آن. ولعلّنا ندرك هذا الزّعم من خلال الثّنائيّة المتجانسة: ( سحابة - غيمة ). فإذا ما عاينّا المعنى اللغويّ لهاتين المفردتين، فإنّنا سنجدهما تحملان دلالة واحدة تقود القارئ إلى (المطر) الّذي يشكّل ولفظة ( مبتلّ ) بؤرة النّصّ، وينتجان معاً دلالته الكبرى المتحقّقة في همس أنثيين في الوقت الّذي ترصد فيه عيونهما الآخر المتجلّي في مرآة الهمس...
لقد اتّصف الشّعر الحديث عموماً بالثّنائيّات الضّدّيّة، لكنّ اللافت في هذا النّصّ أنّ الثّنائيّة فيه تقوم على التّجانس، وفي هذا تكون قد خالفت الفهم القائل: إنّ المفردة الشّعريّة تشرعن وجودها الدّلاليّ بتعانق الأضداد، لكنّ ظاهر البناء اللغويّ لا يوحي عبر تجانسه بذاك، غير أنّ السّياق الدّلاليّ يكشف عن بنية عميقة تحكي المغاير، كون المعطى الأوّليّ للقول الشّعريّ يخبر المتلقّي بحوار بين اثنتين ( جنس واحد ) في حين يتمثّل مقصد الحوار في تشخيص الآخر، وبذلك تعثر القصيدة على دلالتها المنتظرة.
هكذا تتّضح الصّورة الشّعريّة همساً وليس بوحاً، إذ تريد الشّاعرة القول ضمناً إنّ السّحابة والغيمة بدل من المتحدّثتين بالبعد الدّلاليّ لا النّحويّ، وقد جاء اختيار الشّاعرة مبنيّاً على ما تحمله كلتا المفردتين من إيحاء بالأنوثة أوّلاً، وبالعطاء ثانياً، وكأنّها تهمس لثانيتها بأنّها أغدقت عليه ( الآخر ) بما ينبغي أن يكون فلماذا يرنو إلى الضّفّة الأخرى ؟ وبهذا يكون البوح بين ذاتين تلميحاً لا تصريحاً حملته القصيدة ملوّحاً في علامة السّؤال الدّالّ الأكبر في هذا النّصّ.
لقد كتبت الشّاعرة عائشة إدريس المغربي نصوصها بوهج البوح المبتلّ بصرخات شعريّة آتية من هناك، من أعماق الذّات الّتي تأبى الإفصاح بعيداً عن لغة الشّعر ودلالاتها المتّخذة التّلميح ممرّاً سرّيّاً لأسئلتها المعلّقة بين الأنا والسّوى، كون إجاباتها لا تفارق اكتواء القراءة بحرارة تلك الأسئلة الّتي تظلّ عنواناً أثيراً للكتابة والقراءة في آن، ولكلّ ما يحتضن الهمّ الإنسانيّ ويقبض على جمرته بالصّمت وبالتّنهّدات المختفية في ضوئها متاهاتُ الذّات، حيث لا يمكن ولوج ممرّاتها بعيداً عن التّحديق في ليل الدّلالة المحمولة على أجنحة قصائد الشّاعرة المنذورة بالتّوهّج الماثل في قطع أفق الانتظار. من هنا تجد مصاحبة النّصوص دهشتها في الكشف عمّا لاذ في عتمة الحوار الّذي تنتظمه الكلمات بين حروفها الملتذّة بانتمائها السّعيد إلى جغرافيّة الإبداع.

الهوامش:
1_ انظر ترجمة الشّاعرة في عبدالله سالم مليطان_ معجم الأدباء والكتّاب الليبيّين المعاصرين، الجزء الأوّل، دار مداد للطّباعة والنّشر والتّوزيع والإنتاج الفنّيّ، طرابلس،2001م، ص: 415.
2_ عائشة إدريس المغربي_ أميرة الورق، الدّار الجماهيريّة للنّشر والتّوزيع والإعلان، مصراتة، الطّبعة الأولى، 1998م، ص: 11.
3_ المصدر السّابق، ص ص: 13_14.
4_ قاسم حسين صالح_ الإبداع في الفنّ، دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة، بغداد، الطّبعة الثّانية، 1986م، ص: 14.
5_ عائشة إدريس المغربي_ أميرة الورق، مصدر سابق، ص: 15.
6_ جان لوي كابانس_ النّقد الأدبيّ والعلوم الإنسانيّة، ترجمة: فهد عكّام، دار الفكر، دمشق، الطّبعة الأولى، 1982م، ص: 58.
7_ المرجع السّابق، ص: 91.
8_ قاسم حسين صالح_ الإبداع في الفنّ، مرجع سابق، ص: 20.
9_ عائشة إدريس المغربي_ أميرة الورق، مصدر سابق، ص: 16.
10_ المصدر السّابق، ص: 17.
11_ إيفون دوبليسيس_ السّورياليّة، ترجمة: هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت_باريس، 1983م، ص: 119.
12_ المرجع السّابق، الصّفحة ذاتها.
13_ عائشة إدريس المغربي_ أميرة الورق، مصدر سابق، ص: 18.
14_ المصدر السّابق، ص:19.
15_ غاستون باشلار_ جدليّة الزّمن، ترجمة: خليل أحمد خليل، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، الجزائر، الطّبعة الثّانية، 1988م، ص: 86.
16_ المرجع السّابق، ص: 118.
17_ عائشة إدريس المغربي_ أميرة الورق، مصدر سابق، ص: 20.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في