الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعلام وكتابة التأريخ

صائب خليل

2008 / 5 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


مقدمة: لاشيء موثوق
هل يمكن استخدام الإعلام لكتابة التأريخ؟ هل يمكن تخليص الإعلام من الأيديولوجيات التي وجهت الإعلام لحظة بثه؟
هذا التساؤل عن صلاحية الإعلام لكتابة التأريخ باعتباره مصدراً مؤدلجاً غير موثوق يحمل بحد ذاته مؤشراً خطراً بأن هناك اعتقادا ً أن المصادر التقليدية لكتابة التأريخ تحضى بتلك الثقة. ليس هناك ما هو أبعد عن الواقع من هذا، فالتأريخ كان وسيبقى بيئة مؤبوءة بالتحيز والخطأ.
يخبرنا البروفسور الهولندي فان در دونك من جامعة اوترخت في محاضرة له ان:"المؤرخ سوف يعدك بأنه لن يتدخل وأنه سيجمع الحقائق ولن يفسرها بل سيتركها "تتحدث عن نفسها"، لكن هذه أضغاث أحلام، فلم يحدث في التأريخ أن فتحت حقيقة ما فمها دون أن يكون ذلك بتأثير فعل مؤرخ ما او إنسان ما، ولا مفر من أن يضع هذا الإنسان بصمته على تلك "الحقيقة"، ولا مفر من أن تختلف هذه من مؤرخ الى آخر و"حتى تتمكن الأسود من الكلام، فستبقى قصص الصيد تتحدث عن شجاعة الصيادين"، كما تقول أغنية افريقية.
أمراض كتابة التأريخ العامة
ما تأثير الإعلام على كتابة التأريخ إذن؟ ربما من المفيد أن نحاول متابعة تأثير الإعلام على أمراض كتابة التأريخ المعروفة اولاً.
ألإنتقاء والروابط
يقول المؤرخ الفرنسي كولانج الذي عاش في القرن 19: "إن مهمة المؤرخ جمع الحقائق وتكوين الروابط السببية فيما بينها لتحصل على صورة لما جرى في التأريخ." لكن هذا الهدف الذي يبدو بسيطاً واضحاً، انما هو مستحيل تماماً. فلو أردت "جمع الحقائق" بلا تدخل منك لوجدت امامك منها كما ً هائلا ً يستحيل جمعه. والأسوأ من ذلك انك لو تمكنت من جمعه فستجد كومة من المعلومات لاشكل لها وبالتالي لايمكن تقديمها الى القارئ بشكل مفيد ذي معنى. لذا يضطر المؤرخ الى التعامل مع الحقائق التأريخية بانتقائية، وهذا أول تدخل له في تلك الحقائق!
ثم يتدخل المؤرخ في الحقائق حين يقوم بالخطوة الضرورية التالية في ربطها ببعضها بسلسلة سببية ليعطي تلك الأحداث معنى وهيكلاً ليمكن الإفادة منها، فيختار ما يراه من الروابط التي تفسر الأحداث.

هل هناك إشكالية أكبر في هذه الناحية عند اعتمادنا على الإعلام كمصدر تأريخي؟ من ناحية أولى نعم، فالإعلام بشكل عام مؤدلج بشكل أكبر من الوثائق، ومن ناحية ثانية لا، حيث أن مصادر الإعلام المتعددة تسمح لنا برؤية الأدلجة بشكل أسهل مما يمكن في حالة الوثائق، التي قد لاتخلو من الأدلجة والتزوير. اي يمكن استخدام مصادر الإعلام بشرط ضمان تنوعها، ولاحظوا أن التعدد قد لايعني التنوع.
أما بالنسبة لربط الأحداث بسلسلة سببية فلا يعتمد على المصادر إنما على المؤرخ لذا لا أرى فارقاً في هذه النقطة.
دهشت عندما سألتني ابنتي يوماً: ألم يكن الهدف من الحرب العالمية الثانية هو القضاء على اليهود؟ نلاحظ هنا أن يارا وقعت تحت تأثير مصادر إعلامية أحادية التوجه وإن كانت متعددة، وقامت بنفسها بربط الأسباب بنتائجها كما تصورت، لكنها لم تكن طبعاً تعلم شيئا عن أمراض كتابة وأدلجة التأريخ فحصلت على صورة مشوهة له.
الأساطير
إحدى أكبر مشاكل مؤرخي التأريخ القديم، ان معظم مصادرهم كتبت بشكلأاساطير، وليس فصل الحقيقة عن الإسطورة دائماً بالسهولة التي يتوقعها المؤرخ. ولدهشتنا فإن الأساطير التي تعتبر في العادة تشويهاً يجب التخلص منه، كانت أحياناً تدويناً تأريخياً قيماً جداً، فقد اعتمد اكتشاف مدينة طروادة على أساطير قديمة مغرقة في خيالها، مليئة بالآلهة والخوارق!
بالطبع لايمتلئ الإعلام الحديث بالأساطير كما في المدونات القديمة، لكنه لايخلو من نوع منها ايضاً. فالكذب الإعلامي يتحول الى شيء أشبه بالأسطورة التي تلازم الجماهير إن تم نشره بشكل مكثف ولزمن كاف. فيمكننا كمثل من التأريخ الحديث ملاحظة أن بعض المفاهيم الخاطئة قد ثبتت في الأذهان الشعبية وتصورها للتأريخ رغم أنها بلا دليل، بل حتى بعد تقديم الدليل على خطلها، ومنها مثلاً أن الولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية لتحرر اوروبا من هتلر، في الوقت الذي لم تدخل هي الحرب حتى أعلنها هتلر عليها! ولو سألت الأمريكان عن علاقة صدام حسين بالقاعدة لأجابك معظمهم، كما تبين الإحصاءات، بوجود تلك العلاقة, وكذلك الأمر بالنسبة لوجود اسلحة دمار شامل لديه. ينبهنا المفكر الأمريكي البروفسور نعوم جومسكي ايضاً الى أسطورة جرى بناؤها في اميركا مفادها أن المجتمع الأمريكي مجتمع منسجم تسود بينه المحبة والوئام بين كل طبقاته من أغنياء وفقراء، والذي لايعرقله سوى المزعجين من العمال المتظاهرين والأجانب الحاقدين على الحرية الأمريكية، وهؤلاء جميعاً متهمون بـ "اللا امريكانية".إنها نوع من الأساطير الحديثة التي قد يجابهها المؤرخون فتقود بحثهم نحو الخرافة إن لم يلتزموا الحذر.
سياق الحقيقة التأريخية
لكل حقيقة تأريخية سياق ظهرت به، ولا يمكن تفسير أية حقيقة وفهمها بشكل صحيح دون معرفة جيدة بذلك السياق، والصراع سائد مثلاً بين فريق يؤكد الفهم الحرفي للدين وآخر يرى ضرورة فهمه من خلال سياقه التأريخي، او ما يسمى "أسباب النزول" بالنسبة للآيات القرآنية. كذلك كان موضوع السياق هو النقطة التي هاجم منها المسلمون فلم "فتنة" الذي أنتجه البرلماني الهولندي المعادي للإسلام خيرت ويلدرز باعتباره يعطي صورة مشوهة من خلال تجاهله لسياق الأحداث الإسلامية. لا يختلف هذا الإشكال في حالة كتابة التأريخ من الإعلام كثيراً عنه من الوثائق، إلا بأن الإعلام لوفرته وتفاصيله يعطي فرصة أكبر للمؤرخ أن يبحث عن سياق كل حقيقة يكتب عنها.
تأثير "الأصل" وتحديد "نقطة بدء التأريخ"
مما أشار اليه فان در دونك هو أثر "الأصل" على كتابة التأريخ، فقال إن له قوة جذب قوية في داخلنا ونستعمله دون وعي منا، كمقياس للأشياء اكثر مما نعتقد بكثير. فمن يولد في سجن أو جزيرة ويعيش فيها يعتبر أن العالم هو هذا المكان المسور أو هذه القطعة الصغيرة من الأرض محاطة بالماء. هذا الأصل هو ما سيقرر لنا ما سنعتبره كبيراً وماهو صغير، جيد وسييء، الخ.
"الأصل" و "نقطة بدء التأريخ" مفاهيم غير دقيقة طبعاً وذاتية الى حد بعيد، وهي قابلة للأدلجة بقوة اكبر مما قد يظن، ولعل الصراع الثقافي الأيديولوجي بين اليهود والفلسطينيين حول من كان يسكن أرض فلسطين "في البدء" أوضح مثال على هذه النقطة، حيث انه من المتعارف عليه ان "الأقدم" هو "الأحق".
يقول الدكتور عادل غنيم عن تدخل السلطة في كتابة التأريخ: "عندما قامت الثورة أرادت أن تقول إن التاريخ يبدأ من هنا فشوهت التاريخ لدرجة أن يُقرر في كتب التاريخ بالمدارس أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس للجمهورية على خلاف الواقع".
ولو راجعت ما كتب عن حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان لوجدت أن معظم من "أرخ" الحدث، في الإعلام على الأقل، وصف الحرب بأنها "بدأت" بخطف حزب الله لجنود اسرائيليين، رغم أن عملية الخطف جاءت كطريقة لحل مشكلة مسبقة هي اختطاف إسرائيل لمعتقلين مدنيين لبنانيين وفلسطينيين ($) وتكرر الأمر في تبرير حصار غزة الأخير($$). هكذا يحاول الإعلام ان يفرض علينا تأريخ نقطة البدء، بنتائجها السياسية المتوقعة.
المشكلة الإضافية في الإعلام أنه مختل التوازن حسب المال أكثر من قبل
إضافة الى ما ذكر عن الشكل الذي تظهر به امراض التأريخ المعروفة في الإعلام الحديث، يجلب هذا الأخير معه اشكالات وحلولاًً إضافية خاصة به. فلم يكن للإعلام او كتابة التأريخ يوماً هذه القدرات المالية الهائلة التي تسعى اليوم الى أدلجته بلا خجل. وعلى عكس المتوقع، فإن هذه المحاولات تجري بأشد نشاطها في الدول الديمقراطية، ليس لأن الدكتاتورية تحب الحقيقة اكثر، وانما لأن رأي الجماهير في الديمقراطيات يكتسب أهمية أكبر كثيراً وبالتالي زادت أهمية تحويره ليناسب اصحاب السلطات بأنواعها. وهذا الإهتمام بأدلجة التأريخ دليل على قوة تأثيره الإجتماعية، والتي تزداد بشكل خاص في اوقات التغيرات السياسية الحادة وهو مايدفع البعض الى محاولة إعادة كتابة التأريخ ليناسبها كما يحدث اثناء الثورات كما اسلفنا. اليوم أيضاً تحاول العولمة فرض قواعد عالم جديد، وتعيد تعريف الخير والشر، وإزالة او تغيير أحداث تأريخية غير مناسبة، خاصة الشديدة التأثير منها، مثل مقتل الطفل "محمد الدرة" الذي سبب انهياراً إعلامياً لإسرائيل فعاد البعض الى تأريخه ليحاول إعادة كتابة الحدث ليتهم الفلسطينيين بقتله! ومن المحاولات الأخيرة كانت جهود أبريل كلاسبي لتغيير تأريخ الفضيحة التي ثبتت "حقيقة غير مناسبة" وهي أن جريمة اجتياح صدام للكويت كان فخاً امريكياً لعبت فيه كلاسبي الدور الرئيسي ( &).
لكن ليس كل محاولة تغيير للتأريخ وإعادة كتابته هي بالضرورة من أجل تغيير حقيقة ٍ ما إلى كذب، فقد تكون تلك المحاولات من اجل إزالة كذبة او إنصاف حقيقة معينة (#)، لذا طالب الشاعر والفيلسوف الألماني الكبير يوهان فولفجانج جوته بضرورة "إعادة كتابة التاريخ بين الحين والآخر".
إن التطور الإعلامي الحديث يعتبر ثورة بكل معاني الكلمة لذلك فلا مفر من أن يحاول كل مؤرخ إعادة كتابة التأريخ للإستفادة من تلك الثورة حسب ما يناسبه. لقد أصبح أصحاب السلطة المالية والسياسية، وبسبب هذا الإعلام اكثر قدرة على تضليلنا، لكننا من ناحية أخرى أصبحنا أكثر قدرة على كشف ذلك التضليل. فلم يحدث في الماضي أن تعرضت "الوثائق" الى هذا العدد من "الشهود" في العالم من خلال الفضائيات والإنترنيت، ولذا فأن صمود "وثيقة" كحقيقة، مؤشر هام على أنها ربما كانت كذلك فعلاً، وهذا كله بفضل نفس الإعلام الذي نخشى قدرته الكبيرة على التضليل.


((هذه المقالة كتبت خصيصاً لـ "المسار"، نشرة إعلامية تصدر عن جامعة السلطان قابوس في عمان))
http://www.squ.edu.om/squ/index.php?page=publication&type=2&pgnum=6

هوامش
http://pulpit.alwatanvoice.com/content-31621.html (*)
($) متى بدأ التأريخ؟
($$) مرة ثانية يبدأ التأريخ من جديد على الفلسطينيين وسيبقى يبدأ من جديد حتى...
(&) ابريل غلاسبي كذابة
(#) نظرية بابل*

مقالات اخرى للكاتب حو الإعلام
1. الرنين الإعلامي-: كيف يجعلوننا نقبل اخباراً غير معقولة؟
2. بين صوت العقل وصوت القطيع ودور الإعلام
3. لقاحات ضد الجنون:الحلقة رقم صفر- مدخل الى الجنون
4. الاعلام والحملات الانتخابية -4 – نظرية التوازن النفسي وتأثير الرسالة الاعلامية على مختلف المجموعات
5. الحملات الانتخابية والاعلام 2- حلزون الصمت
6. الحملات الانتخابية والاعلام-1- الرسالة الاعلامية والمتلقي
7. درس كلاسيكي في التضليل الاعلامي
8. الإعلام العراقي 4- الإعلام والحكومة يمارسان الكذب المباشر
9. إعلام العراق مغرق باخبار -المصدر المجهول-
10. الإعلام العراقي2 – امثلة من الإيحاء المغالط
11. الأخبار في الإعلام العراقي: -المصدر الموثوق- لايستحق الثقة ولكنه مفيد!
12. امثلة من الإعلام العراقي وغيره 5 - التلاعب بالحقائق
13. الإعلام العراقي 4- الإعلام والحكومة يمارسان الكذب المباشر










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسم تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تبدأ من مدينة تبري


.. مقاطعة حفل ممثل هوليودي لدعمه للاحتلال الإسرائيلي




.. حزب الله: استهدفنا مواقع إسرائيلية في الجليل الأعلى ومزارع ش


.. الاتحاد الأوروبي يفعّل نظام كوبرنيكوس لمساعدة إيران.. ماذا ي




.. استشهاد رئيس قسم الجراحة بمستشفى جنين