الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في تحولات الثقافة الإنسانية : العودة إلى الغابة !

كريم عبد

2004 / 1 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


رغم كثرة أطروحاته المثيرة للنقاش، فان واحدة من أهم تصورات سيغموند فرويد حول أسباب وخلفيات نزعة العنف عند الإنسان، تتجلى في مقولته المدهشة ( الإنسان غادر الغابة لكنه ظل يلتفت إليها بحنين ) وهذه العبارة التي تنتمي للدارونية بوضوح، بما تنطوي عليه من توجه نفسي وفيزيلوجي، ربما كان لها تأثير على بلورة أطروحة كارل يونغ الهامة حول ( اللاشعور الجمعي ) أي استمرار ماضي العالم بكل تفاصيله وحيواته وتناقضاته داخل كل إنسان عبر ديمومته في اللاشعور الجمعي ..، حيث ساهم ذلك في تفسير استمرار ظاهرة العنف والعنف المضاد في سلوك البشر وتمظهراتها العديدة الجنسية والاجتماعية، الى جانب الصراع على مصادر الطاقة والمعرفة والمعلومات، وعلى الأوطان والحدود والأسواق ...الخ. لكن وبعد كل تلك الحروب والكوارث الرهيبة، فان ظهور التقنيات الحديثة وخاصة الكومبيوتر وما استتبعه من تطورات كثيرة تم تتويجها بالانترنيت وما سمي بثورة المعلومات، واستخدام كل ذلك في غزو الفضاء وإدارة الدول وإنجازات الطب الحديث.. الخ، سيحمل تأثيراً نوعياً على إمكانية تقارب ثقافات البشر، وعلى حجم التأثير المتبادل والانعكاسات المتوقعة وبشكل خاص على الثقافة الحقوقية واحتمال توحدها في بلدان العالم المختلفة، .. ولكي نبين معنى ذلك سيكون بوسعنا أن نرجع الى ما قبل ألفي سنة من تاريخ الإنسانية، ولنأخذ المسيحية بصفتها ظاهرة ثقافية، سنجد بأنها تشكلت بموازاة ثقافات معينة وفي مواجهة ثقافات أخرى، فقد تبلورت المسيحية بصفتها استجابة لثقافة البحث عن خلاص ومخلّص عند الجمهور العريض الذي كان يعاني معاناة هائلة من ثقافة الطغيان المتمثلة بالإمبراطورية الرومانية - التي ستصلب المسيح لاحقاً - وقبلها ثقافة القصاص التي كانت تمثلها الثقافة البابلية :( العين بالعين والسن بالسن ومن يُحطم قلباً يجب أن يُحطم قلبه .. ) ولذلك جاءت الثقافة المسيحية نقيضة للطغيان والقصاص. وحيث نشأت بين فقراء اليهود فقد جاءت مناقضة لثقافة أثريائهم الذين أرادوا إحلال الذهب محل كل ما عداه من قيم ومفاهيم !! لذلك أراد يسوع الناصري إحلال المحبة والرحمة محل الذهب وبرودته ومحل العنف والحيف الناتج عن الصراع على الذهب، .. وهكذا سنجد بان الظواهر الثقافية ذات المنحى الاستراتيجي في تاريخ المعرفة الإنسانية، والمستمرة التأثير، إنما تتبلور كنتيجة لتراكمات وصراعات ثقافية تستغرق فترات طويلة، لذلك تكتسب الصدقية التي تجعلها تستمر وتتجدد عبر عصور متتالية.
لكن الانتقال الحضاري النوعي المتمثل بالتطورات الهائلة التي حققتها وسائل الاتصال والمواصلات المعاصرة، والتي حولت العالم من دول وقارات وبالتالي ثقافات متباعدة، تتأثر ببعضها البعض ببطء شديد، الى مدينة واحدة متقاربة ومفتوحة على بعضها البعض، تتبادل الخبرات والمعلومات خلال دقائق، .. هذا المعطى الجديد بما ينطوي عليه من إنتاجية ثقافية وفعالية سريعة النتائج، هو الذي سيتدخل في عملية تأثر الثقافات بعضها بالبعض الآخر ومن ثم بلورة ثقافة إنسانية حقوقية متقاربة تنطوي على كافة إيجابيات الثقافات الإنسانية المختلفة، ولأن الأجيال الجديدة وتطور قدرة البشر على إدراك وتطوير مصالحهم المتنوعة، كل هذا ربما سيخلق قلقاً عالمياً حقيقياً ومشروعاً من استمرار وتقدم ثقافات وسياسات الاستبداد التي تشجع على نشوء السلطات الديكتاتورية والأنظمة الشمولية، بما تسببه من تدهور في إنتاجية جميع الكائنات والظواهر الضرورية. لذلك سيكون من المتوقع أن تضمحل حتماً تلك النزعات الاستبدادية الغريزية التي تتقنع بالعقائد والأيديولوجيات لتبرير العدوانية وممارستها دون أن تكون لها أية علاقة بمصالح الناس. ولذلك ستتحول مثل هذه الظواهر الى فضائح عالمية تثير الاحتجاج والاستنكار في كل مكان !!
 ستجعلنا تقنيات الاتصال والمواصلات وثورة المعلومات أمام حقائقنا وتناقضاتنا ونقاط قوتنا وضعفنا وجهاً لوجه، كاشفة الشعوب والأفراد أمام بعضهم البعض. وهي بذلك ستخفف إذا لم تلغ المزيد من التوترات النفسية والعقلية التي تنشأ عادة بسبب عدم معرفة الآخر والشعور المتبادل بالغربة الأمر الذي يساعد على نشوء وتكريس العنصرية. وإذ تجد أكثرية الناس مصلحتها في تعرية السلطات الجائرة عبر تعميم ثقافة إنساني بسيطة وواضحة مفادها :
1- حياة الإنسان قصيرة ومحدودة، لذلك فمن حق كل إنسان أن يتمتع في حياته بالحرية والكرامة.
 2- البشر الميالون للاستبداد هم مرضى ومأزومون ولأنهم كذلك فهم يريدون تعميم أمراضهم وأزماتهم على الآخرين. وكل هذا يجعل كل يوم من أيام ضحاياهم دهراً من العذاب. وعليه فأن الاستبداد هو أكثر الأفعال لا أخلاقية في سلوك البشر.
إن العودة الى هذه البراءة الواعية هي التي ستعطي القرن الواحد والعشرين هوية إنسانية مناقضة لهوية القرن العشرين الذي شهد أكثر أنواع الحروب اتساعاً وهمجية في التاريخ، .. فلعلنا نشهد عصر انقراض ثقافات الاستبداد بمختلف أشكالها، ولعل عنق الإنسان يظل ملتوياً حنيناً الى الغابة، ولكن بدافع آخر، فلعله يعود إليها هذه المرة ليطرد منها الوحشة والوحوش !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. ماذا حمل المقترح المصري؟ | #مراس


.. جنود أميركيون وسفينة بريطانية لبناء رصيف المساعدات في غزة




.. زيلينسكي يجدد دعوته للغرب لتزويد كييف بأنظمة دفاع جوي | #مرا


.. إسرائيليون غاضبون يغلقون بالنيران الطريق الرئيسي السريع في ت




.. المظاهرات المنددة بحرب غزة تمتد لأكثر من 40 جامعة أميركية |