الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السياق الجمالي للعقاب .. قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابها لمهدي بندق

محمد سمير عبد السلام

2008 / 5 / 20
الادب والفن


تحتل فكرة العقاب حيزا كبيرا في اللاوعي الجمعي للإنسان ، و كذلك النصوص الأدبية ، و التاريخ ، و الدراسات الثقافية ، و التفكيكية المعاصرة ، بل إنها تمتد من الشعور بالدونية أمام قوة الطوطم في النقوش الجدارية القديمة ، حتى تضخم عقدة الذنب ، و تناميها شكليا دون ذنب حقيقي داخل الإنسان المهمش في المجتمع المعاصر .
ارتبط مفهوم العقاب في التراث الإنساني بالجسد ، و الممارسات الجنسية ، و الموت ، و نقصان المال ، و الرغبة الدفينة في قتل الأب أو الأم ، و التكفير عن الذنب الأول First Sin ، و تكوين الجهاز النفسي انطلاقا من تقمص الأب عند فرويد ، و تناقضات عملية تفكيك المركز في علاقتها بالإيروس عند جاك دريدا .
و يمكننا قراءة ديوان " أقلب الإسكندرية على أجنابها " لمهدي بندق – الصادر عن دار تحديات ثقافية بمصر – من خلال إعادة إبداع مهدي بندق لفكرة العقاب في سياق جمالي جديد يكتسب من الماضي قوة الانسحاق الإنساني حتى تبلغ ذروتها فيما يتجاوزها ، و هو السياق الجمالي للعقاب ، و فيه نلمح طاقة خفية صامتة تنبع من المحو ، و التدمير المستمر للأنا شكليا ، في صورة عبثية تحمل تاريخ الذنب دون الذنب نفسه .
ما يهمنا إذا هو المعنى الثقافي الجمالي المنتج للتو من اكتمال المحو عند مهدي بندق ، و لكن لا يمكن إنتاج هذه الدلالة في القراءة دون المرور على لغة فرويد التأويلية للجهاز النفسي ؛ فهو يرى أن الأنا الأعلى يغوص في أحشاء الهو ، إذ إنه مضطر إلى أن يتصل به ؛ لأنه وريث عقدة أوديب ، و هو أبعد عن النظام الإدراكي من الهو ، و أكثر ارتباطا بالدونية ، و عقدة الذنب ، و الماضي ، و التوحد بسلطة الأب ( راجع – فرويد – محاضرة تمهيدية جديدة في التحليل النفسي – ت عزت راجح – مكتبة مصر – ص 60 و 72 ) .
إن قوة المنع الكامنة في الأنا الأعلى عند فرويد ، تتحول عند مهدي بندق إلى سلطة ثقافية لا حدود لها بحيث تترك الأنا ، و قد تم استبداله تماما بالفراغ . هذا الفراغ هو أثر المعاقبة ، و الذات التي تخلصت من هامشيتها عن طريق إدراكها لجماليات المحو في القصيدة .
و لأن الأنا الأعلى يقهر الانجذاب الإيجابي ، أو السلبي نحو الأنوثة ، فقد تعقدت علاقة المتكلم بالأنثى / الإسكندرية ، و الأنثى / القصيدة ، فنراه يتطرف في الاتجاهين الجنس ، و قتل الأم ، أو الأب معا كنوع من مقاومة الأنا الأعلى الثقافي ، و ممارسة الرغبة الدفينة في تدمير القوة ؛ و لهذا نراه يتماس مع أوديب ، و أوريست ليحقق الخطيئة ، أو يقتل كليمنسترا ليستعيد قوة أجاممنوم الأب في اتجاه مضاد للأبوية المطلقة ، و تنتصر قوة المحو كحل أخير في الديوان لسلطة العقاب ، و ذلك بتحويلها إلى قوة جمالية .
لقد ارتكز الأدب الروائي و الشعري الحديث على الرغبة في اختفاء الذات التي تنتظر العقاب ؛ فبطل الجريمة و العقاب لدوستوفسكي حريص على أن لا يرى أبدا ، و بطل الحمامة لباتريك زوسكيد يخاف من الحمامة ، و أخيلتها المزعجة لوحدته السرية ، و كذلك نلمح في الشعر آلام بودلير الملحة ، و جحيم رامبو ، و غيرهما .
و لكن المتكلم عند مهدي بندق قد فرض عليه المحو قبل أن يتقمص قوته الجمالية ، فجاء الانفصال بين الحالتين كبيرا ، و مجسدا لحالة مريرة من الصراع غير المبرر بين الأنا و السلطة ؛ و لهذا كان التحول باتجاه المحو أكثر براءة ، و إيغالا في الأداء لا التأمل البطيء لعمليات الانعزال ، و الاختفاء الاختيارية التي كشف عنها الأدب الأوربي .
في نص " عيون المطر " يستشرف المتكلم البهجة الموعودة ، كفضاء يتحد فيه بالقصيدة خارج الغياب ، و التمرد معا ، و لكن الذات الأخرى بما تملك من قوة شعرية ، و كونية معا تنبع من الإحساس بالتمرد ، و الانسحاق معا لتتجاوزهما في سياقهما الجمالي الذي يرتبط عند الشاعر باستدعاء صور الخصوبة مثل الأنوثة ، و المطر ، و الانطلاق المميز للغرائز ؛ يقول :
" حتى انقسمت اثنين / فواحدٌ هو للغياب ِ من الولادةِ للوفاةِ فلا يُحِسُّ الكارثة / وواحدٌ يلقى بيقظته المسوخ... برحيق الخطر../ فمالك لا تـُطلقين القصائد َ سهما ً فسهما ً/ إلى أن تُطل من الصخر ِ يوما ً / عيون ُ المطر " .
الشعور بالانقسام يجسد الصراع بين العقاب ، و ما وراء العقاب من تمرد بهيج يسهم في إعادة تكوين المتكلم باستمرار انطلاقا من صخب التحول ، و الصراع ، و التفكك .
و في نص " ظل الملك " تأتي عقدة الذنب شكلية ، و فارغة من مضمون الجريمة ، و العقاب معا ، و كأنها إعادة تأويل لمأساة أوديب ، في اتجاهين :
الأول : ارتباط التاريخ الأوديبي بلحظة نشوء المتكلم في القصيدة ، و كأنه حمل جرم أوديب دون أن يعيش تفاصيل المأساة ، و من ثم تتكرر دائرة العقاب شكليا ، و تاريخيا ، و نصيا في الوقت نفسه بحيث تشكل بداية مستمرة لتوحد الأنا بالظل ، أو الهامش .
الثاني : توليد القصائد من داخل حالة الخضوع ، و الهامشية ، و من ثم تناميها جماليا كسياق مضاد للعقاب من خلاله . هل يستعاد أوديب بصورة تمثيلية جمالية مجردة ليتمرد على تاريخه ؟ أم أنه يحاول قتل المعرفة في ذاته من خلال الآخر لكي يستبق قتل الأب ؟
يقول :
" القطاراتُ خادعة ٌ كلها / (نحن نعلمُ) / أوراقنا مِزَقٌ كلها / (نحن نعلمُ) / بينا ترفرفُ منا القبورُ/ وراء ظلال القطار الأخير / قال لي غامضًا:أنت لم تقتل الأبَ عند الحدودِ / ولم تستبح غرفةَ الملِكةْ / فاجلس إلى ظل نخلتك البدويةِ بين / غيوم البلاء ِ/ ورَتِّلْ قصائدك المستديمةََ / يشتد عودُ التسلط فيها / ويرتدْ غصنُ الخضوع إليك خيوطًا " .
إن استعادة مهدي بندق لتراث الإدانة من الفن ، و التاريخ تؤكد مقاومة البعد الجمالي لحتمية العقاب الشكلي الموروث في الوعي ، و اللاوعي . هذا البعد الجمالي يشكل إشارة ثقافية لرغبة خفية في التمرد ، و هدم المركز مثل التي نجدها داخل كل من أوريست ، و إلكترا باتجاه الأم كليمنسترا . يبدو هذا واضحا في نص " كرمة الإدانة " ، يقول :
" أسأل ُ عن سيِّدٍ تنكَّرَ / (في هيئة سيف ودرع) / بينما هو في داخله مُزْنَة ٌ/ تقطـِّرُ الضياءَ في العيون المطفأة / سألتهم عنه / فثبّتوا مفاصلي / في اللحم بالحديد / في الغداةِ / سوف أذبح كليتمنسترا .. لكي يعود لي أبي / وها أنذا ألطمُ وجه شقيقي / ليدرك الجمالَ المختبئَ الأزليَّ / في طلحةِ العصيان " .
لقد اقترن ذوبان الجسد ، و اختفائه الأولى بتنامي الحنين الدفين للخطيئة / قتل مركزية الأم المسيطرة ، و من ثم محاولة استبدالها وفقا لقوة العقاب المتجدد الذي يشبه المركز ، و لكن في صورة نصية و ثقافية مضادة .
إن الرغبة المزدوجة في الاندماج بالأم ، و تدميرها أو استبدالها تبلغ ذروتها في نص " أقلب الإسكندرية على أجنابها " فالمتكلم يكتسب وجوده في العالم انطلاقا من أنوثة المكان ، و أخيلته ، و لكن هذا التوحد ينطوي على رغبة في المحو ، و الحذف أيضا باتجاه تلك القوة التي صارت جزءا من المتكلم يكشف عن تعالي الوعي و انهياره معا ؛ يقول :
" أنا هذي المدينة ُ في زجاجة / رسالتها التي لا ُتقرأُ ، انبقعتْ بلحمِ غلافها الأختامُ ، ترحلُ في سفينة بعلها الأعمى/ غَْررّتْ بي/ هذه الإسكندرية ُ في الصبا / أوعزتْ أنْ سوف تأتي بالأحبة / ثم ولت / مثل وجهٍ ذاب في فنجان قهوته الصباحية /أتلف التذكارَ صحوٌ فاترٌ منه " .
تلتحم الإسكندرية بأنوثة مجردة تكمن فيها الذات المتجاوزة للتهميش ، و لكن في سياق التناقض التكويني بين القتل و التوحد ، الانسحاق و الرغبة في استبدال القوة .
و في نص " الكمائن " يقترن التفرد ، و الاختلاف بحتمية المحو ، و كأن الأخير يمارس دوره منذ البداية ، منذ أن قرر المتكلم أن يحفر الأثر / الذات أو القصيدة .
هذا الأثر علامة للتمرد ، و ما يتبعه من هدم للمركز ، و تحقق المتكلم ، و هو علامة نهايته ، و عقابه المتجدد ؛ يقول :
" مثل قطار ذي دخان أسود كنت / وذات يوم قلت أخرج قليلا ً عن القضبان / .. قطار ذي دخان خرج قليلاً عن القضبان / فكان ضروريا ً أن تؤدي الممحاة ُ وظيفتها " .
و في نص " جاء دوري " يتسع الفضاء المتجاوز للذات المعاقبة ليحتوي قوة الأنوثة ، و جماليات الموسيقى الكامنة في ضربات القدر لبيتهوفن ، و بحيرة البجع لتشايكوفسكي ، فتبرز أمامنا دائرية المحو وحدها في المشهد ، و قد حولت تاريخ القهر إلى جمال لا مرئي .
محمد سمير عبد السلام – مصر









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى