الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صانع الشرائع

صبحي حديدي

2004 / 1 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


قبل ثلاث سنوات تمكنت الحكومة التركية من تلقين الكونغرس الأمريكي درساً بليغاً في الأخلاق، أخلاق الكيل بمكيالين أوّلاً، ثمّ أخلاق التنقيب في ملفاّت التاريخ ثانياً. وكان الأتراك قد أجبروا الكونغرس ــ الذي أخذ أعضاؤه في حينها يأنسون في أنفسهم حسّ عضوية كونغرس المعمورة وليس أمريكا وحدها، وحسّ تمثيل البشرية قاطبة وكابراً عن كابر ــ على سحب مشروع قرار ينصّ على إدانة مذابح الأرمن.
وبالطبع لم يكن مشروع القرار يهدف إلى إدانة تلك المذابح لأغراض إنصاف الملفّ التاريخي، أو تعزية أحفاد الضحايا، أو لملمة جراح الماضي بما يتيح مصالحته مع الحاضر والمستقبل. كان مشروع القرار أقرب إلى إدانة ثقافية لـ "آخَر" تركي من حيث المظهر فقط، وشرقي/ مسلم من حيث المحتوي الحقيقي، على نحو يعيد تذكيرنا بطراز (كدنا نعتقد أنه آيل إلي انقراض) من الحروب الصليبية الثقافية بين "التراث اليهودي ـ المسيحي"، أي "الغرب"، و"التراث الإسلامي" الذي ينبغي أن يمثّل "الشرق" بالضرورة، وقسراً في معظم الأحيان. وباختصار، كان مشروع القرار كلمة حقّ يُراد بها باطل، وكانت الرائحة العنصرية والتمركز الغربي حول الذات تفوح من حيثياته وبنوده.
والأتراك هدّدوا بما يملكون من أوراق ضغط: تريدون إدانتنا؟ حسناً، إفعلوا! ولكن تذكّروا أننا لا يمكن أن نظلّ أصدقاء وحلفاء وأبناء خندق واحد بعد ذلك. ولقد كتبوا إلى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون يهدّدون، أوّلاً، بإغلاق القواعد العسكرية الأمريكية؛ وثانياً، بمنع الطائرات الأمريكية من استخدام قاعدة إنشلريك في أيّ نشاط عسكري ضدّ العراق (وغير العراق!)؛ وثالثاً، باتخاذ خطوات دراماتيكية لخرق الحصار ضدّ الجار العراقي. وكلينتون، بدوره، كتب إلى السادة أعضاء الكونغرس يقول إنّ مصالح الولايات المتحدة وأولويات أمنها القومي على المحكّ، وتمنّى طيّ الموضوع. استجاب الكونغرس، فرفُعت الأقلام وجفّت الصحف!
في المقابل، ليست جميع تشريعات الكونغرس الأمريكي من نوع مشروع قانون مذابح الأرمن هذا، أو "قانون هلمز ـ برتون" و" قانون داماتو" حول عقاب العالم إذا تجاسر على التعامل التجاري مع كوبا وليبيا وإيران، أو إذا لم يتجاسر على نقل السفارات إلي القدس بدل تل أبيب. هنالك تشريعات يتوجّب على المرء أن ينتظر إقرارها على أحرّ من الجمر، وأن يرحّب بها ويهلّل لها حين تصبح قانوناً ملزماً للأمّة الأمريكية، وبالتالي للعالم بأسره بوصفه القرية الصغيرة الواقعة في الباحة الخلفية لتلك الأمّة.
بين هذه التشريعات، على سبيل المثال فقط، "قانون حرية المعتقد وحظر الإضطهاد الديني"، والذي وقفت وراءه أكثر من مجموعة ضغط واحدة: "التحالف المسيحي" وأتباع بات روبرتسون، اليمين المسيحي المتشدّد إجمالاً، جناح القيم الروحية في الحزب الجمهوري، اليهود المحافظون الجدد، و... السيد أ. م. روزنتال فارس الحروب الطاحنة التي يثور نقعها علي صفحات الرأي في "نيويورك تايمز". وهذا القانون ينصّ، مثل أشقائه القوانين المشار إليها أعلاه، على التهديد بفرض الحصار والعقوبات الإقتصادية وغير الإقتصادية ضدّ الدول الأجنبية التي تقمع المعتقدات الدينية. وفرسان الكونغرس، ثم مجموعات الضغط هذه، انطلقوا من مثالَيْن أساسيين: قمع اليهود في البلدان العربية والإسلامية، وقمع المسيحيين في الصين الشعبية.
ولكن القانون قانون، وليس في وسع الكونغرس أن يحصر تطبيقاته في هاتين الحالتين فقط. وبذلك فإنّ المرء، لسوء حظّ السيد روزنتال، يمكن أن يفكّر في تطبيق القانون على الدولة العبرية تحديداً، وفي هذه الأيّام بالذات. الدولة هنا، بوصفها كتلة تشريعات ومؤسسات ودساتير وأنظمة مرعية، تقوم على مبدأ التمييز القانوني العنصري بين اليهودي وغير اليهودي (أي العربي المسلم والمسيحي على حدّ سواء)، بل وبين اليهودية الأرثوذكسية (الأصولية لمن يشاء) وبين الفروع اليهودية الأخرى المحافظة أو الإصلاحية أو "التكوينية".
ثمّ في الولايات المتحدة ذاتها، وفي ولاية ألاباما تحديداً، كيف سيسري القانون على مجموعات "التحالف المسيحي" وأنصار بات روبرتسون، الذين مارسوا ويمارسون الإضطهاد المباشر (حرق البيوت، الإعتداء بالضرب، الطرد من الوظائف) على مسيحيين آخرين لا يشاطرون التحالف آراءه في هذه أو تلك من قضايا العقيدة؟ وماذا سيفعل الكونغرس إزاء عشرات الإنتهاكات المباشرة وغير المباشرة، الرسمية والشعبية، المنظّمة والعفوية، والتي باتت ثقافة شبه يومية بعد 11/9، ضدّ مسلمي الولايات المتحدة من كلّ جنس ومحتد ولون؟
إنها أسئلة لا تُطرح إلا لكي تُطرح جانباً على الفور: لكلّ قانون استثناءات، والعمّ سام مخوّل بما يشاء من تطبيق واستثناء، وخذوا الدليل الأحدث من الإجراءات المذلّة الأخيرة التي قرّرت أمريكا تطبيقها ضدّ أكثر من 23 مليون مواطن عالمي، زوّار أمريكا. ولِمَ لا يفعل العمّ سام، وهو صانع الشرائع وقابض روح الشرائع في آن؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا


.. 5 شهداء بينهم 3 أطفال في قصف إسرائيلي على حي الزرقاء جنوب مد




.. طائرة -كواد كابتر- تحلق بالقرب من منازل المواطنين بمدينة غزة


.. مواطنون أتراك يُهاجمون منازل السوريين وممتلكاتهم في أنطاليا




.. محامي ترمب السابق يخسر رخصة المحاماة بعد اتهامه تصريحات مضلل