الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجنون

على أحمد على

2008 / 5 / 20
الادب والفن


- التمعت عينان خلف شاهد أحد القبور وراحتا تنظران في حذر وخوف واضطراب وترقب الرجل الذي راح يتلفت حوله في خوف وذعر ، ثم أخرج من حقيبته الصغيرة معولا وراح ينبش في أحد المقابر التي كان من الواضح أنها أغلقت حديثا ثم مد يده بحرص وراح يعبث هنا وهناك ، حتى توقفت يده عن الحركة ، ثم جذبها للخارج في شدة .. لتخرج وقد أطبقت على فك من الأسنان الذهبية .. ورفعه أمام عينيه في فرح ثم توجه إلى أحد الجدران المتهدمة ، وحفر حفرة صغيرة وضع فيها طاقم الأسنان الذهبية بعد أن نزع عنه الأنسجة التي علقت به وهو يخرجه غير باد على وجهه أي نوع من التأفف أو الرهبة أو احترام لحرمة الموت .. فقط وجه جامد وكأنه يلبس قناع يخفي انفعالات وجهه أو كأن نفسه تحجرت فأقفرت من الانفعالات ، فلم تعد تلقي بها على صفحة الوجه .. فما الوجه إلا مرآة للروح وساحة لعرض انفعالات النفس ، وفجأة .. سمع الرجل صوت مرتفع يصرخ : " مين ؟ " كان صوت الخفير المكلف بحراسة القبور قد لمح ظلا يسعى بين القبور .. قالها الخفير بصوت عال أجش مذعور وهو يرتعد من الخوف محاولا التماسك وكل الحكايات الخاصة بالجن والعفاريت تجول بذهنه ، وما أن قالها حتى ارتعدت فرائص اللص وفر هاربا تاركا الطقم الذهبي مخبأة بجوار الجدار المتهدم .
- واخذ الخفير يجوس هنا وهناك إلى أن أحس بوكزة في ظهره فكادت روحه تصعد إلى بارئها وتجمد الدم في عروقه ، ولكن وفي لمح البصر وجد صاحب الوكزة أمامه وهو يضع يده في فمه وعلى وجهه ابتسامة طفولية وقد ارتدى جلبابا فضفاضا وعلى رأسه عمامة كبيرة التهمت جبهته بالكامل وغطت بعض أجزاء من حاجبيه فتنفس الصعداء ، ثم استعاد حزمه مرة أخرى قائلا في نفسه : " المجنون " ثم رفع صوته محاولا أن يجعله عاليا قدر ما يستطيع وقد هدأ وزال عنه خوفه قائلا : " بتعمل إيه هنا يا وله يا مجنون ؟ " فاتسعت ابتسامة المجنون في مرح طفولي وقال بكلمات ممطوطة وعلى وجهه ظهرت أمارات السذاجة : " الحرامي .. الحرامي .. " وهنا أمسك الخفير شاربه وأخذ يفتل فيه وهو يقول وقد حاول جاهدا إكساب صوته هيبة ووقارا : " متخافش مفيش حرامية ولا يحزنون .. انت جعان يا وله ؟ " فهز المجنون رأسه بشكل طفولي .

* * *

- المجنون ليس اسمه الحقيقي بالطبع وإنما هو اسم حركي أطلقه أهل البلدة عليه ، أو هي صفته وحالته التي صارت اسما له التصق به فكان بديلا عن اسمه الحقيقي ، أما ذلك الاسم الحقيقي فلم يعد أحد يذكره ولم يعد أحد يأبه بأن يذكره .. وأمثال هذا المسكين ترى في عيونهم عمقا من الطبيعة وسطحية من التفكير ، فالتفكير قد يؤدي بالإنسان إلى أمرين لا ثالث لهما .. إما الكفر أو الجنون .
- أما الأولى فلم يصل إليها ذلك الرجل ولكنه لحق بالفئة الثانية ، ترى في عيونهم المتسعة براءة طفل ليس في قلبه حقد ، فهم في عمقهم وسطحيتهم كالبحر .. ترسو في قيعانه حبات اللؤلؤ ولا يمنع ذلك من أن تسير على سطحه السفن ، يتصرف وينفعل كطفل .. طفل بجسد رجل فيورث في القلب شعورا بالعطف والشفقة والرحمة ويورث في قلوب بعض القساة السخرية والرغبة في الإيذاء وما أكثرهم في عالمنا هذا .
- المهم .. نعود إلى حادثة السرقة ففي الصباح الباكر تجمهر الفلاحون والناس جميعا حول المقبرة المكسورة وهم يلعنون ذلك الذي احترف كسر المقابر ويصفونه بأبشع الكلمات وأقذع الألفاظ ، وهنا انتهز شيخ البلدة الفرصة ليذكر الناس بالعقوبة الدنيوية وعقاب الآخرة لنابش القبور .. البعض ذهب إلى الرجل قد أصيب بلوثة عقلية فراح ينبش القبور وخاصة أن هذه ليست المرة الأولى التي تحدث في البلدة الوديعة الآمنة والبعض الآخر ذهب إلى أن هذا الرجل كافر يريد أن يعيث فسادا في الأرض ، قبض على الرجل وتم تسليمه للبوليس ، وفي قسم الشرطة بعد " علقة ساخنة " اعترف بذنبه ولكنه لاحظ أنهم لا يعرفون شيئا عن الطاقم الذهبي فلم يتحدث عنه وأعلن توبته أمام شيخ الجامع ، وتم ترحيله إلى المركز وبدأ الناس يتلهون في حياتهم العامة وينسون الأمر برمته إلى أن انتبه الناس ذات يوم على صراخ وشجار عند القبور فاجتمعوا ليشاهدوا ما يحدث فقد كان الخفير يمسك المجنون ويحاول تطويقه والمجنون يرغي ويزيد ويضرب الأرض بكلتا قدميه ويحاول أن يميل بجزعه الأمامي ليهرب من الخفير وسطه إلى أن حانت من الخفير غفلة فانفلت المجنون وركض نحو القبر الذي كان اللص قد نبشه مؤخرا وفرد قبضته عن الطاقم الذهبي ، وكان الناس قد تجمهروا حول المجنون وهو جاث بجوار المقبرة ويحاول إدخال يده في نفس الفتحة التي صنعها اللص وهم ما بين ضارب كف بكف ، ومحوقل ، وممصمص للشفاه ، وما أن أتم المجنون مهمته حتى رفع إليهم وجهه ووضع أصابعه في فمه وعلت وجهه ابتسامة طفولية ساذجة وقال لهم : أصله كان خد سنانه .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي