الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم بلا نساء

طارق قديس

2008 / 5 / 17
الادب والفن


خرج حيدر من مكتب مدير شركة الإنتاج السينمائي الوطنية مسرعاً ، وقد بدا واضحاً أن الحديث مع مديره لم يكن ساراً أبداً . ثم مضى إلى مكتبه وفي يده حزمةٌ من الأوراق ، إلا أن أحد الزملاء استوقفه قائلاً :
أبشرْ ! كيف جرى لقاؤك مع سعادة المدير؟

فأجاب والحنق في صوته :
تصور ! طلبني بشكل عاجل كي يبشرني بأنه مضطرٌ لتعيين سكرتيرة جديدة لدي ، لأنها ابنة أحد المتنفذين ، علماً بأني لم أطلب يوماً شيئاً من هذا القبيل.

فعاجله الزميل بسؤالٍ آخر ، والشوق يشده لمعرفة الجواب :
وبماذا أجبتْ ؟

فتابع حيدر وقال :
قلتُ له بكل وضوح : إنه كوني المدير التنفيذي لقسم التنسيق للشركة ، يحق لي أن أرفض هذا القرار ، فأنت تعرف موقفي من النساء ، لذا إن شئت عَيِّنْها في القسم، لكن في الوقت نفسه ستجد استقالتي على طاولة مكتبك ، تاركاً لك الشركة وما فيها.

فعاود الزميل السؤال بشغفٍ أكبر ، حتى كادت عيناه تلتصقان بحيدر :
ها .. وكيف كانت ردة فعله على ما قلت ؟

عندها ردَّ باقتضاب :
لا أدري ، خرجت من مكتبه قبل أن يرد عليَّ .

ثم استطرد :
المهم ، أنا على عجلة من أمري الآن ، نتحدث لاحقاً .

ومضى إلى مكتبه ، ولم يكد يفتح الباب حتى تسمر مكانه ، إن امرأة في غاية الجمال ، تقعد أمام مكتبه ، تبدو في بداية العقد الثلاثيني من عمرها، بيضاء الوجه ، سوداء الشعر، ترتدي لباساًً ضيقاً ، مفتوح الصدر ، بلا أكمام ، وتنورة قصيرة ، لا تكاد تخفي شيئاً من ساقيها الممتلئتين.

ولم يكد يصحو من جمال المنظر حتى تمالك نفسه ، و مشى إلى كرسيه ، دون أن يكترث لوجودها ، دون حتى أن يلقي عليها التحية ، أما هي فبادرت بالحديث ، فيما هو يحاول أن يتجاهلها ، ويتجاهل جمالها ، إلا أنه لم يستطع أن يتجنبها طوال الوقت ، فجمالها كان أقوى من مبادئه ، ومن كل ما رأى.

عرف حينها أنها قرأت عن الإعلان الذي وضعته الشركة في الصحيفة الأولى ، حول حاجتها إلى نصٍّ مبكر ، ليتم تحويله إلى عمل سينمائي ، وكل ما هو مطلوب في البداية تلخيصٌ مكون من خمس صفحات للعمل الروائي الأصلي ، يتم تزويد الشركة به ، لغايات التقييم ، والدراسة .

وها هي أتت ، ومعها تلخيص لقصة كتبتها ، وضعته أمامه ، لكنه لم يكترث به ولا بها ، وكل ما فعله لها هو أنه اعتذر لها عن عدم قدرته على قبول قصتها نظراً لانقضاء الموعد النهائي لتسليم مشاركات الكتاب . وأمام هذا التجاهل المطلق لم يكن منها إلا أن استأذنت للانصراف ، دون أن تشرب حتى كوب ماء ، أما هو فأخذ يتمعن مؤخرتها الجميلة ، وبشرة ساقيها النضرة فيما هي تفتح باب الغرفة للخروج .

لقد أقنع نفسه بأنه على حق ، هو لا يحب النساء ، فلم يتزوج ، و لم يعامل يوماً أمه ، وأخواته معاملةً حسنة ، لأنهن برأيه قد فرضن عليه . فالنساء لديه قد أخذن حقوقهن ، وتمادين بالدخول إلى مجالات لم تكن لهن ، لذا فالأفضل أن يكون له عالمه الخاص ، ولهن عالمهن الخاص ، وهو ما حاول فعله طوال السنوات السابقه ، ولا يزال.

عاد بعد حينٍ إلى واقعه عندما تذكر الإعلان ، فلمحت عيناه الكم الهائل من الأوراق أمامه ، وهو المسؤول عن اختيار النص الأميز بين النصوص ، فمد يده إلى درجه ، وفتحه ليخرج منه النص الوحيد الذي أعجبه ، بعنوان ( عالم بلا نساء ) ، لمؤلف يدعى ( نهاد حمدان ) ، فهو الوحيد الذي بقي بعد أن استبعد النصوص النسائية من البداية ، ثم النصوص الذكورية في مرحلة لاحقة ، والتي تلقاها عبر مكتب الاستبقال.

فالنص يروي قصة إنسان ثري ضاق بزوجته المادية وطلباتها اللامتناهية من النقود ، وملَّ تجاربه النسائية كلها لأنه كان يرى في عيون النساء نفس الهدف من الرجال ، ألا وهو المال فقط ! لذا قرر أن يتهادن مع نفسه ، فيأخذ إجازةً من العالم ، ويذهب في رحلة بحرية عبر البحر الأحمر لعدة أيام . لكن المفارقة هي أن الباخرة التي أقلته تعرضت إلى عطل في عرض البحر ، مما تسبب في غرقها ، وهرب عدد من الركاب عبر قوارب صغيرة ، وألواح خشبية طفت على وجه الماء ، وهذا ما كان له ، أن تعلق بقطة خشبية حملها الماء بعيداً عن موقع الغرق ، ليطفو وحده لمدة ثلاثة أيام فوق مياه البحر بعيداً عن الأرض ، كاد خلالها أن يموت ، وهو ما جعله يتذكر زوجته اتي هرب منها ، ويتمنى أن يراها مجدداً ، ويفكر فيما آمن به ، إلا أن الحظ شاء بأن ينجو ، ويعود إلى عالمه الجميل في اليوم الرابع ، يعود إلى زوجته التي عرفت أنها لا يمكن أن تحيا من دونه ، فهو عالمها الجميل أيضاً.

النص جميل ، والتلخيص يتفتق عن قلمٍ رشيق واعد يحتاج إلى من يمد له يد المساعدة ، لكن هناك مشكلة ، إن النص يخالف مبادئه ، لذا إذا كتب للنص أن يظهر للعلن فلا بد للنهاية أن تتغير.

حاول غير مرة - دون اقتناع - أن يقذف بالنص إلى القمامة ، ويختار نصاً آخر ، غير أن شيئاً ما شده إلى النص ، شيئاً ما جعله يبحث في السيرة الذاتية المرفقة بالتلخيص ، والتي لم يدون فيها سوى :

الإسم : نهاد نهاد حمدان
السكن : العاصمة

إضافة إلى رقم هاتف خلوي غير مستعمل ، ولضيق الوقت ، آثر أن يحاول الاتصال مجدداً ، لكن هذه المرة من خلال الرقم الخاص بمكتب استعلامات شركة الهواتف العامة . عندئذٍ اتصل ، وسأل عاملة المقسم عن هاتف السيد نهاد حمدان ، فلم تمض ثوانٍ حتى كان الرقم قد دُوَّن على أجندته الخاصة ، ولم تمضِ فترة مماثلة حتى رفع السماعة محاولاٍ الاتصال به.

إنها مفاجئة ! إنه يسمع الرنين عبر السماعة ، لكن أحداً لا يرفع السماعة المقابلة .

وفيما هو يهم بإقفال الخط ، سمع أحدهم يقول : آلو . فوضع السماعة على أذنه ، وقال بسرعة :
مساء الخير . أهذا منزل السيد نهاد حمدان ؟
نعم . إنه هو .
أيمكنني أن أكلمه ؟
الآن لا يمكن ، فهو في المستشفى .

فوجئ حيدر بما سمع ، فتابع سائلاً :
في المستشفى ؟ خير ؟ هل هناك خطبٌ ما ؟

فأناته الصوت قائلاً :
إنه بخير ، لكن حالة الآنسة الصغيرة هي التي في خطر ، فربما بين لحظة وأخرى تدخل إلى غرفة العمليات.

فتابع في سؤاله :
وفي أية مستشفى هو؟

قال هذا ، وأخذ يُدَوِّن العنوان ، ثم أغلق الهاتف ، وقفز عن كرسيه ، ومضى إلى خارج المبنى متوجهاً إلى المستشفى.

هناك ، لم يجد صعوبة في العثور على غرفة ( نهاد حمدان ) ، فالكل يعرف هذا الاسم بوضوح ، والجواب دائماً ، الغرفة 111 ، إنه حقاً لرقمٌ مميز.

في النهاية وجد نفسه أمام باب الغرفة ، فدق الباب ، ثم فتحه بهدوء ، ودخل . إنها غرفة واسطة ، يتوسطها سرير ترقد عليه فتاة نائمة ، صارخة الجمال ، بدت في نومها تشبه كثيراً تلك ( الأميرة النائمة ) التي قرأنا عنها في القصص.

أخذ يقترب منها شيئاً فشيئاً ، لكنها استيقظت على وقع خطواته ، فجمد في مكانه ، وبدأ ينظر إلى عينيها الزرقاوين ، أما هي فأخذت تنظر إليه باستغراب ، حتى كسرت الصمت وسألته :
تفضل ! هل تبحث عن شيءٍ ما ؟

فأجاب بتردد :
إني أبحث عن السيد نهاد حمدان ، لقد أبلغت أنه هنا.

إن أبي ليس هنا ، لقد ذهب إلى مكتبه قبل قليل ، لكنه سيعود بعد نصف ساعة ، إذا رغبت يمكنك انتظاره ، فهو لن يتأخر .
فقال :
لا . شكراً ، لكن رجائي أن تبلغيه أن حيدر عبد الحق من شركة الانتاج يرغب برؤيته في السرعة الممكنة ، بخصوص إحدى قصصه الجميلة.

عندئذٍ ، بدا عليها شيء من الدهشة ، سرعان ما تحول إلى ابتسامة عريضة على وجهها الأبيض ، وفيما وهو شارعٌ بالخروج من الغرفة ، استوقفته الفتاة ، وهي تقول : أستاذ حيدر . لحظة من فضلك ! فتوقفت ، ومن ثم التفت إليها منتظراً أن تتابع كلامها ، فقالت :
هل تقصد أنه قد وقع اختيار الشركة على قصة ( عالم بلا نساء ) ؟

فقال بنبرة هادئة :
يبدو كذلك ، ولكن هل أخبرك الوالد عنها شيئاً ؟

فأجابت بفرح :
ولماذا عليه أن يخبرني شيئاً عنها إن كنت أنا من كتب تلك القصة ؟

وهنا كانت الصاعقة ، هي من كتب القصة ، فلم يصدق ما سمع ، فقام بسؤالها على عجل :
أنت ؟ ولكن من كتب القصة هو نهاد حمدان ؟

فلم تخفِ دهشتها وهي ترد قائلة :
وما في ذلك ؟ أنا نهاد حمدان .

وهنا تذكر حيدر ما قرأه في ورقة السيرة الذاتية ، قرأ الاسم : نهاد نهاد حمدان ، لكن شكاً لم يراوده في احتمال أن تكون ذلك الاسم يعود لأنثى ، لو حتى بنسبة واحد في المئة.

وهنا أحس بصدره يضيق ، فارتمى إلى الكرسي المجاور إلى سريرها ، و بدأ يرخي ربطه عنقه ، أما هي فقفزت عن سريرها متجهةً إليه ، متناولة كوب ماءٍ كان يتوسط المنضدة ، وذلك لكي يشرب.

المفاجأة فاقت كل التوقعات ، فاقت كل تصور حتى كاد أن يغمى عليه ، الأسئلة الكثيرة تتزاحم في عقله ، لكنه بعد أن تمالك نفسه ، هدأ ، ثم بدأ يتجاذب معها أطراف الحديث ، خاصةً وأن براءتها المطلة من وجهها قد ألقت بظلالها عليه ، فتجرأ وسألها :
إذن أنت من كتب تلك القصة !

ثم استطرد قائلاً بعد وقفة قصيرة :
- ومنذ متى تكتبين ؟
وابتدأت تسرد له تفاصيل عشقها للكتابة شيئاً فشيئاً - رغم أنها من عائلة ثرية - تفاصيل سعيدة وأخرى حزينة ، غير أنها منذ فترة ليس بالبعيدة أصيبت بمرض خبيث ، وقد أجمع الأطباء أن الحل الوحيد الذي يمكن أن يمنحها الشفاء هو إجراء عملية جراحية ، وهو ما سوف يحدث فعلاً صباح اليوم التالي .

عندها أبدى أسفه على ما سمع ، إلا أن ذلك لم يمنعه من طرح السؤال الذي من أجله إلى هذا المكان ، هل بإمكان نهاية قصتك أن تكون نهاية مختلفة ؟

حينها قالت له أن هذا العالم ليس رجلاً فقط ، وليس أنثى فقط ، إن العالم هو للرجل والأنثى ، وبالرجل والأنثى ، لكن المشكلة أن كثيراً من الرجال لا يبحثون إلا على جسد المرأة فقط لكي يطفئوا شهوتهم ، وكثيراً من النساء يبحثن على ثروات الرجال فقط لإطفاء حاجاتهن التافهة ، بينما الحقيقة هي شيءٌ آخر ، هي أن كلا الطرفين لا بد أن ينظر في عيني الآخر بدلاً من النظر إلى جسدها أو إلى جيبه ، لذا لم يكن من مجالٍ آخر للقصة سوى تلك النهاية ، وهذا من وجهة نظري.

عندها صمتت ، وعيناه لا تكادان تفارقان وجهها ، وأذناه لا تكادان تنفكان عن سماع كلماتها ، وكأنه استمتع بما سمع ورأى . وفي النهاية ارتسمتْ لقد أحس حيدر بأن إحساساً جديداً قد ولد في داخله ، أحس بها في داخله ، و أيقن أن في هذا الزمن الردئ الذي تبحث فيه المرأة عن المال في كل الزوايا ، توجد امرأة ما في زاوية أخرى من العالم تبحث عن الحب الصادق ، وكلها أمل بأن تجده يوماً ، رغم أن المرأة هي المرأة .

وهنا قام عن المقعد ، وابتسم إليها وهو يقول :
أنا مضطرٌ لأن استأذن ، لكني أعدك أن أمر بك غداً ، وغداً لنا لقاء .

ومدَّ يده ، وسلم عليها ، ثم مشى نحو باب الغرفة ، ثم التفت ونظر إليها مجدداً ، لكنه كان يراها هذه المرة فتاة أخرى غير تلك التي رآها أول مرة ، رآها أجمل مما كانت ، فودعها ، ومضى في طريقه إلى مكتبه ، وهو يرى كل النساء من حوله مختلفات هذه المرة ، بعد أن أيقن في قرارة ذاته أنه ما من عالم في هذا الكون بلا نساء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي