الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدنيّة الوحش

صبحي حديدي

2008 / 5 / 6
حقوق الانسان


كما كانت الحال في كتابه الأوّل "الأجهزة الخاصة، الجزائر 1955ـ1957: شهادتي حول التعذيب"، 2001؛ وكتابه الثاني "من أجل فرنسا: الأجهزة الخاصة 1942ـ1954"، السنة ذاتها؛ وكتابه الثالث "لم أبحْ بكلّ شيء: اعترافات قصوى في خدمة فرنسا"، الذي صدر قبل أيام؛ هل يتوجّب أن تدهشنا اعترافات بول أوساريس، الجنرال الفرنسي المتقاعد وأحد كبار جلاّدي الشعب الجزائري؟ أميل شخصياً إلى استقبال أقواله دون أدنى عجب أو تعجّب، وتستوي عندي اعترافاته التي تخصّ تعذيب وتصفية المناضلين الجزائريين (العقيد العربي بن مهيدي، في المثال الشهير) خلال السنوات الأخيرة من عقود الإحتلال الفرنسي للجزائر؛ أو تلك التي تضيف اليوم المزيد من التفاصيل البشعة، بل تكشف النقاب عن "سكوب" جديد عرفنا له سوابق عتيقة كثيرة، مفادها أنّ الدولة الفرنسية دفعت، سنة 1977، عمولة لسمسار يقيم في بوليفيا، لقاء تسهيل صفقة أسلحة فرنسية للجيش النمساوي، رغم أنّ هوّيته الحقيقية كانت قد افتُضحت قبل سنوات: الضابط النازيّ السابق كلاوس باربي!
ولعلّ الذين سيأخذهم العجب إنما يتساءلون، عن حسن نيّة غالباً: ولكن... أليست هذه فرنسا، بلد ثورة 1789، حاضنة مبادىء الحرّية والمساواة والإخاء، مهد حقوق الإنسان، ساحة الأنوار؟ لا ريب أنها هذه كلّها، ولكنّ الذي تغاضى عن جرائم أمثال الجنرال أوساريس لم يكن سوى فرنسوا ميتيران: وزير العدل الفرنسي آنذاك، والزعيم الإشتراكي لاحقاً، وأوّل رئيس يساري في الجمهورية الخامسة. لا شرعة حقوق الإنسان نفعت، ولا فلسفة جان جوريس ملهم الإشتراكيين الفرنسيين لجمت، ولا بنود القانون ردعت. النصوص (فلسفة كانت أم أقانيم دستورية) كانت في واد، والساسة والجنرالات كانوا في واد آخر.
كذلك فإنّ الشطر الإستعماري ـ الإستيطانيّ من التاريخ الأوروبي يحفل بالآلاف من أمثال الجنرال أوساريس، وأقصد الرقم حرفياً: الآلاف، وليس المئات فقط. إنهم إسبان في الأمريكتَيْن وسائر "العالم الجديد"، وفرنسيون في الجزائر، وبريطانيون في الهند، وبلجيكيون في الكونغو، وبرتغاليون في أنغولا، وهولنديون في جنوب أفريقيا... الإسبان أبادوا قرابة 70 مليون "هندي أحمر"، كما ستصبح تسمية أبناء الأقوام الأصلية؛ وفي ذمّة الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، وحده، أكثر من عشرة ملايين أفريقي كونغولي، قضوا في سخرة صيد العاج؛ ولائحة أهوال الإستعمار الغربي تنطوي على صفحات من البربرية العارية المفتوحة، تتجاوز بكثير حدود ما يمكن أن تشمله العبارة الشهيرة: «جرائم بحقّ الإنسانية».
ومن جانب ثانٍ، رديف وقائم ومتواصل، هل انطوت تلك الصفحات حقاً؟
أيّ فارق كبير بين عمليات الإبادة الجماعية التي تعرّضت لها شعوب بأكملها على يد القوى الغربية الإستعمارية في القرون الماضية، وعملية الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الشعب العراقي طيلة سنوات الحصار، ويتعرّض لها اليوم أيضاً جرّاء الإحتلال الأمريكي؟ وكيف تبرّر الإنسانية المعاصرة كلّ هذا الموت الفلسطينيّ اليوميّ المجّاني، وكلّ هذا التجاسر على أبسط حقوق النفس البشرية، وكلّ هذه الوحشية العارية؟ وأيّ فارق كبير بين تواطؤ الدول الكبرى آنذاك، على تقاسم مصائر الشعوب المستعمَرة مثل أرضها وثرواتها، وتواطؤها اليوم على إغماض العين عن البربرية الإسرائيلية، بل ومباركة انفلاتها من كلّ عقال؟ وهذه الأيام بالذات، في مناسبة الذكرى الستين لنكبة الشعب الفلسطيني، ماذا يفعل الغرب إزاء إمعان البرابرة إياهم في تنفيذ نكبات جديدة، واحدة تلو الأخرى، في غمرة استهتار بالقانون الدولي أشبه بالرقص الوثني حول جثة الضحية؟ ألا يبدو برابرة إسرائيل الراهنة وكأنهم تحرّروا حتى من ذلك الحرص الكاذب على حرمة قتل الأطفال والرضّع؟
هو حاضر يعود القهرى إلى الماضي، ثمّ يرتدّ منه بعد أن يهتدي به، ليعيد إنتاج أخلاقيات الهمجية القديمة، تحت مسمّيات تمدين وتمدّن ومدنية شتّى. ومنذ القرن الثامن عشر كان الأسكتلندي آدم سميث، مؤسس علم الإقتصاد السياسي، هو الذي عزى تفوّق أوروبا السياسي والإقتصادي والعسكري إلى ابتكارها ثقافة العنف، وتحويلها الحرب إلى علم، وإلى استثمار. وفي القرن ذاته كان جورج واشنطن، أوّل رئيس أمريكي، هو الذي قال: «إنّ التوسيع التدريجي لمستعمراتنا كفيل بطرد الهمجيّ والذئب على حدّ سواء، فكلاهما وحش برّي وإنْ اختلفا في الهيئة». وأمّا في أواسط القرن اللاحق، فقد كان المشرّع الهولندي هوغو غروتيوس، مؤسس القانون الدولي الحديث، هو الذي قال دون أن يرفّ له جفن: «أكثر الحروب عدالة هي تلك التي تُشنّ ضدّ الوحوش. وثمة بشر يشبهون الوحوش»
من أسكتلندا إلى أمريكا إلى هولندا، إقتصاد وسياسة وقانون... وبالطبع، غنيّ عن القول إننا ـ أبناء الجنوب، أبناء المستعمرات، أبناء البلدان التي تحكمها أنظمة مستبدّة تابعة عميلة ـ نحن الذين نمثّل فئة الذئاب الهمجية التي تضطرّ المدنية الغربية إلى شنّ الحرب ضدّها بين حين وآخر. نحن الذين لن يسامحنا الإسرائيلي لأننا أجبرناه على قتل أطفالنا الرضّع، كما في قول إسرائيلي بذيء أوّل؛ ونحن «الوحوش الضارية الهائمة على وجوهها في الأرض المقدّسة»، كما في قول ثان؛ ونحن، أخيراً وليس آخراً، «أبناء الأفاعي الذين ندم الربّ على خلقنا»، كما في قول ثالث، حاخاميّ هذه المرّة.
وإذا كنّا هكذا وأكثر، فما المفاجىء في اعترافات الجنرال المتقاعد بول أوساريس؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق


.. هل يمكن أن يتراجع نتنياهو عن أسلوب الضغط العسكري من أجل تحري




.. عائلات الأسرى تقول إن على إسرائيل أن تختار إما عملية رفح أو


.. بعد توقف القتال.. سلطات أم درمان تشرع بترتيبات عودة النازحين




.. عادل شديد: الهجوم على رفح قد يغلق ملف الأسرى والرهائن إلى ما