الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقائع لاتبغي التوثيق

تقي الوزان

2008 / 5 / 24
سيرة ذاتية


سلمان وحازم يتبادلان توجيه الاتهامات الينا , وسلمان كان اشد ضراوة , وبملئ فمه قال : اننا تركنا الآخرين لمصيرهم وهربنا . اشبه بالطعنة التي كادت ان تفقدني سيطرتي على نفسي , ولولا اللكزة التي دفعني بها صاحبي لمواصلة السير , وفيها ما يعني ان لاانجر وراء الاستفزاز , لكان ردي عليه قاسياً . لقد تجاوز الحدود , ولعجزه اخذ بالاتهام . كنا نسير بمحاذات الخط الطولي المواجه للجمهور في ساحة كرة القدم , ونتابع مباراة تميزت بنديتها الكبيرة بين فريقنا وفريق الخوي . وقضاء الخوي شمال بحيرة ارومية ( الرضائية ) , في الشمال الغربي لايران وبجانب الحدود التركية . عرف المشرفون على الرياضة في الخوي بأن لدينا فريق جيد , وارادوا احتكاك فريقهم بفريق عراقي كان من بين لاعبيه لاعب من الدوري الممتاز , ويشرف على تدريبه ابوعليوي شقيق كابتن منتخب العراق هادي احمد .

كنا في " الاوردكَاه " , و"الاوردكَاه " في اللغة الفارسية تعني كمب لاجئين , واوردكَه الخوي تبعد حوالي عشرين كيلومتراً عن مدينة الخوي , في منطقة جرداء تسمى زارعان ولايوجد فيها نبتة واحدة . كان مجموعة من القاعات ( جملونات ) نقلونا اليها بعد عدة اشهر من السكن في خيم بجانب قرية زيوة الايرانية , ويقال انه كان سجن للسياسيين الايرانيين . كنا اكثر من مائة شيوعي نتوزع على عدة قاعات , وفي قاعات اخرى لاجئين عراقيين آخرين , والنسبة الاعم من الاكراد .

وصلنا ايران بعد ان دخلنا الى تركيا كلاجئين اثر عملية الانفال المشؤومة , كان تقديرنا ان وجودنا في ايران سيكون آمن من البقاء في تركيا , لان الاخيرة تمتلك علاقات جيدة مع نظام صدام , وسبق ان سلمته الذين اعتقلتهم من الشيوعيين وجرى اعدام بعضهم . طلبنا من الصليب الاحمر ان يساعدنا في الذهاب الى ايران , وتمت الموافقة من الايرانيين على قبولنا كلاجئين , كان معنا الكثير من العوائل الكردية , ولم يطلبوا منا سوى الالتزام بقوانينهم , نقلونا من نقطة الحدود - بعد ان صوروا استقبالنا من قبل احد المسؤولين القادمين من طهران - الى زيوة , وعرض الفلم في نفس اليوم في التلفزيون الايراني .

انتهت الحرب العراقية الايرانية ومليون جندي عراقي لم يفتح التسريح لهم الا بعد ( كونة ) اخرى , ويقصد بها الانفال . طيلة سنوات الحرب وصدام يمتلئ حقداً على قوات الانصار التي تمتعت بمناطق نفوذ واسعة , وهددت سلطانه داخل محافظات كردستان , ومنعت الحركة على مرتزقته الا لساعات محدودة في النهار . وبعكس كل مناطق العراق التي تمكنت فيها السلطة من فرض جبروتها , كانت في كردستان تتوسل قوات البيشمركة وتتحاشى استفزازها في أي شئ . كل هذا جعل من رغبته في الانفال ان تكون محرقة حقيقية , اراد بها الانتقام لجبروته المهان . كان الحقد قد اعماه , وطلب من عسكره وجحوشه من الاكراد وضع خطة لتطويق كردستان بدوائر لايفلت منها احد . وضع تحت تصرفهم كل الامكانات التسليحية التقليدية وغير التقليدية , وهدد المدن بنفس مصير حلبجة ان ابدت اية مقاومة او تعاون مع الانصار . وفي اسبوع واحد تمكن من تطويق كردستان . كانت النقاشات كثيرة , واستنزفت الوقت بين قيادات الاحزاب وقيادات الانصار , واثمرت اغلبها بالاتفاق على المقاومة . الا ان الفارق بين الطرفين والذي يقدر بمئات الاضعاف حول الاتفاقات الى مخاتلة مع قوات السلطة للحيلولة دون التطويق , والافلات من الابادة التي كلفت بها قوات السلطة بتعليمات لالبس فيها . عشرات القرى تركت من اهلها , وكل شئ كان في موضعه , حتى نيران المواقد لاتزال تشتعل , كان الرعب من الكيمياوي قد غلب الجميع , وحلبجة وشيخ وسان وزيوة لاتزال طريةامام انظارهم .

كانت احدى دوائر التطويق حول منطقة العبور الرئيسية على نهر الشين , والشين بمائه الاخضر يجري بين سلاسل الجبال العالية , وفي بعض مناطقه تصل حافته العمودية الى ارتفاع خمسين متراً . ومنطقة العبور " تلفرك " سلك مربوط بين الجانبين يحمل صندوقا توضع فيه الاشياء والاشخاص , ويجري سحبه الى الجهة الثانية , وهي سفح يكاد ان يكون شديد الانحدار . تركنا " التلفرك" لعبور العوائل والاطفال , ونزلنا الى الوادي ووجدنا" كلك " , عبر بعضنا عليه , وآخرين سباحة . مسؤول المفرزة مام خضر الذي تجاوز الخمسين , وكان قد ترك حصانه لاحدى الرفيقات التي انهكها المسير, عبر ويستحث الآخرين بحركة يده للاسراع بالعبور . كنا وسط النهر عندما سمعنا مام خضر يستعجلنا بالعبور , لم نفهم ماقاله , ولكننا سمعنا صوته . آزاد يسحب حبل " الكلك " اليه بسرعة , عرفنا منه ان الجبل طوق من الاعلى , انطلق مام خضر يهرول على فسحة ليست بالحادة , اشاع حماساً مجنوناً بين الانصار , الوقت قارب المغرب ولاتزال الرؤيا جيدة , الشباب يصعدون ركضاً . آزاد تعني في الكردية الحرية , اسمه الحقيقي ( لينين ) ابن احد الرفاق , لم يتجاوز العشرين , تركنا نتخبط على الجرف وانطلق راكضاً بعد ان استحثنا على الاسراع , كان الصعود في بعض المواقع قاسيا, لانعرف كيف وصلنا الى الموقع الذي يستدير منه الطريق حول القمة , عندما وصلنا كانت المعركة قد حسمت لصالح الانصار . وتبين , ان سرية عسكرية ومعهم قوة من الجحوش تمكنت من الوصول الى القرية التي تتحكم بطريق الانسحاب . سرعة التفاف الانصار , واطلاق النار من مسافة قريبة جداً , ومقتل اثنين منهم احدهم ضابط , افقدتهم السيطرة ولاذالآخرون بالفرار , وقد خدمهم الظلام . ومن حسن الحظ انهم كانوا متقدمين كثيراً على وحدتهم الاصلية . حصلنا على جهاز الارسال , وقطعتي سلاح , والشفرة التي سرعان ما فتحت , والتوجهات بشأن الخطة الرهيبة بابادة الجميع بعد غلق لطريق علينا , واجبار الجميع على التوجه الى الوادي مع مجرى الماء , ليكون الوادي اكبر قبر جماعي , واغلب الموجودين من النساء والاطفال والشيوخ . تفقدوا الرفاق , كان احدهم قد جرح في كتفه , وفقدت بندقية كلاشنكوف , واصلنا السير طيلة الليل , وفي صباح اليوم التالي كانت طائرات الهليكوبتر تمشط المنطقة , ولكنها لم تقترب كثيراً , كنا بين الغابات والاحراش , ومن الصعب رؤيتنا.

ليس المقصود الكتابة عن المآسي الرهيبة التي رافقت " الانفال " , ولاعن مئات القرى التي ترك فيها كل شئ , ولا عن البساتين والاغنام والدواجن وباقي الممتلكات , تركوها وهربوا الى المجزرة التي تنتظرهم , ولاعن المرءة التي خيرت باخذ احد توئميها , ولاعن الطفلة التي سلمت من المجزرة وكان عمرها ثمان سنوات عندما كانت نائمة وهرب اهلها , الى ان عثر عليها احد الرفاق الذين ظلوا متخفين في الاحراش بين فجوات الجيش والجحوش , وشربوا بولهم لعدة مرات , وتغذوا على الحشيش وما تدره الارض , الى ان وصلوا الينا بعد شهور, وهي الآن متزوجة وعندها طفلان وتسكن في اربيل . النحيل الوسيم مخلص وهو يحمل الصليب قريباً من قلبه , ابن اخت ابو عامل ( سليمان يوسف اسطيفان) الذي وافاه الاجل قبل ايام , وصل مع مفرزته الى الحدود بعد ستة اسابيع من وصولنا , وبعد ان عرف الطريق ومناطق انتشار الجحوش والجيش , عاد وحده لتسعة ايام ليسحب مفرزة في جبل كَاره كان قد انهكها الجوع والكمائن , وبعد اكثر من شهر عادوا وقد حفرت التجربة في وجوههم آثار ستبقى فترة طويلة . كنت فقط اريد ان اذكره بجزء بسيط من حجم المأساة , وحجم الحرمانات والمخاطر والبؤس الذي صان شرفنا , وحمانا من ليل الفاشية الاسود .

سلمان وحازم كانا يتهمان اكثر مما يناقشان . رغم ان سلمان يقول انه خريج جامعة , ولكن ماذا تركت لهم من لياقة حرب ثمان سنوات مع ايران ؟ وتحت ثقل آلة صدام الجهنمية التي تمنع التفكير وليس الحديث فقط . نماذج حقيقية لما اراده النظام ان يكونوا عليه , يسمعان اكثر مما يتحدثان , وفي حالة الالحاح عليهما في وصف الوضع في بغداد , يكرران ارتياح الناس بعد وقف القتال , وفرحهم بالانتصار على ايران . كانا يتناقشان كثيراً فيما بينهما , ويسكتان او يغيران الموضوع عند قدوم شخص آخر . كان حازم في الثلاثين من عمره , وهو اصغر من سلمان , كانت عيناه لاتستقر على شئ , ويتلفت باستمرار , كان يعكس حالة قلق مرضية . هربا من وحدتهما العسكرية في السليمانية , وعن طريق احد ( الجلاليين ) الذي يعرف المهربين في المنطقة , تم ايصالهم الى قضاء مريوان التابع الى كرمنشاه , ومنه جئ بهما الى اوردكَاه الخوي في ارومية . والطريق الذي يذكرناه ليس طريق خورمال او كرجال اللذين يستخدمان في الهروب الى مريوان , ربما عبر بنجوين ؟!
كانا يلحان للالتحاق بمقرات الحزب في كردستان , حازم ابن شهيد اعدم في 1963 , وسلمان شيوعي القي القبض عليه عام 1978 , واضطر لتوقيع تعهد يمتنع فيه عن العمل مع الشيوعيين , وهذا هو سبب ( حقده ) , كون المسؤولين تركوا الآخرين لمصيرهم وهربوا خارج العراق .

كنا في ( الاوردكَاه ) نعاني مرارة الهزيمة , ونحاول ان نستوعب ما جرى . فبعد ايقاف الحرب مع ايران كنا نظن ان العد التنازلي للنظام قد بدء , وعليه دفع حساب فاتورة الدم التي تحملها الشعب العراقي قبل كل شئ آخر . الا ان قيامه بهجوم الانفال الكاسح , وظهوره بمظهر المنتصر , تدفعنا لمراجعة مسيرتنا التي تعمدت بالدم منذ وصول البعث الى السلطة ولحد الآن . ومن الزاوية الاخرى , فقد بدء انهيار معسكر الدول الاشتراكية, وحققت نقابة التضامن انتصارها على الحزب الشيوعي البولوني وازاحته من السلطة , وسط عاصفة اعلامية غربية اخذت تقتلع الكثير من مفاهيم الرسوخ الاشتراكي . وبعد ايام فاز هافل برئاسة جيكوسلفاكية , قاذفاً بجبروت هيمنة الحزب الواحد الى خارج دائرة التاريخ .

كنا نحاول استيعاب مايجري . لملمنا انفسنا , وتشكلت منظمة حزبية منذ بداية وصولنا الى ايران , ولم نترك وجودنا يتآكل امام الخسارات . نظمنا حياتنا , اتصلنا بالمقرات في كردستان , بمنظمات الخارج , تنظيم رحلات الى طهران وباقي المدن الايرانية التي يتواجد فيها العراقيين , تنشيط حياتنا داخل الاوردكَاه , تنظيم بطولة لكرة القدم , كان الجمهور يأتي من الخوي لمشاهدة المباريات , نشرة اخبارية يومية واخرى رياضية يصدرها بعض الرفاق , دورات في اللغة الانكَليزية والروسية , ومحاضرات في الاقتصاد والاختصاصات الأخرى , والاكثر احتفالنا البسيط بعيد ميلاد الحزب . كل هذه الخسارات ؟ وكأن شئ لايهمكم ؟! سأل سلمان .

كانت نغمة صوته جلية في الغيرة والحقد , اكثر مما هو اعجاب واندهاش , وانتبه لهذه النغمة الكثير من الرفاق , ليس لهذا السؤال فقط , بل للكثير من تعليقات سلمان . واثير تساؤل : ايام انتعاش حركة الانصار كان الملتحقون قليلون , فكيف في ايام الكسيرة هذه ؟! ولماذا يلح سلمان على معرفة موقع المقرات في كردستان ؟! ولماذا يلح على الالتحاق ؟! اخذ بعض الرفاق يسألونهم اسئلة تفصيلية . اسكندر احد الرفاق الخدومين , لايعرف ان يرد طلب لاي انسان , من الاكراد الفيلية , وله اقرباء ومعارف في ايران , ويتكلم الفارسية بشكل جيد , وترجم لعشرات اللاجئين مع مسؤولي الاوردكَاه , سلمان وحازم يحتاجانه كثيراً ولا يعرفان انه شيوعي . لااعرف من استغل قلق حازم واخبره : بان اسكندر يعمل مع الامن الايراني , ولديهم معلومات بانكم مرسلون من قبل الامن العراقي . واسكندر يحاول ان ينقذك لان احد الرفاق صديق اسكندر ويعرف الشهيد والدك , فحاول ان تساعد اسكندر على انقاذك . وكان فعلا يوجد شهيد شيوعي بالاسم الذي ذكره كأسم لوالده .

لم يتوقع احد الانهيار السريع لحازم , ومن بعده سلمان الذي اكد بانه مرسل للالتحاق بمقرات الحزب الشيوعي وليست مهمته في ايران . وسأل اسكندر: ان كان هذا سيساعده في غظ الطرف عنه من قبل السلطات الايرانية ان جرى التحقيق معه , لما عرف من عداء بين الثورة الاسلامية والشيوعيين . كان هو وصاحبه مرسلين من امن بغداد , وحازم اسمه عباس وانتحل ايضاً اسم احد شهداء الحزب في 1963 كأسم لوالده لتسهيل تزكيته . اقترح احد الرفاق اخبار السلطات الايرانية , الا ان اغلب الموجودين رفضوا ذلك , بل وتم الاتفاق على عدم التداول في هذه المسألة خوفاً من وصولها لمسؤولي الاوردكَاه , ويستغلها من يتربص بنا ويتهمنا بالتعاون مع النظام الايراني . والمفارقة , ان الحظ العاثر لاسكندر دفع احد المحققين في الاوردكَاه للشك به نتيجة تمكنه من اللغة الفارسية , كونه من حزب تودة الايراني , وجاء مع الشيوعيين العراقيين . واودع السجن تحت التحقيق
( الايراني ) لعدة اشهر . اطلق سراحه بعد عذابات كادت ان تفقده حياته . وافاه الاجل قبل عدة سنوات في هولندا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: الكوفية الفلسطينية تتحول لرمز دولي للتضامن مع المدنيي


.. مراسلنا يكشف تفاصيل المرحلة الرابعة من تصعيد الحوثيين ضد الس




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. برز ما ورد في الصحف والمواقع العالمية بشأن الحرب الإسرائيلية




.. غارات إسرائيلية على حي الجنينة في مدينة رفح