الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شَهْقَةٌ .. حِينَمَا الرُّوحُ دَفْتَرْ

سَعْد اليَاسِري

2008 / 5 / 7
الادب والفن


شَهْقَةٌ .. حِينَمَا الرُّوحُ دَفْتَرْ
رواية : قليلاً .. وشهقة !
للروائيّة : هبة بوخمسين
قراءة : سَعْد اليَاسِري

مدخل :

الكتابة فعل إنساني في الأساس . لا تنطلق من نوايا استعراضية و لا تدخل – أو هكذا يجدر بها – في حسابات الربح والخسارة . الكتابة استرجاع لطفولة مفقودة , و شغب غير مأمون النتائج . الكتابة – حتى في منهج الصدمة – تنويرية , تؤسس – عبر النقيض - لقيم اجتماعية ينبغي لها أن تسود في النهاية . و الكتابة الروائية إن لم تحفل بكل هذا فهي ناقصة , وإن لم تحفل بشيء من هذا فهي من ألوان العبث .
لطالما آمنت بأنّ الإنسان سيّد السرد و إن كان غائبًا أو مهمّشًا (1) , و الواقع محور السرد . بتلك الرؤية أخوض – قارئًا - في عالم القصّة والرواية , فأقبل ما يتوافق مع إيماني آنف الذكر , و أرفض ما سوى ذلك دون أن أشعر بأنني أتجنّى على عمل بعينه , أو اسم لذاته . لكنّ المغامرة تكمن في أنّ الكثيرين يتهيئون في أنفسهم القدرة على كتابة طويلة يسمونها فيما بعد قصّة أو رواية أو مسرحية دون أن يمتلكوا من الأدوات ما يعضّد الحلم . و قلّة – فيما أرى – يكتبون أنفسهم , إنسانهم , واقعهم , حلمهم , خساراتهم , غرائزهم .. دون أن يثيروا الضجّة من حولهم , ودون أن يعلّقوا آمالهم على مشانق التسلّق .
هبة بوخمسين من النوع الثاني ؛ تكتب بشكل صادق دون ضجّة .. و لا تنتظر أكثر من طمأنينة روح و لو في أقصى الأرض , كي تقول في سرّها : الآنَ ؛ قمتُ بواجبي .


الرواية :

عن المؤسّسة العربية للدراسات و النشر – بيروت ؛ صدرت الرواية الأولى ( قليلاً و شهقة ) بعد مجموعتين قصصيّتين للقاصّة هبة بوخمسين , وتقع في مئتين وثلاث وعشرين صفحة من القطع المتوسط , تم توزيعها على فصول خمسة , بأسماء لا تخلو من الشاعرية و الروحانية .
( قليلاً و شهقة ) عمل يحتفل بتوظيف جديد نوعًا ما على الرواية العربية , و تلك مزية لا ينبغي تجاهلها برأيي , إذ أنّها توظّف ثيمة التقمّص والحلول وفق الإيمان ( الدرزي ) بشكل محترف , و هذه الموضوعة ليست مطروقة بشكل واضح في الأدب العربي بل وأزعم أن الحديث عن الأرواح و الماورائيّات برمّته لم يتواءم مع الرواية العربية حتى الآن , رغم أنها ثيمة من أرض الواقع , من صُلب الإنسان , و من أصل هاجس المجتمع .. !!
أودّ أن أشير بأنني لن أحرق ترابط الأحداث بمناقشتها مباشرة , و سأجتهد في تناول العمل دون مصادرة اللّذة ممّن لم يطّلع عليه بعد .

حراك الشخصيات :

يمكن تقسيم الشخصيات بالشكل المألوف إلى قيادي و تابع , غير أنّي لا أجد في هذا التقسيم ما يقترب من حقيقة النّص ؛ إذ أنّ (ليلي) الشخصية المحورية في الرواية تقوم على مصادرة الكثير من الأدوار .. بل و أنّها في السواد الأعظم من الرواية يكون حضورها إمّا ثالث ثلاثة أو ثاني اثنين .
هي فتاة شابة تتدرب على العمل الصحفي , ولدت لأم أميركية (ماريا) و أب كويتي (جعفر) كان طبيبًا ثم تحوّل إلى تجارة الأجهزة و المعدّات الطبيّة , وعشيقة لشاب كويتي (عادل) ابن دبلوماسي سابق و أم متسلّطة. تستذكر (ليلي) تفاصيل دقيقة من حياتها خلال حراكها أصلاً في واقعها المُعاش , فالعمر الزمني لأحداث الرواية لا يتجاوز أحد عشر شهرًا , فيما تمتد الذكريات و التفاصيل إلى عقود في بعض الأحيان .
(ليلي) شخصية تعرّف نفسها بنفسها في ص 100 :
(مع بدء سارّة الحديث الذي تداركتْ به صمتنا ، هربتُ سريعاً من توجسي ، هذا الخوف من "أن أعلم" المرافق دائمًا )
هي – بمنتهى البساطة - تخاف أن تعلم , و تعبر الكثير من التفاصيل مغمضة العينين في بعض الأحيان كي لا تعرف ما يخدش روحها ربّما .
فيما بعد ؛ يأتي حضور متوزان للشخصيات الأربع القيادية (سارّة | مريم , جعفر , عادل , ماريا) , ثمّ الشخصيات الثانوية (فيصل , شريفة , العُودة , العمّة رقية ) , ثم الأقل تأثيرًا مثل ( أحمد , أم فهد , إيلينا , ريتا , برّاك ... إلخ ) .
الرواية في المجمل تقوم على صوت الراوي البطل , الراوي الذي يستعرض لنا نشاط الشخصيات , و هو الدور المناط بـ (ليلي) , دون أن تصادر بعض المشاهدات التي تنطلق من قناعات شخصيات أخرى , و أرى بأنّ الروائية تعاملت بحكمة مع هذا المفصل .


سارة | الدروز :

البعض – وأنا منهم – ينظر إلى أن كلا الاسمين (سارّة | سارة) واحد , و البعض الآخر بسبب تراكمات تأريخية و دينية , يفصل بين (سارّة) التي تعني البهجة والسرور , و (سارَة) الاسم العبري ومعناه الملكة أو المتوّجة . و لهذا الاسم قوّة في الميثولوجيا الدينية , ولا أظنّ بأنّ الروائية غفلت عن قوّة حضوره في أدبيات المذهب – أو الطائفة – الدرزية .
يروي الدروز بأنّ (السيدة | الست سارة) تنتمي لقبيلة (طي) , و هي من أعلام الدعوة إذ أخذت على عاتقها بث أفكارها و نشرها بين الناس , وكانت تدعى بصاحبة العفّة والطهارة . (2)
و من هذا المنطلق انطلقت هبة بوخمسين في توظيف الاسم و تركيبه على شخصية قيادية في الرواية , شخصية تتحمل عبء التقمّص و الحلول و ما إلى ذلك من أفكار وصفتُها في مقدّمة قراءتي بالتجديدية .
و بالإضافة إلى الاسم ومدلوله ؛ تعمل الروائية على حقن المَشاهد بحقائق واقعية عن تلك الطائفة ؛ كأن تقول في ص 140 :
(أظنّ بأنّ أبا كمال قد ناهز الخمسين ، مما يعني طبقا لمراسيمهم قد اطلع على تفاصيل العقيدة فكان مشبعاً بالفكرة وربما ترك خديجة تطّلع عليها أيضا فصار من السهل عليهما استقبالها) .
وهو ما يتفق مع أن الدرزي يتلقى عقيدته بعد سن الأربعين , و يختص بها – أي العقيدة – الرجال دون النساء فيما هو سائد الآن على حدّ علمي .
و تضع هبة بوخمسين الرواية في مقام واقعي , يناقش الفكرة عبر أبطالها ؛ في ذات الصفحة :
(لكنّي بقيتُ على جديّتي :
- كيف تقبّلت خديجة الأمر هكذا ببساطة؟
- الدروز يؤمنون بعودة الأرواح متجسدة على الأرض بعد موتها. لو كان غيرهم لتورّطنا فعلاً بهلاوسنا ، وضحك متهكماً ليواصل كلامه بعد ذلك ...) .


المكان و الزمان :

سبق و أن أشرت إلى أنّ عمر أحداث الرواية لا يتجاوز أحد عشر شهرًا , غير أنّها تحتفي بذكريات تمتد إلى عقود . هذا الزمن لا يبدو واضحًا إلا من خلال قراءة متأنية للعمل , و هو ما سعت الروائية له , إذ أنها لم تشأ – على ما يبدو – أن تسربل المجريات بقميص الوقت . لكنّ العنصر الزماني من حيث توقيت الأحداث و موقعها على خارطة الأيام لم تعمل عليه الروائية بشكل قوي , أو لنقل لم تهتم به كما فعلت مع العنصر المكاني مثلاً .. إذ أنها أبدت مقدرة جيّدة في ترويضه و في بعض الأحيان جعلت من الزمان تابعًا له .
لقد تعاملتْ مع المكان داخليًا من خلال وصف الأماكن المغلقة , فهي لم تترك للقارئ أكثر من أن يتخيل الموجودات .. في حين تكتفي هي بإشارات هامة ؛ على سبيل المثال في ص 13 :
(استيقظتُ على غصّة. بعثرت التعب على "الكرفاية" الخشبيّة الداكنة التي احتضنت مُراهقتي. سهمت في نقش الديكور المكتظّ به سقف الغرفة بأثاثها القديم الذي لم يتغير منذ عشرين عامًا) .
أو في ص 16 :
(كانت مسترخية أكثر مني ، مستريحة على المقعد الجلدي في غرفة المكتب ، بساقين متعانقتين) .
و أيضًا ؛ خارجيًا من خلال وصف للطرق والشوراع و المدن برمّتها , و لأن أحداث الرواية تدور في ثلاث دول (الكويت , لبنان , ميامي | أميركا) كان لابد من هذا الاهتمام في رأيي , و إن كنت ألحظ قوّة حضور الأمكنة في الكويت و لبنان أكثر من غيرهما .

على سبيل المثال في ص 74 :
(من الفنطاس ، ساحلها الهادئ وبيوتها المكنون كل منها على نفسه ، بقديم حجرها الجيري الذي يغلب على طراز البناء بخلاف بعض البيوت حديثة البناء المتناثرة) .
أو ص 75 :
(عند شاطئ الشويخ. وصلنا محمّليْن بموسيقى رافقتنا وغلّفت صمتنا المتابع لازدحام الطريق الذي بات ملازمًا في كل وقت. تجاورنا حتى هبوط الظلمة ، لم يكن سوانا ونصف قمر يطلّ بشغف على عيوننا ، وبعض أزواج في زوايا متفرقة من حديقة الشاطئ المدشّنة حديثا ، لتكون لنا المرفأ) .
أو ص 131 :
(مشوار الصعود استغرق ساعة قضيناها مستمتعين بالمناظر الطبيعية. بأحراش الصنوبر والسنديان ، بالمنازل الأثرية التي مازال كثير منها مسقوفاً بالقرميد الأحمر ، تحتفي بالزرع في شرفاتها ، وتزين نوافذها الأسطوانية بالزهور من كلّ الألوان) .
و في ذات الصفحة :
(رميت دهشتي حين لمحت شلالات الصفا الخلابة بمياهها المتحدّرة على الصخر والخضرة الممتدة ، الاصفرار بدأ يتناول بعض وريقاتها مؤذناً بدخول الخريف ، تداخل الأصفر بالأخضر وبعض الأحمر أضفى على هذه الجنة سحرًا مضاعفًا) .
و غيرها من التوظيفات الناجحة في هذا المجال .

الشرق والموروث :

تتفاعل الرواية بشكل جدلي مع المفاهيم السائدة , وتعمل على الإشارة إليها تارة , و نقدها تارة أخرى . كأن تشير إلى التراكمات التي خلفتها الأساطير الدينية .. كما في ص 33 :
(.. سفينة نوح ونجاة الأتقياء بشكل عاطفي ، عن ملك سليمان ومعجزاته وعلاقاته العجيبة بمخلوقات الأرض أجمعين! ) .
أو فيما يخصّ التقاليد المجوّفة .. كما في ص 44 :
(غضبٌ مجنون من العائلة حلّ عليها حين فَضحتْ رغبتها الاقتران بالغريب ، بمن يحمل غير جنسيّتها ، بمن أحبّت) .
أو فيما يخص النظرة السائدة للمرأة وتصوير الرجل على أنّه كائن غرائزي لا أكثر .. كما في ص 45 :
(وجب أن تعرفي ثقل المهمة المنصبّة على عاتقك. أن تكوني امرأة ، يعني أن يرغب بك الرجل ، والبنت تاجها شرفها وعفّتها .. بلوغك يعني أن اجتماعك بالرجل يخلق جنيناً في بطنك ، تجنبي الوقوع وحافظي على نفسك. إياك وخديعة العشق) .
أو فيما يخص القيم التي تقترب من العنصرية في المجتمعات .. كما في ص 54 :
(فمنذ الصرخة الأولى لا بد من تصنيف يطالك ، يحجّمك ، يهديك سلفاً مقدارك ومعطياتك التي يضيقونها باحتراف جاهلي. لون بشرتك ، عينيك وشعرك ، تفاصيل أطرافك ، ثم .. يحملونك بالتفاسير إلى جدود أجدادك لتحليل نسبك وتقييمك الذي يرافقك كظلّ مربك لخطوك ) .
أو فيما يخص الحلم بعالم مستقر فكريًّا .. كما في ص 73 :
(نتقارب حين نكفّ عن الحكم على بعضنا ، حين نتلقّف معتقداتنا – باختلافها- بلهفة الناهل من المعرفة ، المُقدّر لعظمة تنوعها ، الموقن بأنّ للحقيقة ألوان) .
أو في فيما يخص التصريح بعدم عقلانية السائد .. كما في ص 76 :
(الموروث مهما افتعل حمايتك ، يبقى جليًّا أنه يسحبك إلى غبار التاريخ) .
تلك الأفكار وغيرها ؛ تفضح رسالة الرواية , و هي رسالة إنسانية في الأساس , تدعو إلى المحبّة .. وليس أكثر , و إن قيلت في ألفاظ مختلفة .

حميمية الذاكرة :

الذكريات لا تمثّل مشكلة لأيّ كائن ؛ فيما أنّ المشكلة تكمن في كيفية سردها دون تشويه للحقيقة . و تهتم الروائية هبة بوخمسين بذكريات أبطالها اهتمامًا ملحوظًا , حيث أنّها تسرد ذكريات الأبطال الأكثر حميمية على ألسنة الأبطال أنفسهم , رافعة بذلك مستوى العمل الذي بين أيدينا إلى مصاف احترافي .. لا يوفّر جهدًا في جعل القارئ شريكًا بل و جزءً من الذاكرة .
ومن الأمثلة على ما أقول ؛ نجد في ص 27 :
(الاستحمام المشترك نكتشف عبره الحميم من لحمنا ولا تتوانى خلاله من تعريفي بطريقة لذّة عابرة حين تسلّط رشّاش الماء بين فخذيها ، وتغيب في ضحكة داعرة تحاول عبرها إثبات أنها أكبر وأكثر معرفة مني) .
أو في ص 44 :
(رعب تملّكني وما كان غير والدي أمامي لأرمي إليه بجزعي من الأحمر الملطخ لملابسي. كان يوم جمعة ، وكنت أحضّر لرحلة مع أبي. رافقني ألم في بطني خلته برد الشتاء قد اقتنصني في حينها. أتكور ومغصي الشديد في ركن من غرفة المعيشة ، أقفل الشبّاك غير قادرة على التمتّع بندى الصباح بعد ليلة ماطرة. لكنها قفزة الأنوثة القدريّة ترصّدتني) .
أو في ص 45 :
(كنت وكأنني رافضة لتطوري الطبيعي أنضح سذاجةً ، وشروح مدرّسة الأحياء لم تُرحني وهي تلقّننا كيف يخرج ذاك الحيوان المنوي بميكانيكية خالصة ، وينتقل لتخصيب البويضة. كنت دون وعي أعقد ساقيّ بقلق ، وباتت مجاورة زميل المدرسة تشنّج قاتل) .
بهكذا بساطة تجبر الروائية أبطالها على التذكّر , بعض الذكريات قد يكون شأنًا سريًّا , و آخر لا يمكن البوح به , و لكنها – أي الروائية – تصرّ على جعل القارئ شريكًا , و تنجح .

الكتابة البصرية و المنحى السينمائي :

البعض يقول : (إنّ الناثر لا يخسر شيئا من فنه وهو يستجيب لشروط المعاينة البصرية ) (3) .
وكأنّه أمر مسلّم به .. فيما أنا أقول لا شكّ بأن كل كتابة تحتفي بشروط الإبداع ؛ تحمل تراكيبها البصرية كحجة لقبولها , إذ أنّ الكتابة التي لا تحرّك المخيلة أو لا تصنع المشاهد بين عيني القارئ هي بالضرورة كتابة فاشلة . و لكن ؛ الكتابة بشكل سينمائي يختلف تمامًا عن الزج بالتركيب البصري , حيث أنّ بعض المشاهد التي تُكتب بروح سينمائية لا يمكن فهمها أو استيعابها إلا بتخيّل الكاميرا و حركتها .

و في هذا الشأن تعبّر هبة بوخمسين عن قدرتها , حيث أنني رصدت أكثر من مشهد تمّ بناءه متوافقًا مع كاميرا سينمائية .. كما في ص 38 :
(في الرؤيا ، كنت أطلّ من شرفة عليّة. رأيتني وإياها. نبضي يقرأ المستتر في قلبينا. يجيء الصوت مشوّشاً ، أحاول تلقّف الرمز ، تفكيكه ، الإنصهار في المعنى. أرانا ، سارّة وجعفر وعادل معي في مطار غريب ، وأمّي تمنحني بركتها ، وأشواق من بين الهمس ترسلها لقلبي ، لا يحسّها سواي . أعلق بين كلمات سارّة وجعفر المأخوذ بالضحك. يخبو الممتدّ من ضياء الشمس المتسلّل عبر زجاج يحيط بنا ، أصوات الطائرات تخفت ويبقى رنين سارّة وتغيب عينا أبي ) .
في المشهد أعلاه ؛ تعمل الروائية على توظيف حركي لخمس كاميرات بالشكل الآتي :
الكاميرا الأولى : تبدأ من (ماريا) , ثم تتحوّل إلى (ليلي) و ترصد تأثير الرؤيا عليها .
الكاميرا الثانية : ترافق (ليلي , جعفر , سارّة , عادل) و ترصد بلا صوت سلوكهم المبتهج .
الكاميرا الثالثة : ترافق (جعفر , سارّة) و تركّز على شفتي (سارّة) و عيني (جعفر) .
الكاميرا الرابعة : ترصد أشعة الشمس الداخلة عبر زجاج يغلّف جدار المطار المطلّ على المدرج .
الكاميرا الخامسة : لقطة من الأعلى ؛ ترصد (ليلي) وحيدة في المطار .. ولا شيء آخر سوى بقايا أصوات غير مفهومة .
بهذه الطريقة يمكن استيعاب المشهد كاملاً , لأنّ المرور على مشهد كهذا بشكل عابر دون الإشارة إلى ما يحتويه .. لن يكون منصفًا .
و لن أسهب أكثر في الإشارة إلى مشاهد من هذا النوع و لكنني رصدتها في عدّة صفحات أخرى , مثل ص 117-118 و أيضًا في ص 125 و ص 193-194.

إشراقات في المتن :

لولا الجرس الوجودي الذي تقرعه (أكون أو لا أكون تلك هي المسألة) , لما تمّ ربطها بـ (هاملت) شكسبير و لأربعة قرون تقريبًا (4) . ومن هكذا زاوية يمكن أيضًا أن نقتنص بعض الإشراقات في متن الرواية , عبارات قامت على قدرة تكثيفية في قول كلّ شيء و بأقلّ عدد ممكن من المفردات . و قد أحببت هذا الرصد و استمتعت به , و لن أطيل في إدراجه ولكنني سأكتفي بأمثلة منه كي تصل الفكرة إلى القارئ :
في الصفحة 32 :
(السيادة والظلم ، ويلٌ محدق بإنسانيّتنا حين التواجه معهما مجتمعيْن) .
في الصفحة 34 :
(لا يُهلك البنت سوى أوهام شرف مسفوح في مخيّلة ذويها) .
في الصفحة 35 :
(من أين تجيء قسوة النساء؟! وكيف يصحو الرجل الضامر بداخلهن) .
في الصفحة 39 :
(وحدهم ؛ النّاجون يسترشدون بخيط العبور) .
في الصفحة 48 :
(نار الشّمعتين التحم! كيف تتّصلان بخط حارق ؟) .
في الصفحة 54 :
(إنهم يربّون الخوف فينا) .
في الصفحة 78 :
(كيف يرتكز الكون على كتف صديق ؟)
وغيرها من الإشراقات التي زيّنت السرد و جعلته أبهى .

لمحات :

* قدّمت الروائية لروايتها عبر أبطالها , إذ كُتبت المقدمة (هل أقدر؟) بقلم (ليلي جعفر) .. و هي طريقة حسنة وغير مستهلكة .

* جاء الإهداء متوافقًا مع روح الرواية .. و قد كتبت هبة بوخمسين في الإهداء ص 5 :
(إليك ..
حتى تتصالح الأقدار وإيانا ،
ستبقى نوراً في آخر النفق )

* تمّ اقتباس مقطع أدبي كمدخل لروح الرواية في ص 7 , كان هيرمان هيسة قد استخدمه في تقديم رائعته (دميان) (5) :
(لَمْ أكن أريد إلاّ أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية.
فلِمَ كان ذلك بهذه الصعوبة؟)

* زاوجت الروائية بين العنوان و الرواية و لوحة الغلاف (6) , و حين نظرت إلى الغلاف لأوّل مرّة لم يخطر على قلبي سوى أن يكون بالفعل (قليلاً وشهقة) .

* أسماء الفصول أتت على نمط تتجاور فيه الاقتباسات الروحانية مع اللمحة الشاعرية , و أيضًا احتفت الرواية ببعض المقاطع التي تفضح قدرة شعرية لطيفة لدى الروائية . كما في ص 63-64 .

* احتفت الرواية بتوظيفات مقبولة للموسيقى والغناء , في حين لم يتم التطرق إلى السينما عبر السرد سوى إلى فيلم (Armageddon) و استعملت ثيمة الأب وابنته فقط كون الروائية أشارت إلى ضعف الفيلم من جوانب عدّة . أيضًا ؛ لم تحفل الرواية بتوظيف موسّع لنتاج الإنسانية من الأدب الذي يمكن الاستفادة من ثيماته في السرد , واكتفت بتوظيف رومانسي مقتضب لرواية (غادة الكاميليا) لألكسندر دوما الابن .

* الروح محور العمل برمّته , لذا كان حضور الكارما و تفسيراتها ومدلولاتها جليًّا في الرواية , و قد تعاملت الروائية مع الفكرة بشكل دقيق معتمدةً على تعريفات وحقائق متداولة لا متخيّلة .

* حفلت الرواية ببعض الألفاظ العامية , وقد جعلت لها الروائية هوامش تعين القارئ على فهمها نظرًا لاختلاف اللهجات .

* تشير الرواية إلى روح العصر من خلال توظيف لمفردات الانترنت و المدونات , و لا تغفل عن منح مدوّنة لبطلة الرواية و تسميتها بـ (فيض) و هو مسمّى يحمل ما لا يسعنا المجال لسرده . (7)

* تتعامل الرواية بحكمة مع فقرات ومفاصل هامة في تأريخ الكويت المعاصر , وهي تنطلق من بيئتها الكويتية في النهاية حيث تشير إلى فترة الغزو الصدّامي و الانتخابات و صعود التيار الديني و قانون الدوائر الانتخابية و وفاة الأمير السابق وإشكالات الخلافة و غير ذلك . و أيضًا فيما يخص تأريخ لبنان المعاصر ابتداءً من إشارات حول الحرب الأهلية (1975-1990) و انتهاءً بحرب تموز الأخيرة (2006) .

* الكمال أمر غير وارد في العمل الإبداعي , وإن كنت أرى في تلك الرواية مقدرة فذّة على السير في طريق السرد الحقيقي غير القائم على الإثارة و الفقاعات الإعلامية , فإنني رصدت بعض الأخطاء أيضًا . وهي أخطاء إملائية أو طباعية أو لغوية لا تخدش الجمال بقدر ما تنفع المبدع حين يُشار إليها .
الصفحة 76 :
(نحن الاثنين = نحن الاثنان )
(نحن الملتقيين = نحن الملتقيان)
الصفحة 195 :
(الشوفة = الشوف)
في الصفحة 196 :
(بالهيل = بالهال)
الصفحة 199 :
(لأنّهما متفقين = لأنّهما متّفقان)



خاتمة :

لقد أمضيتُ وقتًا ممتعًا مع تلك الرواية .. و أحبّ أن أختم رؤيتي حول العمل بالقول أنّ الحياة مستمرة , و ليس من واجب الأدب أن يمسك بها ليؤخّرها عن مسعى الوصول . و هبة بوخمسين تدرك ذلك جيدًا , لذا فإن روايتها الجميلة (قليلاً وشهقة) لا تقوم بأكثر من عملية تشريح واحدة على عائلة واحدة في مقطع عرضي واحد . عائلة لا يهمنا كثيرًا أن نعرف تفاصيل بداياتها ولا أماكن قبور آخر سلالاتها , عائلة تشبه أغلب العوائل , تؤمن بأنّ الإنسان قادر على المغفرة , و أنّ المحبّة طريق أقصر للوصول , وأنّ الروح خالدة بشقائها أو بالنعمة .

هوامش :

(1) مزرعة الحيوان لـ جورج أورويل مثالاً .
(2) مصادري في هذا الشأن قراءتي الخاصة و بعض المقالات في الموسوعة الحرّة "ويكبيديا" .
(3) الناقد الدكتور حاتم الصكر في دراسة بعنوان (بعض مشكلات توصيل الشعر) .
(4) تعمّدت ذكر (هاملت) مثالاً , لأنّها أطول و أهم مسرحيات شكسبير باتّفاق النقاد .
(5) الصفحة 7 , رواية (دميان) لـ هيرمان هيسة , ترجمة ممدوح عدوان , دار ورد / دمشق .
(6) صورة الغلاف بعنوان Day Dreamer بعدسة Lars Raun .
(7) الفيض نظرية فلسفية عن الخلق و صدور الموجودات , بلوَرها الفارابي متتبّعًا خطى الأفلاطونيين . لم تستفد الرواية من ثراء الاسم إلا في جزئية العطاء ربّما .



أيّار / 2008
السّويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر