الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحاج عبيّس والأشتراكية...

كريم جاسم الشريفي

2008 / 6 / 6
سيرة ذاتية


كان الجلاد عندما يُناديني أمام السجناء يناديني بأسم جدي متندرا ًمني للنقيصة بغرابة الأسم .وأنا أعتبر ذلك فخراً وزهواً وعزةً،لأنني أعرف القابلة التي ولِدتُ بين يديها ، واسم والدي مثبت بسجل النفوس . بينها هؤلاء الجلادة لا أحد يعرف تأريخ ميلادهم ولا يعرفون آباءهم . انهم ولدوا على الأرصفة القذرة في حلكة الظلام ، وقرب براميل القمامة حتى بزغ الفجر أخذ أصحاب المروءة تلك الأجنة الى دور الأيتام .. وينة (ابن إعبيس) بفتح العين تصغيراً .. لكنه لايعرف سروري وغبطتي بهذه ـ الكنية ـ أولاً: لفرادة الأسم من أصل 600 سجين سياسي تقريباً لايوجد اسم عبيّس. وثانياً :يذكرني بمعلم الموسيقى الرائع في المدرسة الأبتدائية ..كان يأتينا المعلم المسيحي (استاذ إليا) يناديني بنفس الأسم .. لكن استاذ الموسيقى معذور لانه (يلكن) الأسم بسبب عجمته الجميلة ، ونوتاته العذبة التي تختلف عن نعيق الجلاد. ثم أتذكر طفولتي وأصدقاء الطفولة الذين غادروا الحياة بعد استدعاء أمني لجلادة البعث.. فقط خمسة دقائق وترجع .. بعدها فلاح ، وعماد لم يرى المدينة ولا أسوارها الحزينة. لاأعتقد الحاج عبيّس كان يفقة صراع الأضداد ،ولا قوانين نفي النفي، ولا التحولات الكمية الى كيفية..ولا أعتقد انه قد قرأ المادية التأريخية ،ولا الأقتصاد السياسي . ولا أي مؤلف من مؤلفات هيجل ، فيورباخ ،ولا كارل ماركس أوانجلس او بليخانوف، أو لينين.. لكن كان يتصرف وكأنه حفيد لأبي ذر الغفاري، و عمار ابن ياسر لما يمتازون به هؤلاء الصحابة من العدل والزهد والأنصاف. كان الحاج عبيّس ثورياً زاهداً ، وناسكاً، ومنصفاً بالفطرة التي تخلو من لثغة الدين السياسي المنافق. كان ميسور الحال بالقياس الى مجتمعه. عمل بأصرار وبكد وبجّد وعزيمة وتفاني الى أن جمع ثروة متواضعة من الرزق الحلال .بعد أن سلبوه أولاد عمومته الأرث من الأرض الى الشجر والثروة من المال الى (الحلال) الماشية.سمعت
أحدهم يقول ان جده ترك لهم صرتين واحدة من الليرات المجيدية وآخرى الليرات الرشادية التي كان يحتفظ بها في
الجدران الطينية في محل سكناهم. تجنب المواجهة مع أولاد العم واحتفظ بمساقة معهم الى ان كبرت هذه المسافة وتباعد عنهم بسبب عقوقهم وغدرهم .اتخذ شعار العصاميين نبراساً لبناء نفسه وشعاره يقول (الفتى من قال ها أنذا) . كان مضيفه عامراً ، الضيف يجد القهوة في أي ساعة يحل معززاً مكرماً ، وحاجة القادم مُنجزة بلا سؤال ،والسائل مقضّية بلا استفسار حتماً. شجاع لايخشى لومة لائم ، لايقيم وزناً الى من لاوزن له كائناً من يكون من السواد أو من عليّة القوم.. لكن يثيره منظر المرابي والأقطاعي المغتصب لحقوق وممتلكات الآخرين من الأراضي السيد ( قاسم الجلبي) الذي يدعي انه ورث أراضي قضاء الهاشمية في محافظة بابل ونواحيها من والده الذي كان يعمل سركالاً لأحد الولاة العثمانيين ، وقلمدار الباشا التركي في بابل الذي كان يوزع الأراضي على هؤلاء الخدم والحاشية وكأنها أراضي ملكاً للأنكشاريين .. فتتم المصاهرة وخلط الدماء من البنات المِلاح للسراكيل والقلمدارية مقابل الهبات الشاسعة من الأراضي التي يحصلون عليها من أسيادهم.. بالهاشمية وحدها كان يملك الجلبي 60% من الأراضي ويساوم أصحابها بالبيع ليرجعها لهم لأنه يعرف هذه ليس أرضه، لذلك لم يكن محبوباً. رأيته في أحد الأيام ، وكنت صبياً أتبع أثر جدي الى ـ حضيرة التمور ـ التي يمتلكها قائلاً لهذا المرابي الذي لايشبع من المال الحرام حسب وصفه لانه مُغتصب، عندما صادفه بالطريق .. كم مرة نصحتك بالأبتعاد عن الطريق الذي اسير به؟ ان مجرد رؤية هذا الأخطبوط يثير عقيرته وحفيظته بالحال ويتعكر مزاج حجي عبيّس.ـ بعد ثلاثين عام عرفت ان الجلبي باع الأراضي التي للحاج حصةً بها الى أبناء عمومته بطريقة التزوير من الطرفين وفي الخفاء البائع وهو الجلبي والمشتري أبناء عمومة الحاج ـ بعد هذا التهديد بدأ قاسم يتوسط عند صديق الحاج عبيّس وهو البزاز الوحيد بالقضاء . عندها كفّ الحاج عن هذا المرابي وبدأت تنهار مملكته المالية بتغيير الوضع السياسي والأجتماعي.موسم قطف ثمار النخل (الكصاص) يبدأ في نهاية الشهر الثامن وبداية التاسع .تبدأ موسم هجرة الجمال محملةً بالتمور من أطراف قضاء الهاشمية والنواحي المحيطة بها الى حضيرة تمور الحاج.. هنا يتجسد عدل الحاج ،لا يغبط حق أحداً ،ولايبخس الآخرين حقوقهم، كان ينفق على المحتاجين من ذوي القربى .أتذكر مساوات الحاج واشتراكيته التي لاتميز بها بين أحد وأخر مهما كانت درجة صلة الرحم والدم .. ننتظر يوم العيد بفارغ اللهفة والصبر. حتى نتجمع بالصف لنأخد العيدية وهو مبلغ من المال .. كان عدد كبير بالدور .لمحني عندما خرقت الدور تسمرت أمامة على أعتبار انا حفيده الأكبر للأولاده .. نهرني بقسوة ، وأنبّني أمام اللآخرين وعنفني على هذا السلوك قائلاً ( اريدك نمونة) ترجع وتقف بالدور..كان مؤمناً بالعدالة وتطبيقها ، والقسط وإحقاقه، كان فيصلاً بقضاءه ،يتجنب القسمة الضيزى..يساعد الآخرين من المحتاجين والمعدمين بالمتوفر من الأكل والمتاع والمال. يكره الجور والظلم. تجسدت اشتراكية الحاج عبيّس بأبها صورها عندما جاء من الحج.جلب من الهدايا للأهل والجيران والأقرباء ووزعها بالعدل لايفرق .. والمرة الثانية عندما ذهب بلاد فارس لزيارة الأمام الرضا. جلب لنا هدايا وأتذكر وزع على الجيران أشكال مخروطية الشكل مغلفة تغليفاً جميلاً باللون الأزرق ، وكانت هذه المخاريط تحتوي على ( القند) نوع من الشكر يسمى بالفارسي ـ دشلمة ـ بالتساوي. كان له عادات تختلف عن الآخرين ، أولها الدقة في تناول الأكل والشرب والذهاب الى النوم. كان يحرص على الوقت يشكل مذهل .. وكان يتبّع عادة آخرى حريص على ممارستها حتى اصبحت جزء من تقليد العائلة حتى بعد وفاته، هي الساعة الرابعة والنصف عصراً يجلس ثم نلتف حوله لتأدية هذا الطقس صيفاً وشتاءاً يجلس بفئ نخلتين متجاورتين على شكل دائري نتناول الشاي والحلوى وهي في الأغلب من الكعك أو الكيك. لايقُرّب أحداً منه ، ولايحب الميوعة ، ولا المداهنة ولا يريد احدنا أن يظهر أمامه بهذه الصفات. كان يعطف علي لكن بحدود ، ويحرص على أن أكون معه .. يردد علي دائماً .. أريدك مثل الشبوط ، ولا تصير( جهجاه). كنت أعرف ماذا يقصد بالشبوط ، يريدني أن أكون بارع ونشط .. هذا الذي فهمته وقتها.. لكن كان يقصد في ذلك شيئ آخر .. سمك الشبوط كثير الذكور ،ويعيش بالماء العذب ويطلب الأعذب، ويصعب صيده لانه كثير الزوغان من المكاره، ويسبح برشاقة وتحدي ضد تيار الماء..لذلك كان يقصد هذه الطباع .. حققت له هذا الوصف بكثرة السجون وقلة المجون ، والسباحة ضد تيار الماء.. أما الجهجاه كان يقصده بهذه الكلمة أن لاأنصر الباطل واُدافع عنه .رحم الله هذا الرجل الذي أرضّعنا رضعاً حب الخير والغير والوقوف بجانب الضعيف والمظلوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن|فيديوهات مرعبة! هل انتقلت البلاد إل


.. مصابون في قصف من مسيّرة إسرائيلية غرب رفح




.. سحب لقاح أسترازينكا من جميع أنحاء العالم.. والشركة تبرر: الأ


.. اللجنة الدولية للصليب الأحمر: اجتياح رفح سيؤدي لنتائج كارثية




.. نائبة جمهورية تسعى للإطاحة برئيس -النواب الأميركي-.. وديمقرا