الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الشيء ونقيضه -ثنائية فلسفية عميقة تؤثث ديوان -بين -ذراعي قمر-* للشاعرة فاطمة الزهراء بنيس.

مصطفى لغتيري

2008 / 5 / 16
الادب والفن



"الشيء و نقيضه "من المقولات العميقة التي حكمت الفكر الإنساني منذ القدم، و قد اتخذت هذه المقولة لنفسها لبوسا متعددة ، أبرزها جبة "الخير و الشر" التي ارتدتها الديانات باختلاف مرجعياتها ، وقد نقح الفكر الفلسفي هذه الثنائية حتى اتخذت لنفسها طابعا مغريا ، أضحت معه قادرة على احتواء كثير من المفاهيم تحت مظلتها ، حتى أن فلسفة بعينها قامت على أساسها، أقصد فلسفة الفيلسوف الألماني كانط الذي صاغها في عبارتي"الشيء في ذاته" و" الشيء لذاته" .


ولما كان الأدب منشغلا إلى أبعد الحدود بالكشف عن العمق الذي يحكم الإنسان و يوجه تفكيره وأحاسيسه ، فقد وجد الشعراء في كثير من المقولات الفلسفية ضالتهم ، فركبوا مطيتها من أجل صياغة قصائد شعرية عميقة و بعيدة الغور ، ومن هذه المقولات ثنائية "الشيء و نقيضه".
و المطلع على ديوان " بين ذراعي قمر" للشاعرة فاطمة الزهراء بنيس ستلفت انتباهه- لا محالة - هذه الثنائية ،التي تؤثث قصائد الديوان على امتداد صفحاته، و المتمثلة في " الماء و النار" ، ومما يؤكد أن الشاعرة قد عمدت إلى هذا التوظيف عن سبق إصرار و ترصد ، و لم يأت عفو الخاطر ، أنها عمدت إلى عنونة قصائد من الديوان بما يوحي بذلك ، أعني حضور" الماء و النار" ، أو أحدهما ،أو ما يدل عليهما في العنونة ، و أبرز هذه العناوين " لهب الماء " و " عرش من يحموم" بحر ليس كالبحار" و ملذات الجحيم" .
و يمكن من خلال رصد معجم الديوان و تراكيبه و صوره الشعرية ومن ثمة رؤيا الشاعرة أن يتأكد ما ذهبنا إليه و يتزكى لدى القارئ.
فعلى مستوى المعجم ، يلاحظ المتلقي طغيان الحقل الدلالي للماء و النار ، بحيث يخترق هذان الحقلان الدلاليان جل القصائد ، ويفرضان على النصوص حضورهما القوي و الفاعل، حتى أنهما يطغيان على ما دونهما من الحقول الدلالية الأخرى ،و يجعلانها تابعة لهما ، فتكتسب هذه الحقول الدلالية عمقها الدلالي من خلال الاحتدام بين هاتين اللفظتين المتناقضتين ، فيولد تضادهما- نتيجة لذلك- معاني بلا حصر ، تنفتح معها شهية التأويل على مصارعها .
فبالنسبة للحقل الدلالي للماء يمكننا أن نقف على الألفاظ التالية
أمطرت – يرتويان – بحر- الموج – شلال – مسكوب – الماء – ري –
غيمة – سالت – جرعة..


أما فيما يخص الحقل الدلالي للنار ، فيمكن رصد الألفاظ التالية .. لهب- - تلتهب – أذاب – الشرارات- الجحيم – يحموم- النار- النور – صهدنا..
و قد ساهم التكرار الذي توسلت به الشاعرة في إغناء معجمها الدلالي للماء و النار في تعميق هذا الاتجاه، من خلال الاستناد على توظيف المعطى الصرفي ، بما يعني ذلك من مشتقات تؤدي نفس وظيفة اللفظتين المبؤرتين للقصائد ، أعنى لفظتي الماء والنار ، وهكذا تناسلت في القول الشعري كلمات من قبيل :
اللهب يلهبني – تلتهب
-سال – سيول- سيل - سيلي - يسيل
- أمطر – المطر – أستمطر- الممطر- أمطرتني
و قد أثر هذا المنحى، الذي ارتضته الشاعرة فاطمة الزهراء بنيس لنفسها منهجا في صوغ قصائدها، على المنحى العام، الذي اتخذته الجملة الشعرية في الديوان ، فجاءت – نتيجة لذلك - قلقة ، تتوسل صيغة الاستفهام ،و الشاعرة هنا ليست معنية بتقديم أجوبة، و إنما هي شديدة الحرص على أن تبقي جذوة الأسئلة متأججة ، تحرق بلوعتها كل من راودته نفسه على ملامسة القصائد و التعاطي معها ، ويمكن أن نرصد بعض هذه الجمل المعبرة عن ذلك فيما يلي، مع مراعاتنا الحرص في تقديم هذه النماذج ، على ضرورة انسجامها مع معجم" الماء و النار" إما بتوظيف اللفظتين مباشرة أو ما يدل عليهما

- كيف للماء /أن يعتق صهدنا؟
- أية نار مست عماي؟
كيف كان انسيابك/ بين الشقوق؟
من يعيرني حاسة / أتجرع بها معناي؟
-
أي نار/ مست عماي؟ أكانت رؤيا / أم كانت لوعة من السماء؟
من مخر غيمة العميان؟
و قد تأكد هذا اللا يقين، الذي تضرب الشاعرة في أرضه غير هيابة، من خلال الطابع البصري للكتابة على صفحات الديون ، إذ جاءت الجملة موزعة كليغرافيا على الصفحة بما يعزز هذا التوجه، فيذكي في وجدان المتلقي و ذهنه حيرة مضاعفة ، تستحثه لملء البياض أو الضرب عنه صفحا ، حتى لا يتورط في عالم شعري لا يقدم نفسه بسهولة ويسر .
و تسلك الصورة الشعرية في الديوان نفس المسلك ، إذ أنها ساهمت في تأجيج روح "الشيء و نقيضه "المتمثل في ثنائية الماء والنار ، فانبنت الصور الشعرية على خلفية هذه الثنائية ، لتكسب الديوان انسجاما يتلاءم مع معجمه و تركيب جمله ، ويمكننا أن نقف عند نماذج من ذلك على سبيل التمثيل لا للحصر، فنذكر منها :

-يفوح/ عبر زخات جمر
-نقعت شهواتي / في كلمات
-يرقد الماء.
-شيعت ذاكرتي/ في تابوت من زلال
- سال العراء بومض خاطف
من مخر غيمة العميان.

أمطر بحارا.
بلهيب الوحي ذابت.
وانسجاما مع طبيعة المعجم و الأساليب و الصورة الشعرية، كما تم التطرق إليها أعلاه ،جاءت رؤيا الشاعرة متسقة مع ذلك كله ، إذ أن الحيرة والشك واللايقين تحكمها منذ بداية الديوان حتى آخره ، فهذا التضاد الدلالي المؤطر للقصائد ألقى بظلاله الثقيلة على النفس الشعري للديوان فألقي به في متاها ت اللايقين.. تقول الشاعر "لست على يقين/ بمداي"و في مكان آخر "هيهات أن أمتلك معنى"و في مكان ثالث " باللامعنى/ هامت دائخة/ بنفح من قمر"
و أمام هذا اللايقين والعماء لم تجد الشاعرة بدا من الارتماء في حضن التيه و اللا انتماء ،معبرة- من خلال ذلك- بعمق عن حيرة الإنسان الحديث و فقدانه للمعنى في العالم والقيم، تقول الشاعرة" كم يطيب لي/ أن أنغرس/ في اللانتماء/ كأنني هباء"
ورغم ما يطبع القصائد من أجواء تميل نحو الاحتفاء باليباب و اللاجدوى و اللايقين ، فإن الشاعرة سرعان ما تباغتنا بيقظة مفاجئة ، تنتصر فيها للأمل و التمسك بحقها في المضي قدما في دروب الحياة ، و كأنها عنقاء تنبعث من رمادها ، لتشق طريقها نحو المستقبل بقوة وثبات ،فتنشد ملء الصوت و الحواس "كالماء /أبدع مجراي / و أمضي/ لأنبع/ من غيم آت/ أو / من صمت مشحون".
و أخيرا فإن المتصفح لديوان " على ذراعي قمر "لاريب سيلمس عن كثب كيف ساهمت ثنائية "الشيء و نقيضه " في منح القصائد بعدا جماليا و عمقا فكريا لا غبار عليهما ، و أهل - بالتالي- القول الشعري في الديوان ليكون محفزا على تعدد القراءات و الإغراق في متاهات التأويل ، وتلك - لعمري- بعض سمات نجاح النص الأدبي.

* فاطمة الزهراء بنيس- بين ذراعي قمر – دار ملامح للنشر القاهرة الطبعة الأولى 2008.

__________________________________________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الغناء في الأفراح.. حلال على الحوثيين.. حرام على ا


.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب




.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ


.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش




.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا