الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفتاح لا يعلوه الصدأ بفعل الزمن

هايل نصر

2008 / 5 / 7
القضية الفلسطينية


أمام عدسات المصورين في المحطات الفضائية أخرجته. مفتاح ملفوف بعناية ورعاية. قبل لفه اقفل باب بيتها آخر مرة, قبل ستين عام بالتمام والكمال. مشكول على وسطها من يومها. جدة فلسطينية. جابت به, لجوءا, دول الجوار. عرفت فيها شقاء الضياع وفقدان الديار. على وجهها حفرت الثمانون أخاديدها, وتركت آثارها المميزة والخاصة بأصحاب المعاناة. في غير وجهها, ووجوه الفلسطينيات مثيلاتها, لا تتجاور وتتمازج وتتفاعل وتتحد دون أي تنافر, أعباء الشيخوخة وإثقالها بالكبر والتحدي والصمود والإصرار . لعلها خاصية استثنائية فلسطينية. صنعتها مأساة استثنائية, لا شبيه لها في تاريخ البشرية, يتطلب حملها جهودا فوق بشرية.
الجدة الفلسطينية تدرك ان مفتاحها المصنوع لباب بيت موروث عن أجداد وأجداد , لم يعد يفتح نفس الباب. ولم يعد الباب هو نفسه, ولا البيت هو نفسه, ربما أصبح عمارة, مغتصبة, أو متجرا, حراما, أو باحة لهو للجدد من القادمين لا تعرف من أين. ولكنها تعلم أن الأرض التي كان يقوم عليها بيتها لا ترحل, و لا تهجر, ولا تُنبت غير ما كانت تُنبت, موقعها في مكان معروف في فلسطين. وفلسطين قائمة وثابتة ودائمة, جغرافيا وتاريخيا, وصبرا وانتظار. وتعرف أن الملكية مقدسة, منذ فجرا لتاريخ. قدستها الأديان, بما فيها اليهودية, والقوانين والأعراف, وجعلت انتهاكها من الجرائم التي يُعاقب عليها بأشد العقوبات. فكيف إذا كان هذا الانتهاك اغتصاب, تبعه قتل, وطرد, وتشريد, للمالكين ولأجيال وأجيال من الورثة. و تدرك أن ما قام على باطل هو باطل. وان الحقوق تُؤخذ وتُستعاد.
الجدة الفلسطينية, قد تكون مثل الكثيرات الكثيرات من الفلسطينيات, لا تملك غير مفتاحها ميراثا لأولادها أو أحفادها. ولكنها به تودعهم رمز وذاكرة القضية.
الجدة الفلسطينية تملك مفتاحا حقيقيا لا يستطيع حمله بصدق إلا ابن القضية, وريث الجدة. فيه التصميم على العودة, والنضال من اجل العودة, وصولا إلى العودة.
مفاتيح مزيفة, لا تفتح شيئا, حملها الكثير, رماها البعض يأسا. وأودعها آخرون عند غير أهلها. وادعى حملها, عقودا طويلة, حكام وحكام, وأحزاب وفروع أحزاب, ومنظمات وفروع منظمات, وملحقات, قومية, أممية, وطنية, قبلية, عشائرية, عائلية, أبوية. تجار مفاتيح ودعاة فتح. لا يحمل أي منها مفتاح كمفتاح الجدة. ولا يُخيف أي منها الغاصب كما يخيفه مفتاح الجدة.
جدة تبرز مفتاحها أمام العالم دون انفعال, دون صراخ. دون تهويل مفتعل وضجيج, تعرف بالتجربة الطويلة, أن الأكثر صراخا هم من أضاعوا المفاتيح, هم من لم يتحملوا حملها طويلا فسلموها لأول دعي بالمقدرة واحتكار المقدرة على إعادة لكل باب مفتاحه. لتجار القضية من الداخل والخارج والجوار.
تنظر بصفاء وصدق في عيون الآخرين. كثير من الآخرين لا ينظرون في عينيها إلا خلسة ومواربة و رفة جفون عندما يتحدثون في حضورها عن القضية. يُقرأ في عيني الجدة أحداث عصر و "شهادة على العصر", وتجربة على محكها يُفرز النضال عن زائفة, وتبان معادن الرجال.
الجدة ليست من قارئات الفنجان, ولا ممن يركن لاستنفار الإنس والجان لتحرير الوطن والإنسان. تسمع خطبا نارية, من كل الاتجاهات وبكل الألوان, تصم الأذان, ترددها كل المحطات الأرضية والفضائية, الثورية وشبه الثورية, والساخطة على طريقتها, التحريرية, والمتحررة من كل شيء. خطب بفصيح العربية وبلاغة الأعراب, قبل سواد العامية, وقرأت شعرا, وقرأت نثرا, ووعودا مع أغلظ الأيمان بان العودة ستكون مطلع الفجر, ومع صياح الديكة, وبفضلها. ضجيج من الثمانية والأربعين, كلام, نفس الكلام, ولكن تبقى حقيقته, رغم الزمن, وان اختلفت الصياغات واللهجات وتغير القائلين " ماكو أوامر".
رأت أفلاما ومسلسلات حررت كل المغتصب من أرضنا, وأعادت كل المهدور من حقوق امتنا , مسلسلات تجمع دون خلاف كل فئات شعوبنا حول التلفاز, لتخلو الشوارع ويتوقف كل شيء عن العمل, حتى التفكير. مسلسلات تحرير وانتصار القضايا العادلة, وحل المشاكل, كل المشاكل, يخرجها المخرج كما يريد الجمهور. وينام الجمهور على أمل أن لا ينتهي المسلسل أو أن يتبعه آخر.
لكن الجدة قارئة جيدة للتاريخ, تدرك أن كل هذا لا يعيد مفتاحها لبابها. قرأت كيف تعود الحقوق لأصحابها مهما طال الزمن وبلغت شراسة الغاصبين. وحتى لا نذكر كل ما قرأته من التاريخ قديمه وحديثه نذكر فقط أنها قرأت الثورة الجزائرية بوعي المناضل , وعودة الجزائر للجزائريين بعد 130 سنة متحدية فرنسا التي أرادتها فرنسية. قرأت سقوط النظام العنصري في جنوب إفريقيا بكفاح شعب متحد ونضال مانديلا ..
قرأت أن الحر وحده القادر على التحرير, ووحده من يساند ويناصر الأحرار وحاملي القضايا العادلة مساندته للحرية نفسها, وللحق, والعدالة, فهي من الإنسان جوهره. قرأت ورأت بأم العين وقوف كل أحرار العالم مع الزعيم الأسود مانديلا في نضاله ضد التمييز العنصري. وتعاطف كل أحرار العالم مع الشهيد العربي المسلم ياسر عرفات رافع القضية ورمزها وشهيدها؟.
جدة ترى في مفتاحها رمز قضيتها, ودون وهم ترى فيه الحق والعدل وكل قيم الإنسانية ومفتاح للسلام وحقوق الإنسان.
جدة لا يستطيع أي حر في هذا الكون, مهما كان أصله ولونه ودينه وجنسيته, إلا أن ينحني أمامها إكبارا وإعجابا, ويقبل هامة تحدت ولم تنحن
تصدأ كل المفاتيح و مفتاح الجدة لا يعلوه الصدأ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصاعد حدة المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع| #غر


.. روسيا تكثف الضربات على محطات الطاقة وكييف تستنجد| #غرفة_الأخ




.. أصوات انفجارات عقب استهداف مستوطنة مرغليوت بصواريخ أطلقت من


.. مظاهرة في مدينة كراتشي الباكستانية دعماً لفلسطين




.. معبر رفح.. مصر تصر على انسحاب القوات الإسرائيلية| #غرفة_الأخ