الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الصدر ..مدينة البؤس والغضب

عبد الجبار منديل

2008 / 5 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


عندما قام عبد الكريم قاسم في نهاية الخمسينات وبداية الستينات بفرز عرصات سكنية وتمليكها لسكان الصرائف او لسكان ما كانت تدعى في حينه منطقة ( خلف السدة ) في بغداد، كانت تلك خطوة جبارة لإعادة الكرامة لمواطنين عراقيين قسى عليهم الدهر مع ان مساحة كل قطعة من تلك الأراضي كانت لا تتعدى ال 120 متر مربع . وقد حفظ سكان هذه المدينة التي سميت انذاك مدينة (الثورة) لعبد الكريم هذه المكرمة واستمروا حتى اليوم يحبونه ويجلونه وينظرون اليه باعتباره بطلهم الشعبي المحبوب .
كان ذلك قبل حوالي النصف القرن . الآن زادت اعداد سكان تلك الرقع السكنية اضعافاً مضاعفة واصبحت بيوت علب السردين تلك تضم ثلاثة اجيال بل واربعة اجيال . ووفقا لمعلومات غير موثوقة فإن البيت الواحد الذي كان يضم قبل خمسين عاما عشرة انفس اصبح يضم الان ما بين 30- 40 نسمة اي حصة الفرد الواحد هي ثلاثة امتار او اربعة امتارمربعة وهي نسبة من الإكتظاظ السكاني غير موجود في اي منطقة في العراق وربما في العالم . وهذا الوجود الكثيف للبشر في هذه الرقعة الجغرافية المحددة التي تضيق عليهم مع الزمن هو بحد ذاته مدعاة للضيق والنزاع والتفجر والعنف .
ان في مدينة الصدر مجتمع من الساخطين والمحرومين والغاضبين ليس فقط بسبب الإحتلال الأمريكي كما قد يتوهم البعض وليس فقط بسبب تغلغل التيارات الدينية المتطرفة كما قد يتوهم البعض الأخر وليس فقط بسبب قيادات متطرفة بل انه بالدرجة الأولى بسبب معايشتهم للبؤس في كل مفصل من مفاصل وجودهم .
لا يمكن ان نطالب بشرا يعيشون في القرن الواحد والعشرين ويشاهدون يوميا عبر الشاشة الزرقاء البذخ الذي يعيش فيه الناس في العراق وخارج العراق ان يستكينوا وان يتصالحوا مع قدرهم الصعب ومع وضعهم المأساوي وان يرضوا بما قسم لهم او كتب عليهم . انهم سوف يعبرون عن غضبهم بكل الوسائل وسوف نجدهم جاهزين دائما لتأييد كل عصيان او تمرد وسنجدهم جاهزين ايضا لأن يرحبوا بكل خطوة نحو السلب والنهب والفرهود . ان طاقة البشر على الصبر لها حدود . فإذا ما تعدت هذه الحدود فيجب ان نتوقع منهم كل شيئ .
اننا نتغنى بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية العقيدة وحرية التعبير الخ الخ. وكل ذلك شيئ جميل ولكننا يجب ان لا ننسى اننا عندما نتحدث عن مثل هذه الأمور لإنسان يعيش في بحر من طفح المجاري واكوام القمامة ولا يجد في بيته متنفسا لأن يعيش حياته الحميمية الخاصة فأننا كمن يتحدث عن اخر الموديلات والصرعات والأزياء امام قوم من الحفاة والعراة .
اننا يجب ان نؤمن لهم اولاً الحد الأدنى من العيش البشري الكريم ثم نتحدث لهم كما نشاء عن الديمقراطية والحرية وغيرها من المصطلحات الجميلة التي لا يمكن ان يفهمونها في الوقت الحاضر .
ان قادة القوات الأمريكية بتصوراتهم المحدودة وتفكيرهم ذو البعد الواحد الذي يحصر مشاكل العالم كلها في مسألة الإرهاب وبن لادن ونشاط القاعدة يقاتلون سكان مدينة الصدر ظناً منهم انهم بذلك يستأصلون جذور الإرهاب ويجففون مستنقعات الإرهاب ولكنهم واهمون انهم يمكن ان يقاتلونهم مائة عام ولكن ذلك لن يعمل إلا ان يزيد نار غضبهم ضراماً .
إن مدينة الصدر كانت دائماً مدينة ثائرة لا لسبب الا للظروف القاسية التي تحيط بها . كانت ثائرة في عهد الحكم العارفي في الستينات وقبل ان تكون هناك تيارات دينية وكانت ثائرة في عهد صدام وقبل ان يكون هناك احتلال امريكي . كانت في السبعينات والثمانينات والتسعينات . كانت دائما تجلب الصداع لكل العهود . وقد تفتق ذهن قادة النظام السابق عن حيلة لترحيل سكان هذه المدينة فزعموا ( سواء حقاً ام باطلاً ) بأنها تطفو على بحيرة من النفط لذلك فإنه سوف يتم ترحيل سكانها الى مكان اخر.
وكان السبب الحقيقي هو المتاعب التي تسببها هذه المدينة المتمردة للمسؤولين انذاك . وبالطبع عدلوا عن الفكرة لأسباب كثيرة منها خوفهم من ان ذلك سوف يشعل فتيل ثورة عارمة او انه قد يكلف الدولة ما لا طاقة لها به او انه قد يؤجج عمليات عنف لا يمكن السيطرة عليها .. الخ .
لقد دأب بعض المراقبين السياسيين على الربط بين مدينة الصدر والتيار الصدري او انها تمثل تياراً دينياً متطرفاً. والحقيقة ليست كذلك . ان مشكلة مدينة الصدر ليست مشكلة دينية بل انها مشكلة اقتصادية واجتماعية وسكنية ولو لم يجدوا في التيار الصدري ما يمكن ان يمثل بعض تطلعاتهم لخلقوا لهم تيارا خاصاً بهم . ولعل ما له دلالة في هذا الباب هو انه على رغم النداءات التي وجهها قادة التيار الصدري بالسلام والقاء السلاح ولكن مدينة الصدر بقيت ثائرة . انها ثائرة على عمليات التهميش والإقصاء التي امتدت عدة عقود وهي ثائرة على عمليات التطويق والعزل التي ما فتئت تحاصرها اجتماعياً واقتصادياً . فهي تمثل كتلة بشرية هائلة من المحرومين والمسحوقين الذين يبحثون عما يمكن ان ينفس عن غضبهم .
إذا لم يتم ايجاد حل حقيقي لسكان هذه المدينة البائسة من خلال خطط قصيرة الأمد وطويلة الأمد يتم خلالها التعجيل في الظروف الصحية والسكنية والمعاشية لسكان هذه المدينة سواء من خلال بناء مجمعات سكنية جاهزة وايجاد فرص عمل كافية ورفع المستوى المعاشي للسكان وتحسين خدمات الماء والكهرباء والمجاري فانها سوف تبقى دائما بركان غضب وتمرد وثورة ينعكس على الوضع الأمني في كل العراق .
إن مدينة الصدر تحتاج الى اجراءات عبد الكريم قاسم في حينه تجاه سكان الصرائف وانتشالها من الوضع المزري الذي هي فيه واجراء انقلاب حقيقي في نمط حياتهم وسكنهم والبيئة التي تحيط بهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى صحة وضع الثوم بالفريزر؟ ومتى يجب التخلص منه؟


.. رحيل عموتة عن تدريب منتخب الأردن.. لماذا ترك -النشامى- وهو ف




.. حرب الجبهتين.. الاغتيالات الإسرائيلية | #غرفة_الأخبار


.. ما دلالة غياب اللاعبين البرازيليين في الدوري السعودي عن -كوب




.. حزب الله يهدد إسرائيل.. من شمالها إلى جنوبها