الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جار برلين ..من 1961 الى 1989..

رحيم العراقي

2008 / 5 / 11
السياسة والعلاقات الدولية


تابع فريديريك تايلور دراساته العليا في جامعة اوكسفورد، وهو أخصائي بالتاريخ واللغات الحية. سبق له وقدّم كتاباً كان لفترة من الزمن بعد صدوره من بين الكتب الأكثر مبيعاً تحت عنوان «درسدن». وهو أيضاً مترجم «يوميات» وزير الإعلام النازي غوبلز. جدار برلين: عالم منشطر 1961-1989 هو كتاب يؤرخ لقرن كامل من التاريخ الأوروبي خاصة وتاريخ العلاقات الدولية عامة خلال القرن العشرين.
يقدم المؤلف أولاً قصة الجدار نفسه الذي شُرع ببنائه بتاريخ 13 أغسطس 1961 وبتحديد أكثر في ليلة 12 إلى 13 أغسطس من تلك السنة حيث كان أهل برلين قد استيقظوا في صبيحة اليوم الثالث عشر ليجدوا مدينتهم ممزقة بين شطرين يفصل بينهما أحد أكثر الجدران شهرة في التاريخ.
لم يكن جدار برلين، كما يتم تقديمه، مجرد حاجز من الخرسانة المسلّحة والحواجز والأسلاك الشائكة وأجهزة الإنذار ومصابيح الإضاءة التي تعمى الأبصار وكل ما يمكن أن «يفيد» في ردع كل من كانت تخوّل له نفسه التفكير بالانتقال من برلين (الشيوعية) الشرقية إلى برلين «الرأسمالية» الغربية. كان الشيوعيون يريدون آنذاك حماية «اشتراكيتهم الفاضلة» من أخطار «الرأسمالية» وشرورها.
لقد كان جدار برلين أكثر من ذلك بكثير، كما يقدمه مؤلف الكتاب. فالأهم من العزل المادّي كانت هناك دلالة جدار برلين في السياسة الدولية العامة للقوة التي سادت خلال فترة الحرب الباردة، أي تلك الفترة التي عاشت فيها أوروبا منقسمة إلى شطرين يفصل بينهما «ستار حديدي»، و«ستار إيديولوجي» لم يكن أقل عزلا.
ويعالج المؤلف في البداية موقف الدول الغربية الرئيسية من ذلك الجدار، ولا يتردد في التأكيد أن الرئيس الأميركي آنذاك جون كندي والفرنسي شارل ديغول ورئيس الوزراء البريطاني ماكميلان لم يكونوا أبدا حاسمين في معارضتهم لإشادة الجدار الفاصل بين أبناء برلين الألمانيين.
بل ويشير المؤلف إلى أن قادة (العالم الحر) كانوا يرون في برلين وما تمثله من احتكاك مباشر بين الغرب والشرق بعد الحرب العالمية الثانية، بؤرة توتر مستمر يمكن أن تؤدي في كل لحظة إلى انفجارات قد لا تمكن السيطرة عليها.
من هنا بدا السور وكأنه عامل دفع باتجاه قدر أكبر من الأمن والاستقرار في أوروبا. من هنا تفوقت مصلحة الدولة بمعنى مصلحة الغرب الرأسمالي، على جميع الاعتبارات الإنسانية، إذ لم يكن يخفى على أحد مدى ما يمثله الجدار من (ظلم) على الصعيد الإنساني، ومدى الخطر الذي كان يحيق بأولئك الذين يفكرون بـ «اجتيازه». لقد كان بكل بساطته خطر الموت المؤكّد، والأحاديث والوقائع التي يتم نقلها لا تحصى للتدليل على مثل ذلك الواقع.
ورأى الغربيون أيضاً أن لجدار برلين فائدة أخرى تتمثل في قيمته «الرمزية» كحاجز فاصل بين المنظومتين الإيديولوجيتين المتصارعتين، أي الرأسمالية والشيوعية. فمع الجدار أصبحت «الحدود» واضحة لما هي عليه الحياة على جانبيه. بنفس الوقت ركّزت الدعايات الغربية على تقديم الانتقال من شرق الجدار إلى غربه وكأنه انتقال من معسكرات الاعتقال إلى فضاءات الحرية.
إن عملية بناء جدار برلين في مدى ليلة واحدة وتحت جنح الظلام وما مثّله في الواقع وفي المخيلة يدفع بالمؤلف إلى وصف إنشائه بأنه كان «سرياليا» ويكاد لا يصدّق. ولا تقل «سريالية» و«إعجازا» عملية اختفائه أيضا في ليلة واحدة عمليا يوم 9 نوفمبر 1989. إن المسافة القصيرة و«غير الموجودة» واقعيا بين شطري برلين كانت مستعصية على أن يجتازها أحد في زمن الجدار.
ونفس المسافة لا تحتاج سوى لدقائق قليلة «سيرا على الأقدام». إن الكثير من التفاصيل التي يقدمها مؤلف هذا الكتاب تبيّن مدى التعسف الذي عاشته برلين في ظل الجدار. ولم يكن من السهل مثلا معرفة إذا كان رقم هذا المنزل أو ذاك من نفس الشارع يقع في برلين الغربية أو برلين الشرقية.
وعلى عكس الفكرة الشائعة يؤكد المؤلف أن عملية بناء جدار برلين معماريا وبشريا وسياسيا خلال ساعات ثم عملية اختفائه و«كأنه لم يوجد في أي يوم من الأيام» لا تزالان ـ أي العمليتان ـ مجهولتين كثيرا من قبل السواد الأعظم من أبناء أوروبا وحتى من الألمانيين أنفسهم. ما هو معروف يتمثل في مجموعة من «العناونين» العريضة.
لكن لجدار برلين «أسراره» و«خباياه» التي يعيدها مؤلف هذا الكتاب إلى الواجهة من جديدوهناك أيضا قصص وحكايات ومغامرات ومآسي أولئك الذين أرادوا التحايل على الاسمنت واستخدم بعضهم المناطيد المملوءة بالهواء الساخن وحاول آخرون أن يغوصوا تحت أساسات الجدار وفتح ثغرة تربط بين جانبيه.
ثم هناك حكاية ذلك الشرطي الألماني الشرقي الذي رسم خطا أبيض مستقيما يفصل بين منازل المدينة مما فصل لمدة تقارب الثلاثة عقود بين جيران كانوا قد عاشوا معا لأجيال كاملة. وكان جدار برلين أيضا مجالا لـ «التجارة» حيث اختص البعض بتأمين المرور عبر معابر خاصة. وقام آخرون ببيع أنقاض الجدار وركامه لـ «السائحين» أو للألمان الذين أرادوا أن يحتفظوا بأثر من ذلك الجدار «سييء الذكر».
وما يكشف عنه المؤلف بالوقائع والأسماء وتحديد الأمكنة هو الدور الذي لعبته أجهزة الاستخبارات الغربية عامة، والألمانية الغربية خاصة، في مساعدة عدة مجموعات ألمانية شرقية للانتقال من شرق المدينة إلى غربها. بالطبع كان هناك إحساس سائد بذلك ولكن المؤلف يوثّقه هذه المرة.
ويروي المؤلف على مدى عدة صفحات ما جرى أثناء الزيارة التي قام بها ليندون جونسون، الذي كان آنذاك نائبا للرئيس الأميركي، إلى برلين بعد أسبوع واحد من إشادة الجدار الفاصل. لقد ذهب إلى المدينة بصفته مبعوثا خاصا للرئيس جون كندي. لقد حيّى يومها جموع سكان برلين الغربية وشجعهم كما التقى برئيس بلدية المدينة ويلي برانت، الذي أصبح فيما بعد مستشارا لألمانيا والذي لعب دورا كبيرا في التحولات التي شهدتها ألمانيا الشرقية عبر تبنّي «السياسة الواقعية» حيال الشرق.
كما قام جونسون بـ «التفتيش» على الأسلاك الشائكة التي أقيمت قبل أيام. ولم ينس تحية القطعات الأميركية المنتشرة حديثا على حدود ألمانيا الشرقية. وكل ما حدث في نهاية الزيارة هو أن الولايات المتحدة قد جددت التزامها بـ «الوضع القانوني الغريب» في برلين الغربية. وما يؤكده المؤلف هو أن الأميركيين لم يقوموا حقيقة خلال الـ 28 سنة التي عاشها جدار برلين بالتشكيك بشرعية وجوده، بل كانوا يريدون رؤيته كـ «أحد المعالم السياحية».
ويتمثل أحد الرموز التي يؤكد عليها المؤلف في جدار برلين بالقول إلى أنه فضلا عن كونه رمزا فظا للمواجهة بين الغرب والشرق وبين نمطين مجتمعين ورؤيتين متباينتين للعالم، فإنه كان أيضا رمزا لـ «اتفاق ملموس» وإن لم يكن مكتوبا. فالغرب اعترف ضمنيا بألمانيا الديمقراطية مع نوع من الالتزام بعدم التعرّض لها.
والشرق أقرّ بقبول برلين الغربية كـ «جزيرة للديمقراطية وللرأسمالية في قلب بلد شيوعي». فمدينة برلين بعيدة بمئات الكيلومترات عن ألمانيا الغربية. بكل الأحوال عرفت برلين الشرقية وبرلين الغربية أن تتعايشا «سلميا» رغم الجدار، أو ربما بفضل الجدار، كما يرجح مؤلف هذا الكتاب.
ويؤكد المؤلف أيضا أن ذلك الجدار الذي قام بسرعة خيالية ذات ليلة من شهر أغسطس 1961 قد لعب دورا كبيرا في (إنقاذ) ألمانيا الشرقية من عملية (نزيف) شبابها بشكل خاص. وتدل الإحصائيات المقدّمة أنه قبل بناء ذلك الجدار الفاصل العازل كان معدل الشباب من الألمان الشرقيين الذين يجتازون «الحدود» بأشكال وأساليب مختلفة يبلغ ما يقارب العشرين ألف شاب شهريا. بهذا المعنى شكّل الجدار حماية حقيقية لألمانيا الشرقية الشيوعية.
ويشير المؤلف في هذا السياق إلى أن النظام الألماني الشرقي كان يصف جدار برلين على أنه جدار للحماية من الفاشيين. ولكن ليس هناك أي شك أنه لم يتم تصميمه وبناؤه من أجل منع الفاشيين الإمبرياليين من التسلل إلى الفردوس الشيوعي بقصد القيام بعمليات تخريب، وإنما كان المقصود هو المحافظة على الألمان الشرقيين داخل حدود المدينة الخاضعة للنظام الشيوعي. ويؤكد المؤلف أنه لولا وجود ذلك الجدار فإنه ما كان للنظام الألماني الشرقي أن يصمد حتى عام 1989 وإنما كان انهار قبل ذلك.
ويكرس المؤلف أحد فصول الكتاب للحديث بشكل خاص عن حياة سكان برلين الغربية ومسيرة تطورهم بعد إقامة الجدار الفاصل، إذ فصلا عن عزلتهم التامة عن الشرق كانوا بعيدين عن الوطن الأم ـ ألمانيا الغربية. وكانت المؤسسات والشركات تتجنب المدينة لأسباب جغرافية واقتصادية. أضف إلى ذلك أن شباب برلين الغربية كانوا معفيين من أداء الخدمة العسكرية بل وكانوا يتلقون مساعدات تحت الطاولة من أجل البقاء.
إذ كان مجرد بقائهم يمثل فعلا مقاوما. وبشكل عام يحدد المؤلف القول ان مجمل الظروف التي عاشتها المدينة دفعت، مع ما يتضمن ذلك من مفارقة كبرى، إلى ظهور عدد مهم من الفنانين والنشطاء السياسيين المناهضين بعمق لأميركا.
لقد انهار جدار برلين يوم 9 نوفمبر 1989 وزالت ألمانيا الشرقية لكن جدارا داخل العقول قد استمر لفترة، كما يؤكد المؤلف. لكن الناس يتعلمون من جديد أن يعودوا مواطنين ألمانيين، بل إنه في الكثير من أنحاء برلين أصبح من المستحيل القول أين كان الجدار. ويبدو أحيانا وكأنه لو يوجد في أي يوم من الأيام. كتاب في التاريخ مع 16 صفحة من الصور وإنما يمكن قراءته كرواية في الجاسوسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة.. الجيش الإسرائيلي يدعو السكان لإخلاء شرق رفح فورا


.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما ولا تقدم في محادثات التهدئة




.. مقتل 16 فلسطينيا من عائلتين بغارات إسرائيلية على رفح


.. غزة: تطور لافت في الموقف الأمريكي وتلويح إسرائيلي بدخول وشيك




.. الرئيس الصيني يقوم بزيارة دولة إلى فرنسا.. ما برنامج الزيارة